وطلب المنعة حتى يبلغ رسالات ربه ، فرد على رسول الله صلىاللهعليهوسلم أقبح الرد وقال له : عجبا لك! يأبى قومك أن يتبعوك ، وتأتى إلى محارب تدعوهم إلى ترك ما كان عليه آباؤهم! اذهب فإنه غير متبعك رجل من محارب آخر الدهر.
ويقبل إليه سفيه منهم فقال : يا محمد ، ما فى بطن ناقتى هذه إن كنت صادقا؟ فلعمرى إنك لتدعى من العلم أعظم مما سألتك عنه ، تزعم أن الله يوحى إليك ويكلمك. فأسكت عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأقبل إليه رجل منهم يقال له : سلمة بن قيس ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم جالسا قريبا من منزلهم ، فأراد أن يطرحه فى البئر ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتنحى عن البئر ، فجعل سلمة يقول : لو وقعت فى البئر استراح منك أهل الموسم. وأخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بزمام راحلته يقودها وهم يرمونها بالحجارة حتى توارى عنهم وهو يقول : «اللهم إنك لو شئت لم يكونوا هكذا ، وإن قلوبهم بيدك وأنت أعلم بهم ، فإن كان هذا عن سخط بك على فلك العتبى ، ولا حول ولا قوة إلا بك».
وذكر قاسم بن ثابت بن حزم العوفى من حديث عبد الله بن عباس ، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه ، أنه قال : لما أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق ؛ حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وكان رجلا نسابة ومقدما فى كل خير ، فقال : ممن القوم؟ قالوا : من ربيعة. قال : ومن رأى ربيعة؟ أمن هامتها أم من لهازمها : قالوا : بل من هامتها العظمى ، قال : وأى هامتها العظمى أنتم؟ قالوا : ذهل الأكبر (١).
فذكر الحديث فى مناسبة أبى بكر إياهم ومقاولته لهم ، وانبراء دغفل بن حنظلة النسابة إليهم من بينهم وهو يومئذ غلام حين بقل وجهه ، وموافقته لأبى بكر ، حتى اجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو حديث مشهور تركته لشهرته ، مع أن المقصود فيما بعده.
قال على بن أبى طالب رضى الله عنه : ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار ، فتقدم أبو بكر فسلم وكان مقدما فى كل خير ، فقال : ممن القوم؟ قالوا : من شيبان بن ثعلبة ، فالتفت أبو بكر إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : بأبى أنت وأمى هؤلاء غرر فى قومهم. وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك ، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا ، وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه وكان أدنى القوم مجلسا من أبى بكر.
__________________
(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ١٨٤ ـ ١٨٥).