هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا) (١) الآية. خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان ، وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به ، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٢) الآية. وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به الله لا ينفع.
والذين أوتوا الكتاب هنا اليهود ، والكتاب التوراة قاله : الجمهور ، أو اليهود والنصارى قاله : الماوردي وابن عطية. والكتاب التوراة والإنجيل ، وبما نزلنا هو القرآن بلا خلاف ، ولما معكم من شرع وملة لا لما معهم من مبدل ومغير من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدباها. قرأ الجمهور : نطمس بكسر الميم. وقرأ أبو رجاء : بضمها. وهما لغتان ، والظاهر أن يراد بالوجوه مدلولها الحقيقي ، وأما طمسها فقال ابن عباس وعطية العوفي : هو أن تزال العينان خاصة منها وترد في القفا ، فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى. وعلى هذا يكون ذلك على حذف مضاف أي : من قبل أن نطمس عيون وجوه ، ولا يراد بذلك مطلق وجوه ، بل المعنى وجوهكم. وقالت طائفة : طمس الوجوه أن يعفى آثار الحواس منها فترجع كسائر الأعضاء في الخلو من آثار الحواس منها ، والرد على الإدبار هو بالمعنى أي : خلوه من الحواس. دثر الوجه لكونه عابرا بها ، وحسن هذا القول الزمخشري وجوزه وأوضحه ، فقال : إن نطمس وجوها أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ، فنردها على أدبارها ، فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بالعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها ، فالمعنى : أن نطمس وجوها فننكسها الوجوه إلى خلف ، والإقفاء إلى قدام انتهى. والطمس بمعنى المحو الذي ذكره مروي عن ابن عباس ، واختاره القتبي. وقال قتادة والضحاك : معناه نعمي أعينها. وذكر الوجوه وأراد العيون ، لأن الطمس من نعوت العين. قال تعالى : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) (٣). ويروى هذا أيضا عن ابن عباس. وقال الفراء : طمس الوجوه جعلها منابت للشعر كوجوه القردة. وقيل : ردها إلى صورة بشيعة كوجوه الخنازير والقردة. وقال مجاهد والسدّي والحسن. ذلك تجوز ، والمراد وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها ، والرد على الإدبار التصيير إلى الكفر. وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ،
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ٤٦.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٤٨.
(٣) سورة القمر : ٥٤ / ٣٧.