أدلة عموم الطوفان غير قطعية فإن مستندات الذين أنكروه غير ناهضة فلا تترك ظواهر الأخبار لأجلها.
وزاد الله في عداد كرامة نوح عليهالسلام قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ، فتلك نعمة خامسة.
والترك : حقيقته تخليف شيء والتخلي عنه. وهو هنا مراد به الدوام على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة ، لأن شأن النعم في الدنيا أنها متاع زائل بعد ، طال مكثها أو قصر ، فكأنّ زوالها استرجاع من معطيها كما جاء في الحديث : «لله ما أخذ وله ما أعطى» فشرف الله نوحا بأن أبقى نعمه عليه في أمم بعده.
وظاهر (الْآخِرِينَ) أنها باقية في جميع الأمم إلى انقضاء العالم ، وقرينة المجاز تعليق (عَلَيْهِ) ب (تَرَكْنا) لأنه يناسب الإبقاء ، يقال : أبقى على كذا ، أي حافظ عليه ليبقى ولا يندثر ، وعلى هذا لا يكون ل (تَرَكْنا) مفعول ، وبعضهم قدّر له مفعولا يدل عليه المقام ، أي تركنا ثناء عليه ، فيجوز أن يراد بهذا الإبقاء تعميره ألف سنة ، فهو إبقاء أقصى ما يمكن إبقاء الحيّ إليه فوق ما هو متعارف. ويجوز أن يراد بقاء حسن ذكره بين الأمم كما قال إبراهيم : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤] فكان نوح مذكورا بمحامد الخصال حتى قيل : لا تجهل أمة من أمم الأرض نوحا وفضله وتمجيده وإن اختلفت الأسماء التي يسمونه بها باختلاف لغاتهم. فجاء في «سفر التكوين» الإصحاح التاسع : كان نوح رجلا بارّا كاملا في أجياله وسار نوح مع الله. وورد ذكره قبل الإسلام في قول النابغة :
فألفيت الأمانة لم تخنها |
|
كذلك كان نوح لا يخون |
وذكره لبني إسرائيل في معرض الاقتداء به في قوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء : ٣].
وذكر ابن خلدون : أن بعضهم يزعم أن نوحا هو (أفريدون) ملك بلاد الفرس ، وبعضهم يزعم أن نوحا هو (أوشهنك) ملك الفرس الذي كان بعد (كيومرث) بمائتي سنة وهو يوافق أن نوحا كان بعد آدم وهو كيومرث بمائتي سنة حسب كتب الإسرائيليين. على أن كيومرث يقال : إنه آدم كما تقدم في سورة البقرة.
ومتعلق (عَلَيْهِ) من قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) لم يحم أحد من المفسرين حوله فيما