أخبرنا أبو عبد الله الفراوي ، وأبو الحسن سبط البيهقي ، قالا : أنا أبو بكر البيهقي قال : قال أبو سليمان الخطابي :
هذا حديث يطعن فيه الملحدون وأهل البدع ، ويغمزون به في رواته ونقلته ويقولون : كيف يجوز أن يفعل نبي الله موسى هذا الصنيع بملك من ملائكة الله ، جاءه بأمر من أمره فيستعصي عليه ولا يأتمر له؟ وكيف تصل يده إلى الملك ، ويخلص إليه صكه ولطمه؟ وكيف ينهنه (١) الملك المأمور بقبض روحه فلا يمض أمر الله فيه؟ هذه أمور خارجة عن المعقول ، سالكة طريق الاستحالة من كل وجه.
والجواب : إن من اعتبر هذه الأمور بما جرى به عرف البشر ، واستمرت عليه عادات طباعهم ، فإنه يسرع إلى استنكارها والارتياب بها لخروجها عن سوم طباع البشر ، وعن سنن عاداتهم ، إلّا أنه أمر مصدره عن قدرة الله الذي لا يعجزه شيء ، ولا يتعذر عليه أمر ، وإنّما هو محاولة بين ملك كريم ونبي كليم ، وكلّ واحد منهما مخصوص بصفة خرج بها عن حكم عوام البشر ، [ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص به من أثره الله](٢) واختصاصه إياه فالمطالبة (٣) بالتسوية بينهما وبينهم فيما تنازعاه من هذا الشأن حتى يكون ذلك على أحكام طباع الآدميين وقياس أحوالهم غير واجب في حق النظر ، ولله عزوجل لطائف وخصائص يخصّ بها من يشاء من أنبيائه وأوليائه وتفردهم بحكمها دون سائر خلقه.
وقد أعطي موسى ـ صلوات الله عليه ـ النبوة ، واصطفاه بمناجاته وكلامه ، وأمدّه حين أرسله إلى فرعون بالمعجزات الباهرة كالعصا واليد البيضاء ، وسخّر له البحر فصار طريقا يبسا جاز عليه قومه وأولياؤه ، وغرق فيه خصمه وأعداؤه ، وهذه أمور أكرمه الله بها ، وأفرده بالاختصاص فيها أيام حياته ، ومدة بقائه في دار الدنيا ، ثم إنّه لما دنا حين وفاته ، وهو بشر يكره الموت طبعا ، ويجد ألمه حسا ، لطف له بأن لم يفاجئه به بغتة ، ولم يأمر الملك الموكّل به أن يأخذه قهرا وقسرا ، لكن أرسله إليه منذرا بالموت ، وأمره بالتعرّض له على سبيل الامتحان في صورة بشر ، فلمّا رآه موسى استنكر شأنه واستوعر مكانه ، فاحتجز منه دفعا منه عن نفسه بما كان من صكه إياه ، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاءه
__________________
(١) الأصل و «ز» ، ود : «ينهنهه» والمثبت عن م. يعني يزجره ويردعه.
(٢) ما بين معكوفتين سقط من الأصل ود ، وم ، واستدرك عن هامش «ز».
(٣) الأصل : فالمطابقة ، والمثبت عن د ، و «ز» ، وم.