القسم الثاني القول في اجتناب المعاصي
اعلم أن الدين شطران : أحدهما ترك المناهي ، والآخر فعل الطاعات. وترك المناهي هو الأشد ، فإن الطاعات يقدر عليها كل أحد ، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون ، فلذلك قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «المهاجر من هجر السّوء والمجاهد من جاهد هواه» واعلم أنك إنما تعصي الله بجوارحك ، وهي نعمة من الله عليك وأمانة لديك ، فاستعانتك بنعمة الله على معصيته غاية الكفران. وخيانتك في أمانة استودعكها الله غاية الطغيان. فأعضاؤك رعاياك فانظر كيف ترعاها ، فكلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته. واعلم أن جميع أعضائك ستشهد عليك في عرصات القيامة بلسان طلق ذلق ، أي فصيح ، تفضحك به على رءوس الخلائق ؛ قال الله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] وقال الله تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يس : ٦٥].
فاحفظ يا مسكين جميع بدنك من المعاصي ، وخصوصا أعضاءك السبعة ، فإن جهنم لها سبعة أبواب لكل منهم جزء مقسوم. ولا يتعين لتلك الأبواب إلا من عصى الله تعالى بهذه الأعضاء السبعة وهي : العين ، والأذن ، واللسان ، والبطن ، والفرج ، واليد ، والرجل.
أما العين فإنما خلقت لتهتدي بها في الظلمات ، وتستعين بها في الحاجات ، وتنظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسماوات ، وتعتبر بما فيها من الآيات ؛ فاحفظها عن أربع : أن تنظر بها إلى غير محرم ، أو إلى صورة مليحة بشهوة نفس ، أو تنظر بها إلى مسلم بعين الاحتقار ، أو تطلع بها على عيب مسلم.
وأما الأذن ، فاحفظها عن أن تصغي بها إلى البدعة ، أو الغيبة ، أو الفحش ، أو الخوف في الباطل ، أو ذكر مساوىء الناس ؛ فإنما خلقت لك لتسمع بها كلام الله تعالى ، وسنة رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، وحكمة أوليائه ، وتتوصل باستفادة العلم بها إلى الملك المقيم والنعيم الدائم في جوار رب العالمين. فإذا أصغيت بها إلى شيء من المكاره ، صار ما كان عليك ، وانقلب ما كان سبب فوزك سبب هلاكك ، وهذا غاية الخسران. ولا تظن أن الإثم يختص به القائل دون المستمع ، ففي الخبر أن المستمع شريك القائل وهو أحد المغتابين.
وأما اللسان ، فإنما خلق لتكثر به ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه ، وترشد به خلق الله تعالى إلى طريقه ، وتظهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك ، فإذا استعملته في غير ما خلق له فقد كفرت نعمة الله تعالى فيه. وهو أغلب أعضائك عليه وعلى سائر الخلق ، ولا يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلى حصائد ألسنتهم ؛ فاستظهر عليه بغاية قوتك حتى لا يكبك في قعر جهنم ، ففي الخبر : «إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة ليضحك بها أصحابه فيهوي بها في قعر جهنم سبعين خريفا». وروي أنه قتل شهيد في المعركة على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال قائل : هنيئا له بالجنة فقال صلىاللهعليهوسلم : " وما يدريك؟ لعلّه كان يتكلّم فيما لا يعنيه ، ويبخل بما لا يغنيه».
فاحفظ لسانك من ثمانية :