وفي قوله : بعضنا بعضا ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلها ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) (١) (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (٢) (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) (٣) فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعادا : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضا ، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله ، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك ، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة : عبدوا عيسى ، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة ، واتخذوا أحبارهم أربابا في الطاعة لهم في تحليل وتحريم وفي السجود لهم.
قال الطبري : في قوله : (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله ، ولم يحله. وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الرّوافض. انتهى. وفيه بعض اختصار.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي : فإن تولوا عن الكلمة السواء فأشهدوهم أنكم منقادون إليها ، وهذا مبالغة في المباينة لهم ، أي : إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة ، فإنا قابلون لها ومطيعون. وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو المحضر في الحسّ. قال ابن عطية : هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف يكون. انتهى.
وقال الزمخشري : أي لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع ، أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلّم لي الغلبة ، ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. انتهى.
__________________
(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٠.
(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ١١.
(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٤٧.