عليها ، وقوم لجأوا إلى الزهد بعد أن فشلوا فى الحصول على المال والحياة وكثيرا زهدوا تقربا إلى الله لأن الزهد يعصمهم من الوقوع فى المعاصى حتى قال محمد بن واسع : يعجبنى أن يصبح الرجل ، وليس له عشاء وهو مع ذلك راض عن الله ، صرفوا نفوسهم عن الشهوات وأكثروا من ذكر الموت والحياة الأخرة.
وتعففوا عن محاولة طلب من ذويه ، وقنعوا بالقليل (١) ، وكان الشاعر أبو العتاهية يمثل طلب المال الزهد فى بغداد ، وظهر ذلك جليا فى أشعاره ، كقوله :
لا تأمن الموت فى طرف ولا نفس |
|
إذا تسترت بالأبواب والحرس |
وعم بأن سهام الموت قاصدة |
|
لكل مدرع منا ومترس (٢) |
نرجو النجاة ولم تسلك طريقتها |
|
إن السفينة لا تجرى على اليبس |
ودخل بعض الزهاد على المنصور فقال : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها «فاشتر نفسك ببعضها ، وأذكر ليلة تبيت فى القبر لم تبت قبلها ليلة. فأفحم المنصور قوله وأمر له بمال ، فرفض الزاهد صلة الخليفة ، وقال زاهد آخر للمنصور : إن هذا الأمر كان لمن قبلك ثم صار إليك ثم هو صائر لمن بعدك ، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة.
وكان صالح بن بشير المرى أحد العباد الزهاد جلس إلى المهدى فوعظه حتى أبكاه ، ثم قال له : إعلم أن رسول الله خصم من خالفه فى أمته ومن كان محمد خصمه فالله خصمه ، فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسول حججا تضمن لك النجاة ، وإلا فاستسلم للمهلكة ، وأعلم أن الله قاهر فوق عباده ، وأن أثبت الناس قدما ، آخذهم بكتاب الله وسنة رسوله (٣).
والإمام أحمد بن حنبل خير من مثل نزعة الزهد فى بغداد فكانت غلته من ملك له فى كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على عياله ، ويقنع بذلك صابرا
__________________
(١) الأصفهانى : كتاب الأغانى ج ٤ ص ١٠٦.
(٢) ابن كثير ـ البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٢٤.
(٣) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٧١.