أمرهم ؛ ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب وخلاص أهل تلمسان من الحصار ، فعاد إلى تلمسان ، وقد أفاق من اختلاطه ، وانبعثت همّته إلى تعلّم العلم. وكان مائلا إلى العقليات ، فقرأ المنطق على أبي موسى ابن الإمام ، وجملة من الأصلين ، وكان أبو حمّو (١) صاحب تلمسان يومئذ قد استفحل ملكه ، وكان ضابطا لأموره ، وبلغه عن شيخنا تقدمه في علم الحساب ، فدفعه إلى ضبط أمواله ومشارفة عمّاله. وتفادى شيخنا من ذلك ، فأكرهه عليه ، فأعمل الحيلة في الفرار منه ، ولحق بفاس أيام السّلطان أبي الربيع ، (٢) وبعث فيه أبو حمو ، فاختفى بفاس عند شيخ التّعاليم من اليهود ، خلّوف المغيلي ؛ فاستوفى عليه فنونها ، وحذق. وخرج متواريا من فاس ، فلحق بمراكش ، أعوام العشر والسبع مائة. ونزل على الإمام أبي العباس بن البنّاء (٣) شيخ المعقول والمنقول ، والمبرّز في التصوف علما وحالا ، فلزمه ، وأخذ عنه ، وتضلّع من علم المعقول والتعاليم والحكمة ، ثم استدعاه شيخ الهساكرة عليّ بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه ، وكان ممرّضا في طاعته للسلطان ، فصعد إليه شيخنا وأقام عنده مدة ؛ قرأ عليه فيها وحصّل. واجتمع طلبة العلم هنالك على الشيخ ، فكثت إفادته ، واستفادته ، وعلي بن محمد في ذلك على تعظيمه ، ومحبته ، وامتثال إشارته ، فغلب على هواه ، وعظمت رياسته بين تلك القبائل. ولما استنزل السّلطان أبو سعيد عليّ بن تروميت من جبله ، نزل الشيخ معه ، وسكن بفاس. وانثال عليه طلبة العلم من كل ناحية ، فانتشر علمه ، واشتهر ذكره ؛ فلمّا فتح السّلطان أبو الحسن تلمسان ولقي أبا موسى ابن الإمام ، ذكره له بأطيب الذكر ، ووصفه بالتّقدّم في العلوم. وكان السّلطان معنيا بجمع العلماء لمجلسه ، كما ذكرنا ، فاستدعاه من مكانه بفاس ، ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه ، وعكف على التّدريس
__________________
(١) هو أبو حمو موسى بن يوسف الزياني ، من ملوك تلمسان ، بني عبد الواد. انظر الاستقصا ٢ / ١٠٣ وما بعدها ، أزهار الرياض ٣ / ٣٣١.
(٢) هو سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب بن يوسف بن عبد الحق المريني ، يكني أبا الربيع ، توفي سنة ٧١٠ ه. جذوة الاقتباس ص ٣١٩.
(٣) تقدمت ترجمة ابن البناء.