الآباد في عمر الآخرة الأبدي. فكيف في العمر القصير الدنيوي؟ والله أعلم.
الباب الخامس
في بيان معنى التوحيد والمعرفة ويضاف اليهما البصيرة
والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة والحياة واليقين والإلهام
والفراسة لأنها من مواريثهما
أما التوحيد : فهو إفراد القدم عن الحدوث والإعراض عن الحادث والإقبال على القديم حتى لا يشهد نفسه فضلا عن غيره ، لأنه لو شاهد نفسه في حال توحيد الحق تعالى أو غيره لكان مثنيا لا موحدا ذاته القديمة بوصف الوحدانية موصوفة وبنعت الفردانية منعوتة ، وصفات المحدثات من المشاكلة والمماثلة والاتصال والانفصال والمقارنة والمجاورة والمخالطة والحلول والخروج والدخول والتغيير والزوال والتبدل والانتقال من قدس ذاته ونزاهة صفاته مسلوبة ، ولا ينسب نقصان الى كمال جماله وكمال جمال أحديته مبرأ عن وصمة ملاحظة الأفكار ، وجلال صمديته معرى عن مزاحمة ملابسة الأذكار ، ضاقت عبارات المبارزين في ميدان الفصاحة عن وصف كبريائه ، وعجز بيان السابقين في عرصة المعرفة عن تعريف ذاته تعالى ، وتعالى إدراكه عن مناولة الحواس ومحاولة القياس ، وليس لأصحاب البصائر في أشعة أنوار عظمته سبيل التعامي والتغاشي. إن قلت : أين؟ فالمكان خلقه ، وإن قلت : متى؟ فالزمان إيجاده ، وإن قلت : كيف؟ فالمشابهة والكيف مفعوله ، وإن قلت : كم؟ فالمقدار والكمية مجعوله ، الأزل والأبد مندرج تحت إحاطته ، والكون والمكان منطو في بساطه كل ما يسع في العقل والفهم والحواس والقياس ذات الله تعالى مقدسة عنه. اذ كل ذلك محدث والمحدث لا يدرك إلا المحدث دليل وجوده ، وبرهان شهوده الإدراك في هذا المقام عجز. والعجز عن درك الإدراك إدراك. لا يصل بكنه الواحد إلا الواحد ، وكل ما انتهى إدراك الموحد اليه فهو غاية إدراكه لا غاية الواحد تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وكل من ادعى أن معرفة الواحد منحصرة في معرفته فهو بالحقيقة ممكور ومغرور. وقوله تعالى : (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [الحديد : ١٤] إشارة الى هذا الغرور.
فصل في التوحيد
والتوحيد في البداية نفي التفرقة والوقوف على الجمع. وأما في النهاية فيمكن أن يكون الموحد حال التفرقة مستغرقا في عين الجمع وفي عين الجمع بعين الجمع ناظرا الى التفرقة بحيث كل واحد من الجمع والتفرقة لا يمنع من الآخر. وهذا هو كمال التوحيد وذلك أن يصير حال التوحيد وصفا لازما لذات الموحد ، وتتلاشى وتضمحل ظلمة رسوم وجوده في غلبة إشراق أنوار توحيده ، ونور علم توحيده يستتر ويندرج في نور حاله على مثال اندراج الكواكب في نور الشمس ، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بإسفاره أضواء نور الكواكب. وفي هذا المقام يستغرق وجود الموحد في مشاهدة جمال الواحد في عين الجمع بحيث لا يشاهد غير ذات الواحد تعالى وغير صفاته عزوجل واستلبه أمواج بحر التوحيد وغرق في عين الجمع من هنا.