وتقدم نظير هذه الآية في قوله : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) في سورة الأنبياء [٨٤]. وما بين الآيتين من تغيير يسير هو مجرد تفنّن في التعبير لا يقتضي تفاوتا في البلاغة. وأما ما بينهما من مخالفة في قوله هنا : (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) وقوله في سورة الأنبياء (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) ، فأما قوله هنا (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) فإن الذكر التذكير بما خفي أو بما يخفى وأولو الألباب هم أهل العقول ، أي تذكرة لأهل النظر والاستدلال. فإن في قصة أيوب مجملها ومفصّلها ما إذا سمعه العقلاء المعتبرون بالحوادث والقائسون على النظائر استدلوا على أن صبره قدوة لكل من هو في حرج أن ينتظر الفرج ، فلما كانت قصص الأنبياء في هذه السورة مسوقة للاعتبار بعواقب الصابرين وكان النبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمون مأمورين بالاعتبار بها من قوله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) كما تقدم حقّ أن يشار إليهم «بأولي الألباب».
وأما الذي في سورة الأنبياء فإنه جيء به شاهدا على أن النبوءة لا تنافي البشرية وأن الأنبياء تعتريهم من الأحداث ما يعتري البشر مما لا ينقص منهم في نظر العقل والحكمة وأنهم إنما يقومون بأمر الله ، ابتداء من قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) يوحى إليهم [الأنبياء : ٧] وأنهم معرّضون لأذى الناس مما لا يخلّ بحرمتهم الحقيقية وأقصى ذلك الموت من قوله : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤].
وإذ كان المشركون يقولون : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] ، وحاولوا قتله غير مرة فعصمه الله ، ثم من قوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ١٠] ثم قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٤٨ ، ٤٩] ، وذكر من الأنبياء من ابتلي من قومه فصبر ، ومن ابتلي من غيرهم فصبر ، وكيف كانت عاقبة صبرهم واحدة مع اختلاف الأسباب الداعية إليه. فكانت في ذلك آيات للعابدين ، أي الممتثلين أمر الله المجتنبين نهيه ، فإن مما أمر به الله الصبر على ما يلحق المرء من ضرّ لا يستطيع دفعه لكون دفعه خارجا عن طاقته فختم بخاتمة أن في ذلك لآيات للعابدين.
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)).