أقسم بالله ما كانت الملائكة ليقدروا على ذلك ولا ليفعلوا حتى أمروا به ، لأن الله قال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(١) وإنه أثبت هذه الآية في سورة (حم عسق) وفسّرت في (حم)(٢) الكبرى ، قال : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)(٣) الآيات ، ألا ترى يا ذا خولان أنّي قد أدركت صدر الإسلام؟ فو الله ما كانت للخوارج جماعة قط إلّا فرّقها الله على شرّ حالاتهم ، وما أظهر أحد منهم رأيه قط إلّا ضرب الله عنقه ، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج ، ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض ، وقطعت السبل ، وقطع الحج من بيت الله الحرام ، وإذا لعاد أمر الإسلام جاهلية ، حتى يعود الناس يستغيثون (٤) برءوس الجبال كما كانوا في الجاهلية ، وإذا لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلّا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة ، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضا ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ، ودينه ، ودمه ، وأهله ، وماله ، لا يدري أين يسلك ، أو مع من يكون ، غير أنّ الله بحكمه ، وعلمه ، ورحمته نظر لهذه الأمة ، فأحسن النظر لهم ، فجمعهم وألّف بين قلوبهم على رجل واحد ، ليس من الخوارج ، فحقن الله به دماءهم ، وستر به عوراتهم وعورات ذراريهم ، وجمع به فرقتهم ، وأمن به سبلهم (٥) ، وقاتل به عن بيضة المسلمين عدوّهم ، وأقام به حدودهم ، وأنصف به مظلومهم ، وجاهد بظالمهم رحمة من الله رحمهم بها ، فقال الله تعالى في كتابه : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) إلى (الْعالَمِينَ)(٦) وقال : (اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) حتى بلغ (تَهْتَدُونَ)(٧) وقال الله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى (الْأَشْهادُ)(٨) فأين هم من هذه الآية؟ فلو كانوا مؤمنين نصروا ، وقال : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) إلى (لَهُمُ الْغالِبُونَ)(٩) فلو كانوا جند الله غلبوا ولو مرة واحدة في الإسلام ، وقال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) حتى بلغ (نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠) فلو كانوا مؤمنين نصروا ،
__________________
(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٧.
(٢) سورة غافر ، الآية : ١.
(٣) سورة غافر ، الآية : ٧.
(٤) كذا بالأصل وم ، وفي تهذيب الكمال : يستعينون.
(٥) تحرفت بالأصل وم إلى : سلبهم ، والمثبت عن تهذيب الكمال.
(٦) سورة البقرة ، الآية : ٢٥١.
(٧) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣.
(٨) سورة غافر ، الآية : ٥١.
(٩) سورة الصافات الآيات ١٧١ إلى ١٧٣.
(١٠) سورة الروم ، الآية : ٤٧.