وقد تقدم لنا أن الأوروبيين شديد والعناية بالأنساب ، خلافا لما يتوهم الشرقيون ، وأنّ الكفاءة في الزواج طالما كانوا يراعونها ، ولا يزالون يراعونها حتى اليوم ، وإن كان قد خفّ ذلك التمسك القديم بعض الشيء ، وذلك أنّ النبلاء لا يزوجون بناتهم من الطبقات التي ليست في درجتهم. وأشدّ الأوربيين منعة في هذا الأمر هم نبلاء الإنكليز ، الذين يأتي الأمريكي المثري فيبذل القناطير المقنطرة من الذّهب حتى ينال شرف مصاهرتهم ، ولا ينالها إلا لأيا ، وكلّ هذا لأجل أن يستقطر بأنبيق ديناره دمهم الشريف في دنّ نسبه ، كما قال أحمد فارس (١) في «كشف المخبا عن فنون أوروبا». وما قاله أحمد فارس من ثمانين سنة في هذا الموضوع لا يزال تصداقه جاريا إلى الآن.
وكذلك نجد النبلاء في ألمانية وفرنسة وغيرهما محافظين على أنسابهم ، مفتخرين بها ، مستظهرين على صحتها بالكتب والوثائق والشجرات التي يعتقدونها من أنفس أعلاقهم وذخائرهم ، وكثيرا ما اجتمعنا بأناس من هؤلاء يرفعون أنسابهم إلى عهود بعيدة جدا ، ويذكرون أنّ أصول عائلاتهم معروفة من ألف سنة ، وألف ومئتي سنة.
ولم نجد أشراف العرب أشد اعتناء بأنسابهم من نبلاء الإفرنج ، وهم
__________________
(١) [هو أحمد فارس الشدياق (١٢١٩ ـ ١٣٠٤ ـ ١٨٠٤ ـ ١٨٨٧) عالم باللغة والأدب ولد لأبوين نصرانيين ورحل إلى مصر ثم إلى مالطة وتنقل في أوربة ثم سافر إلى تونس حيث أسلم هناك وتسمّى أحمد فارس ثم دعي إلى الآستانة فأصدر فيها جريدة «الجوائب» لمدة (٢٣) سنة وتوفي في الآستانة ، ترك عددا كبيرا من المؤلفات أشهرها «كنز الرغائب في منتخبات الجوائب» سبع مجلدات و «الساق على الساق فيما هو الفارياق» و «الجاسوس على القاموس» وترجم العهدين القديم والحديث وطبعت ترجمته في لندن ، كما نشر في مطبعة الجوائب عددا كبيرا من عيون الكتب انظر «أحمد فارس الشدياق» محمد علي الزركان].