موقفين : موقف الشيطان كيف تخلص من المشركين وقت اشتداد المحنة ، وموقف المنافقين الذين سخروا من المؤمنين لتهورهم ، قائلين : غرّ هؤلاء دينهم.
التفسير والبيان :
اذكر أيها الرسول حين زين الشيطان للمشركين أعمالهم بوسوسته ، وأوهمهم أنهم لا يغلبون أبدا لكثرة عَددهم وعُددهم ، وأن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم ، وأزال مخاوفهم من إتيان عدوهم بني بكر في ديارهم ، وقال : (إِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي مجير لكم من بني كنانة ، وذلك أنه تبدي لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج كبير تلك الناحية. والجار : المدافع عن صاحبه ، والذائد عنه أنواع الضرر ، كما يدفع الجار عن جاره. وكل ذلك من الشيطان كما قال تعالى عنه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء ٤ / ١٢٠].
فلما تلاقى الفريقان المتقاتلان نكص الشيطان على عقبيه ، أي تراجع مدبرا ، وولّى هاربا ، وتبرأ منهم ، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله ، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الملائكة للمسلمين ، وأظهر أنه يخاف الله ، والله شديد العقاب في الدنيا والآخرة. وكان خوفه من الملائكة حتى لا تحرق جنوده. وهكذا كان جند الشيطان في مبدأ الأمر مع المشركين يوسوسون لهم ويضللونهم ، وكان الملائكة جند الرحمن مع المؤمنين يثبّتون قلوبهم ويؤيدونهم ويعدونهم بنصر الله تعالى. وقوله : (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يجوز أن يكون من كلام إبليس ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله : (أَخافُ اللهَ) ثم قال تعالى ذاك.
أما السبب في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة ، فلإظهار المعجزة العظيمة للرسول عليه الصلاة والسّلام ؛ لأن كفار قريش ، لما رجعوا إلى مكة ، قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة ، فقال : والله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغتني