الحجب فيريهم نور ذاته تعالى وصفاته عزوجل من وراء الحجاب ليعرفوه تعالى ، ولا يرفع الحجب بالكلية لكيلا يحترق الرائي. قال بعضهم بلسان الحال :
ولو أني ظهرت بلا حجاب |
|
ليتّمت الخلائق أجمعينا |
ولكنّ الحجاب لطيف معنى |
|
به تحيا قلوب العاشقينا |
اعلم : أن تجلي العظمة يوجب الخوف والهيبة ، وتجلي الحسن والجمال يوجب العشق ، وتجلي الصفات يوجب المحبة ، وتجلي الذات يوجب التوحيد قال بعض العارفين : والله ما نال رجل الدنيا إلا أعمى الله قلبه وبطل عليه عمله إن الله تعالى خلق الدنيا مظلمة ، وجعل الشمس فيها ضياء ، وجعل القلوب مظلمة ، وجعل المعرفة فيها ضياء ، فإذا جاءه السحاب ذهب نور الشمس ، فكذلك يجيء حب الدنيا فيذهب بنور المعرفة من القلب. وقيل : حقيقة المعرفة نور يطرح في قلب المؤمن وليس في الخزانة شيء أعز من المعرفة. وقال بعضهم : إن شمس قلب العارف أضوأ وأشرق من شمس النهار ، لأن شمس النهار قد تكسف وشمس القلوب لا كسوف لها وشمس النهار تغرب بالليل دون شمس القلوب ، وأنشدوا في ذلك :
إنّ شمس النّهار تغرب ليلا |
|
غير شمس القلوب ليس تغيب |
من أحبّ الحبيب طار إليه |
|
اشتياقا إلى لقاء الحبيب |
قال ذو النون : حقيقة المعرفة اطلاع الحق على الأسرار بمواصلة لطائف الأنوار ، وأنشدوا فيه :
للعارفين قلوب يعرفون بها |
|
نور الإله بسر السر في الحجب |
صمّ عن الخلق عمي عن مناظرهم |
|
بكم عن النّطق في دعواه بالكذب |
وسئل بعضهم : متى يعرف العبد أنه على تحقيق المعرفة؟ فقال : إذا لم يجد في قلبه مكانا لغير ربه ، وقال بعضهم : حقيقة المعرفة مشاهدة الحق بلا واسطة ولا كيف ولا شبهة ، كما سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقيل : يا أمير المؤمنين أتعبد من ترى أو من لا ترى؟ فقال : لا بل أعبد من أرى لا رؤية العيان ، ولكن رؤية القلب. وقيل لجعفر الصادق رضي الله عنه : هل رأيت الله عزوجل؟ قال : لم أكن لأعبد ربا لم أره. قيل : وكيف رأيته وهو الذي لا تدركه الأبصار؟ قال : لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ، ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان ، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس.
وسئل بعض العارفين عن حقيقة المعرفة. فقال : تخلية السر عن كل إرادة وترك ما عليه العادة وسكون القلب إلى الله تعالى بلا علاقة وترك الالتفات منه الى ما سواه ، ولا يمكن معرفة كنه ذاته ولا معرفة كنه صفاته عزوجل ، ولا يعرف من هو إلا هو تبارك وتعالى والمجد لله وحده.
فصل وأما البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة
فهي أسماء مترادفة على معنى واحد ، وإنما تحصل التفرقة في كمال الوضوح لا في أصله ، فمنزلة البصيرة من العقل منزلة نور العين من العين ، والمعرفة من البصيرة منزلة قرص الشمس