مقيمين في تخوم مملكة إسرائيل فخشي أن يكون الله هيأهما لإزالة ملكه.
واستعمل (مِنْ بَعْدِي) في معنى : من دوني ، كقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] ، فيكون معنى (لا يَنْبَغِي) أنه لا ينبغي لأحد غيري ، أي في وقت حياتي فهذا دعاء بأن لا يسلط أحد على ملكه مدة حياته.
وعلى هذا التفسير لا يكون في سؤاله هذا الملك شيء من الاهتمام بأن لا ينال غيره مثل ما ناله هو فلا يرد على ذلك أن مثل هذا يعدّ من الحسد.
ويجوز أن يبقى (مِنْ بَعْدِي) على ظاهره ، أي بعد حياتي. فمعنى (لا يَنْبَغِي) : لا ينبغي مثله لأحد بعد وفاتي. وتأويل ذلك أنه قصد من سؤاله الإشفاق من أن يلي مثل ذلك الملك من ليس له من النبوءة والحكمة والعصمة ما يضطلع به لأعباء ملك مثل ذلك الملك ومن ليس له من النفوذ على أمته ما لسليمان على أمته فلا يلبث أن يحسد على الملك فينجم في الأمة منازعون للملك على ملكه ، فينتفي أيضا على هذا التأويل إيهام أنه سأل ذلك غيرة على نفسه أن يعطى أحد غيره مثل ملكه (مما تشمّ منه رائحة الحسد).
وقد تضمنت دعوته شيئين : هما أن يعطى ملكا عظيما ، وأن لا يعطى غيره مثله في عظمته. وقد حكى الله دعاء سليمان وهو سرّ بينه وبين ربه إشعارا بأنه ألهمه إياه ، وأنه استجاب له دعوته تعريفا برضاه عنه وبأنه جعل استجابته مكرمة توبته. ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان فإن ملك سليمان عمّ التصرف في الجن وتسخير الريح والطير ، ومجموع ذلك لم يحصل لأحد من بعده.
وفي «الصحيح» عن أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن عفريتا من الجن تفلّت البارحة ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلّكم فذكرت دعوة أخي سليمان : «رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئا».
وجملة (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) علة للسؤال كله وتمهيد للإجابة ، فقامت (إنّ) مقام حرف التفريع ودلت صيغة المبالغة في (الْوَهَّابُ) على أنه تعالى يهب الكثير والعظيم لأن المبالغة تفيد شدة الكمية أو شدة الكيفية أو كلتيهما بقرينة مقام الدعاء ، فمغفرة الذنب من المواهب العظيمة لما يرتب عليه من درجات الآخرة وإعطاء مثل هذا الملك هو هبة عظيمة. و (أَنْتَ) ضمير فصل ، وأفاد الفصل به قصرا فصار المعنى : أنت القوي الموهبة