سلمنا ظهور المعجزات على يده : ولكن لا نسلم التحدي (١) ، وما ذكرتموه من الآيات ، فلا نسلم أنه قصد بها التّحدى ؛ فإنّه يحتمل أنه قصد بذلك ما جرت العادة من البلغاء من الخطباء والشعراء ، من تعظيم أقوالهم ، وتفخيمها ، والتعلى ، والترفع بما يقولونه ، وينتحلونه ، ومع قيام هذا الاحتمال ؛ فقد انتفى القطع بالتّحدى.
سلمنا أنّه تحدّى. ولكنّه تحدّى بكل القرآن ، أو بعضه.
إن قلتم إنه تحدى بكل القرآن لقوله ـ تعالى ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢) [فلا حاجة فيه ؛ لأنه خصّص التحدى باجتماع الإنس ، والجنّ. واتخاذ بعضهم لبعض ظهيرا] (٣). ويلزم من ذلك أن لا يتحقق وجه التّحدّى والتعجيز ، إلا بتقدير اجتماع الثّقلين ، وتماليهما على محاولة المعارضة ؛ ولم يتحقق ذلك.
وإن قلتم : إنه تحدّى ببعض القرآن ؛ فقد وقع الاتفاق على أنّ الإعجاز لا يقع بما دون الآية منه. وما زاد على ذلك فالآيات فيه مختلفة.
فمنها ما يدل على التّحدّى بعشر سور.
ومنها ما يدل على التّحدّى بسورة واحدة.
فإن قلتم : إن التّحدّى بسورة واحدة : فإمّا أن تكون معيّنة أو غير معيّنة. القول بالتّعيين غير معلوم من القرآن ، ولا من غيره ؛ بل هو ترك لظاهر لفظ السّورة.
كيف وأنه يلزم أن لا يكون باقى القرآن معجزا ولم تقولوا به.
وإن كانت غير معينة ؛ بل التحدي بأىّ سورة كانت منه حتى أنه يدخل فيها سورة الكوثر. فكل عاقل يعلم علما ضروريا أن سورة الكوثر لم تبلغ مبلغا يتيقن فيه عجز بلغاء العرب عن الإتيان بمثلها ، وعلى هذا التفصيل يكون الكلام فى العشر سور (٤).
__________________
(١) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة فقال : «شهرة تحديه معلوم بالضرورية فى الآيات المذكورة مع دعوى الرسالة ، ودعاء الناس إلى الإجابة والتصديق له فيما يدعيه حتى أن منهم من سارع إلى تصديقه والدخول فى ملته ... ولا كذلك ما ذكروه من أحوال المدعين ، ومن قصده التعظيم ، والترفع بما أنشأه وأبدعه» (ل ١٦٤ / ب.
(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.
(٣) ساقط من (أ).
(٤) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة ل ١٦٤ / ب.
«نحن ننزل الكلام على كل واحد من القسمين ، فتارة نقول : إن التحدى بكل القرآن لا بمعنى أن بعضه ليس متحدى به كما ذهب إليه المعتزلة ؛ إذ هو من أعم الآيات الدالة على التحدى بعشر سور ، وبسورة واحدة ؛ بل بمعنى أن التحدى وقع تارة بكل القرآن ، وتارة ببعضه ... إلخ».