الوجود الثاني ، (١) وتخارق السيف فجاء بغير المعتاد ، ونهلت القنا الرّدينية من الدماء ، حتى كادت تورق كالأغصان المغترسة والأوتاد ، وهمت أفلاك القسيّ وسحّت ، وأرنّت حتى بحّت ، ونفدت موادّها فشحّت ، مما ألحّت ، وسدّت المسالك جثث القتلى فمنعت العابر ، واستأصل الله من عدوه الشأفة وقطع الدابر ، (٢) وأزلف الشهيد وأحسب الصّابر ، (٣) وسبقت رسل الفتح الذي لم يسمع بمثله في الزمن الغابر. تنقل البشرى من أفواه المحابر ، إلى آذان المنابر.
أقمنا بها أياما نعقر الأشجار ، (٤) ونستأصل بالتخريب الوجار ، (٥) ولسان الانتقام من عبدة الأصنام ، ينادي : يا لثارات الإسكندرية (٦) تشفيا من الفجار ، (٧) ورعيا لحق الجار ؛ وقفلنا وأجنحة الرّايات ، برياح العنايات ، خافقه ،
__________________
(١) يعني بالوجود الأول : الوجود الخارجي ، وهو المرئي بالعين الملموس. أما الوجود الثاني فهو الوجود الذهني ؛ والمعنى أن هذه المدينة قد أصبحت موجودة في الأذهان صورتها بعد ان كانت موجودة بالعين. وانظر معيار العلم للغزالي ص ٣٧. وشرح المقاصد للسعد ١ / ٥٧ (طبع استانبول سنة ١٢٧٧ ه).
(٢) الشأفة : الأصل ، واستأصل الله شأفته أي أصله. وقطع الدابر : استأصل آخرهم.
(٣) أزلف الشهيد : قربه إليه. وأحسب الصابر : أعطاه ما يرضى ، أو أعطاه حتى قال حسبى.
(٤) نعقر الأشجار : نقطع رؤوسها ، فتيبس.
(٥) الوجار (بالكسر وبفتح) : جحر الضبع ، والأسد ، والثعلب ، والذئب ونحوها.
(٦) يشير ابن الخطيب إلى «الواقعة» التي حدثت بالأسكندرية سنة ٧٦٧ ، ومجملها أن حاكم قبرص ، انتهز غيبة حاكم الإسكندرية في الحجاز للحج ، فهاجم البلد في أسطول بلغت قطعه نحو ٧٠ فيما قالوا ، وقد خرج أهل الإسكندرية للنزهة غير مقدرين للخطر ، وكانت الحامية الموجودة قليله ، والأسوار والحصون خالية من المدافعين ، فهاجم العدو الأهالي العزل الآمنين ، ففروا إلى المدينة ، وأغلقوا عليهم الأبواب ، فأحرقها العدو واقتحم البلد عليهم ... فكانت مذابح هتكت فيها حرمات. وانظر تفصيلها في العبر ٥ / ٤٥٤.
(٧) شبّه مهاجمة الاسكندرية الآمنة بحرب «الفجار» ، التي سميت بذلك لما استحل فيها من حرمات ، حيث كانت في الأشهر الحرم.