الشّرط ليبني عليه الجواب ، وهو قوله : (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ، ليستفيق الّذين يرجون أن يسكت رسول الله عن قراءة القرآن النّازل بفضائحهم من اليهود والمنافقين ، وليبكت من علم الله أنّهم سيفترون ، فيزعمون أنّ قرآنا كثيرا لم يبلّغه رسول الله الأمّة.
ومعنى (لَمْ تَفْعَلْ) لم تفعل ذلك ، وهو تبليغ ما أنزل إليك. وهذا حذف شائع في كلامهم ، فيقولون : فإن فعلت ، أو فإن لم تفعل. قال تعالى : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس : ١٠٦] أي إن دعوت ما لا ينفعك ، يحذفون مفعول فعلت ولم تفعل لدلالة ما تقدّم عليه ، وقال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) في سورة البقرة [٢٤]. وهذا ممّا جرى مجرى المثل فلا يتصرّف فيه إلّا قليلا ولم يتعرّض له أئمّة الاستعمال.
ومعنى ترتّب هذا الجواب على هذا الشّرط أنّك إن لم تبلّغ جميع ما أنزل إليك فتركت بعضه كنت لم تبلّغ الرّسالة ، لأنّ كتم البعض مثل كتمان الجميع في الاتّصاف بعدم التّبليغ ، ولأنّ المكتوم لا يدري أن يكون في كتمانه ذهاب بعض فوائد ما وقع تبليغه ، وقد ظهر التّغاير بين الشّرط وجوابه بما يدفع الاحتياج إلى تأويل بناء الجواب على الشّرط ، إذ تقدير الشّرط : إن لم تبلّغ ما أنزل ، والجزاء ، لم تبلّغ الرّسالة ، وذلك كاف في صحّة بناء الجواب على الشرط بدون حاجة إلى ما تأوّلوه ممّا في «الكشاف» وغيره. ثمّ يعلم من هذا الشّرط أنّ تلك منزلة لا تليق بالرسل ، فينتج ذلك أنّ الرسول لا يكتم شيئا ممّا أرسل به. وتظهر فائدة افتتاح الخطاب ب (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي بعده ، وفائدة اختتامه بقوله : (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ).
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر ، وأبو جعفر (رِسالاتِهِ) ـ بصيغة الجمع. وقرأه الباقون (رِسالَتَهُ) بالإفراد. والمقصود الجنس فهو في سياق النّفي سواء مفرده وجمعه. ولا صحّة لقول بعض علماء المعاني استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ، وأنّ نحو : لا رجال في الدار ، صادق بما إذا كان فيها رجلان أو رجل واحد ، بخلاف نحو لا رجل في الدّار. ويظهر أنّ قراءة الجمع أصرح لأنّ لفظ الجمع المضاف من صيغ العموم لا يحتمل العهد بخلاف المفرد المضاف فإنّه يحتمل الجنس والعهد ، ولا شكّ أن نفي اللّفظ الّذي لا يحتمل العهد أنصّ في عموم النّفي لكن القرينة بيّنت المراد.
وقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) افتتح باسم الجلالة للاهتمام به لأنّ المخاطب والسّامعين يترقّبون عقب الأمر بتبليغ كلّ ما أنزل إليه ، أن يلاقي عنتا وتكالبا عليه من