فلما طلعت الشّمس دنوت ، فكنت إذا رأيت رجلا ذا رواء وذا قشر (١) طمح إليه بصري لأرى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فوق النّاس ، فلما ارتفعت الشّمس جاء رجل ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فقال : «وعليك السّلام ورحمة الله» ، وعليه أسمال مليّتين (٢) قد كانتا مزعفرتين ، وقد نقضتا ، وبيده عسيب نخلة قفر غير خوصتين من أعلاه وهو قاعد القرفصاء ، فلما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق ، فقال لي جليسه : يا رسول الله ، أرعدت المسكينة ، فقال بيده ولم ينظر إليّ وأنا عند ظهره : «يا مسكينة ، عليك السّكينة» ، فلما قالها أذهب الله ما كان في قلبي من الرّعب ، وتقدم صاحبي فبايعه على الإسلام وعلى قومه ، ثم قال : يا رسول الله ، اكتب بيننا وبين بني تميم بالدّهناء لا يجاوزها إلينا إلا مسافر أو مجاوز.
فقال : «أكتب له يا غلام بالدّهناء» ، فلما رأيته قد أمر له بها شخص (٣) بي ، وهي وطني وداري ، فقلت : يا رسول الله ، إنه لم يسألك السّويّة من الأرض إذ سألك ، إنما هي الدّهناء مقيد الجمل (٤) ، ومرعى الغنم ، ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك.
فقال : «أمسك يا غلام ، صدقت المسكينة ، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشّجر ، ويتعاونان على الفتّان (٥)» (٦) ، فلما رأى حريث أنه قد حيل دون كتابه ضرب بيديه إحداهما على الأخرى ، ثم قال : كنت أنا وأنت كما قال : حفتها ضائن تحمل بأظلافها (٧).
فقلت : أنا والله ما علمت إن كنت لدليلا في الظلماء ، جوادا أبدى الرجل عفيفا عن
__________________
(١) القشر : اللباس. النهاية ٤ / ٦٤.
(٢) مليّتين : تصغير ملاءة مثناة مخففة الهمز والملاءة هي الإزار والرّيطة. النهاية ٤ / ٣٥٢.
(٣) يقال للرّجل إذا أتاه ما يقلقه : قد شخص به كأنه رفع من الأرض لقلقه وانزعاجه. النهاية ٢ / ٤٥٠.
(٤) أرادت أنها مخصبة ممرعة ، فالجمل لا يتعدى مرتعه ، والمقيد هاهنا : الموضع الذي يقيد فيه : أي أنه مكان يكون الجمل فيه ذا قيد. النهاية ٤ / ١٣٠.
(٥) الفتّان : يروى بضم الفاء وفتحها ، فالضم جمع فاتن أي يعاون أحدهما الآخر على الذين يضلّون الناس عن الحق ويفتنونهم ، وبالفتح هو الشيطان ، لأنه يفتن الناس عن الدّين ، وفتّان : من أبنية المبالغة في الفتنة. النهاية ٣ / ٤١٠.
(٦) أخرجه أبو داود في السنن.
وأورده المتقي الهندي في كنز العمال حديث رقم ٧٤٦ وعزاه لأبي داود عن صفية ودحيبة.
(٧) هذا مثل ، وأصله أن رجلا كان جائعا بالبلد القفر فوجد شاة ولم يكن معه ما يذبحها به ، فبحثت الشاة على الأرض فظهر فيها مدية فذبحها بها فصار مثلا لكل من أعان على نفسه بسوء تدبيره. النهاية ١ / ٣٣٨ ، وانظر جمهرة الأمثال ١ / ٢٩٣.