ومعنى قولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) إن كان خطابا لموسى أنّهم طلبوا منه معجزة كما تعوّدوا من النصر فطلبوا أن يهلك الله الجبّارين بدعوة موسى. وقيل : أرادوا بهذا الكلام الاستخفاف بموسى ، وهذا بعيد ، لأنّهم ما كانوا يشكّون في رسالته ، ولو أرادوا الاستخفاف لكفروا وليس في كلام موسى الواقع جوابا عن مقالتهم هذه إلّا وصفهم بالفاسقين. والفسق يطلق على المعصية الكبيرة ، فإنّ عصيان أمر الله في الجهاد كبيرة ، ولذلك قال تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين ، وعن عبد الله بن مسعود قال : أتى المقداد بن الأسود النبي وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال : «يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل» (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) الحديث.
فلا تظنّنّ من ذلك أنّ هذه الآية كانت مقروءة بينهم يوم بدر ، لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل ، وإنّما تكلّم المقداد بخبر كانوا يسمعونه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما يحدّثهم به عن بني إسرائيل ، ثم نزلت في هذه الآية بذلك اللّفظ.
«قال» أي موسى ، مناجيا ربّه أو بمسمع منهم ليوقفهم على عدم امتثالهم أمر ربّهم (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ، يجوز أن يكون المعنى لا أقدر إلّا على نفسي وأخي ، وإنّما لم يعدّ الرجلين الذين قالا (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) ، لأنّه خشي أن يستهويهما قومهما. والذي في كتب اليهود أنّ هارون كان قد توفّي قبل هذه الحادثة. ويجوز أن يريد بأخيه يوشع بن نون لأنّه كان ملازمه في شئونه ، وسمّاه الله فتاه في قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) [الكهف : ٦٠] الآية. وعطفه هنا على نفسه لأنّه كان محرّضا للقوم على دخول القرية.
ومعنى (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أن لا تؤاخذنا بجرمهم ، لأنّه خشي أن يصيبهم عذاب في الدنيا فيهلك الجميع فطلب النّجاة ، ولا يصحّ أن يريد الفرق بينهم في الآخرة ؛ لأنّه معلوم أنّ الله لا يؤاخذ البريء بذنب المجرم ، ولأنّ براءة موسى وأخيه من الرضا بما فعله قومهم أمر يعلمه الله ، ويجوز أن يراد بالفرق بينهم الحكم بينهم وإيقاف الضّالين على غلطهم.
وقوله الله تعالى له : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) إلخ جواب عن قول موسى (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، وهو جواب جامع لجميع ما تضمّنه كلام موسى ، لأنّ الله أعلم موسى بالعقاب الذي يصيب به الّذين عصوا أمره ، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعمّ الجميع ، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصارا لموسى. فإن