محتسبا ، ولم يزل كذلك حتى ولى المتوكل الخلافة ، فأرسل إليه عشرة آلاف درهم نفقة له ، ففرقها الإمام أحمد على المحتاجين من أهل الحديث ، وغيرهم من أهل بغداد والبصرة ، حتى لم يبق منها درهما (١).
وروى عن الرشيد أنه طلب من الزاهد ابن السماك أن يعظه ، فقال له : أعلم أنك واقف بين يدى الله ربك ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما جنة أو نار ، فبكى الرشيد حتى اخضلت لحيته (٢).
وقالوا عن الزاهد من لم يغلب الحرام صبره ولا الحلال شكره (٣).
وقال بعض الزهاد : يا ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا ، وإذا ما رأيت الناس فى الخير فنافسهم فيه ، وإذا رأيتهم فى الشر فابتعد عنهم (٤).
ولم يقتصر الزهد علي أفراد الشعب بل تعداه إلى بعض أمراء البيت العباسى ، فكان أحمد بن هارون الرشيد أميرا صالحا ، ترك الدنيا فى حياة أبيه مع القدرة ، ولم يتعلق بشئ من أمورها ، وأبوه خليفة الدنيا وآثر الأنقطاع والعزلة بل كان يتكسب من عمل يده بعمل يؤديه يوم السبت من كل أسبوع ، وينفق ما اكتسب فى احتياجاته بقية الأسبوع ، ويتفرع للاشتغال بالعبادة وتوفى سنة ١٨٤ ه (٥).
وفى مقابل نزعة الزهد ظهرت نزعة أخرى فى بغداد تدعو إلى اللهو والمجون ، انغمس فيها المترفون من أهل بغداد ، وكان يمثل هذه النزعة بشار وأبو نواس. على أن الفترة التى قام فيها الأمين لم ينعم الناس فيها بالحياة الآمنة بسبب الفتنة وحصار بغداد وأعمال التخريب والتدمير التى نجمت عن ذلك ، لذا حاول أهل المجون تعويض ما أصاب الحياة من بؤس وشقاء بعد تولية المأمون الخلافة ، واستقرار الدولة.
__________________
(١) المصدر السابق ج ١٠ ص ٣٣٨.
(٢) الطبرى. تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٩٣ ه.
(٣) الجاحظ. البيان والتبيين ج ٣ ص ١٥٤.
(٤) المصدر السابق ج ٣ ص ١٣٢.
(٥) ابن كثير. البداية والنهاية ج ١ ص ١٨٤.