فصل في القضاء
القضاء يطلق تارة يراد به الأمر المبرم نحو قوله تعالى : (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [غافر : ٦٨] وتارة يراد به الإعلام بوجوب الحكم الواجب لله كقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣]. إذ لو كان هذا من القضاء المبرم لما عبد غيره تعالى إذ يستحيل تخلف الأثر عن مؤثره ، وكذا قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٧]. والمراد به الإعلام اذ لو كان قضاء وحكما مبرما لعبده الكل فنشأ الخلاف لعدم الفرقان.
فصل
اعلم : أن الله تعالى قضى فيما قضاه أزلا أن بعض الأمور يكون منوطا بالعبد موقوفا عليه في أفعاله وأقواله ما قضاه فقد أمضاه فلا يجوز تغيره ولا يقال : إن الله تعالى يغير ما قضاه لأنه تعالى لا يعارض نفسه فيما قضاه ، إذا لم يكن عبثا ولا تبعا للشهوات تعالى عن ذلك ، وإنما قضى بمقتضى الحكمة وما صدر عن الحكمة فلا مغير له ، فما قضاه منوطا بفعل العبد ، فكالحرث والنسل ، وما قضاه موقوفا على فعل العبد فكالدعاء والاستغفار.
واعلم : أن الله تعالى أثبت فعل العبد في مواضع نحو قوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة : ٢٤] وقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ومحاه في مواضع أخر نحو قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] والحكمة فيه أنه تعالى خالق الأفعال ومقدرها والعبد كاسبها ومسببها ، فالعبد يعمل العبادة والله تعالى يجازي عليها ولو لا نسبة هذه الأفعال خلقا وكسبا لما سمي عابدا ومعبودا ، فثبت أن العبد عابد كاسب وأن الله تعالى معبود خالق ، واعلم أن الأفعال قسمان :
أحدهما : قوله ما يقع من العبد وهو الكسب المنسوب اليه ولهذا أنزلت الكتب وأرسلت الرسل وثبتت الحاجة الى العقول لتقوم بها الحجة وتتضح بها المحجة.
الثاني : ما يقع على العبد جزاء وهو ما بيد الله تعالى ويد العبد ، وكلاهما لا يكون إلا بما كسبت يد العبد لقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] وما ناسب هذه الآية ، فمن فهم هذه الجملة أمكنه أن يفقه المراد من كلام الله تعالى فيما هو المضاف الى العباد ، ومثال ذلك : قطع الجلاد يد السارق. يصح أن يقال : القاطع هو الجلاد لأنه كاسب ، ويصح أن يقال : إن الله تعالى هو القاطع بيد الجلاد لأنه تعالى هو المجازي للمقطوع لما بدا منه ، ويصح أن يقال : إن السارق هو القاطع ليده لأنه هو المبتدئ لما جناه فلا يقع عليه إلا ببعض ما كسبت يداه ، فيكون الفعل الواجد من الرب تعالى جزاء من المقطوع ابتداء ومن القاطع كسبا ولا يناقض أحد أحدا وأدلته واضحة في الكتاب ، ومن فهم هذه الجملة حق فهمها لم يخف إلا من نفسه ولم يرج الا رحمة الله سبحانه وتعالى. قال : أين عبد الله كلنا في