دَيرُ الرُّصافَة : هو في رصافة هشام بن عبد الملك التي بينها وبين الرقّة مرحلة للحمالين ، وسنذكرها في بابها ، وأما هذا الدير فأنا رأيته ، وهو من عجائب الدنيا حسنا وعمارة ، وأظن أنّ هشاما بنى عنده مدينته وأنه قبلها ، وفيه رهبان ومعابد ، وهو في وسط البلد ، وقد ذكر صاحب كتاب الديرة أنه بدمشق ما أرى إلّا أنه غلط منه ، وبين الرصافة هذه ودمشق ثمانية أيام ، وقد اجتاز أبو نواس بهذا الدير وقال فيه :
ليس كالدير بالرّصافة دير ، |
|
فيه ما تشتهي النفوس وتهوى |
بتّه ليلة ، فقضّيت أوطا |
|
را ، ويوما ملأت قطريه لهوا |
وكان المتوكل على الله في اجتيازه إلى دمشق قد وجد في حائط من حيطان الدير رقعة ملصقة مكتوب فيها هذه الأبيات :
أيا منزلا بالدير أصبح خاليا ، |
|
تلاعب فيه شمأل ودبور |
كأنك لم تسكنك بيض أوانس ، |
|
ولم تتبختر في فنائك حور |
وأبناء أملاك غياشم سادة ، |
|
صغيرهم عند الأنام كبير |
إذا لبسوا أدراعهم فعنابس ، |
|
وإن لبسوا تيجانهم فبدور |
على أنهم يوم اللقاء ضراغم ، |
|
وأنهم يوم النّوال بحور |
ولم يشهد الصهريج ، والخيل حوله ، |
|
عليه فساطيط لهم وخدور |
هذا شاهد على أنّ هذا الدير ليس بدمشق لأن دمشق أكثر بلاد الله أمواها ، فأي حاجة بهم إلى الصهريج وإنما الصهريج في الرصافة التي قرب الرّقة ، شاهدت بها عدة صهاريج عادية محكمة البناء ، ويشرب أهل البلد والدير منها ، وهي في وسط السور.
وحولك رايات لهم وعساكر ، |
|
وخيل لها بعد الصهيل شخير |
ليالي هشام بالرصافة قاطن ، |
|
وفيك ابنه ، يا دير ، وهو أمير |
إذا العيش غضّ والخلافة لدنة ، |
|
وأنت طرير والزمان غرير |
وروضك مرتاض ، ونورك نيّر ، |
|
وعيش بني مروان فيك نضير |
بلى! فسقاك الله صوب سحائب ، |
|
عليك بها بعد الرواح بكور |
تذكّرت قومي بينها فبكيتهم |
|
بشجو ، ومثلي بالبكاء جدير |
لعلّ زمانا جار يوما عليهم |
|
لهم بالذي تهوى النفوس يدور |
فيفرح محزون وينعم بائس ، |
|
ويطلق من ضيق الوثاق أسير |
رويدك! إنّ اليوم يتبعه غد ، |
|
وإن صروف الدائرات تدور |
فارتاع المتوكل عند قراءتها واستدعى الديرانيّ وسأله عنها ، فأنكر أن يكون علم من كتبها ، فهمّ بقتله فسأله الندماء فيه وقالوا : ليس ممن يتّهم بميل إلى دولة دون دولة ، فتركه ، ثم بان أنّ الأبيات من شعر رجل من ولد روح بن زنباع الجذامي من أخوال ولد هشام بن عبد الملك.