وصدّق هذه الأقاويل كثير من المسلمين أنفسهم ، واتخذوا تلك السفسطة قضية مسلّمة ، ونبذوا الإسلام بتاتا ، وأوشك آخرون أن ينبذوه بحجة أنّه مصدر الانحطاط.
ونسوا أنّه ما من أمة على وجه الأرض إلا وقد سعدت وشقيت ، وعلت ونزلت ، وتداولتها أدوار مختلفة ، وكانت ديانتها واحدة في دوري علوها وهبوطها ، وأنّ الإسلام لهو أجدر من غيره بأن لا يكون مسؤولا عن انحطاط أحد ، وأنّه طالما نهض بأهله إلى الدرجات العلى ، عند ما كانوا يعملون بمقتضاه حقّ العمل ، وإنما كان المسؤول عن هذا الانحطاط ، المسلمون لا الإسلام ، والقّراء لا الكتاب ، والحملة لا المحمول ، والخزنة لا المخزون ، وهؤلاء هم الذين فقدوا الممالك ، وخسروا المجد القديم ، وجنوا هذه الجناية على الشريعة الإسلامية ، والمبادىء القرآنية ، والآداب العربية ، والثقافة الشرقية ، وجعلوا كلّ أولئك مسؤولا عن أمور لا مسؤول فيها غير الأشخاص في الحقيقة ، ولا مجرم غير الخلف الفاسد ، الذي أضاع الصلاة ، واتبع الشهوات ، ولقي الغيّ.
وإنك لتجد كلّ كلمة من القرآن شاهدة عليهم ، وكلّ نصّ من الشرع حاكما بسوء سيرتهم ، ولو أنفقت ما في الأرض جميعا لم تقدر أن تطبق أعمال هؤلاء الملوك والخلفاء والوزراء ، والقضاة والعلماء من المسلمين ـ الذين وصلوا بالأمة إلى ما وصلت إليه ـ على آية واحدة من القرآن الكريم مفهومة حقّ الفهم ، أو حديث مشهور ، لا يتطرّق إلى إسناده الشك ، بل خالفوا قواعد الإسلام من أولها إلى آخرها ، واتخذوا كتاب الله لمجّرد الترتيل والتجويد ، ولم يعملوا بعشر معشار ما فيه من الأوامر والنواهي ، ورجعوا يعاتبون الله على الخذلان الذي هم فيه ، والله قد أجابهم من قبل على اعتراضهم ، وقال لمثلهم : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧].