الملحدة التي قد بني (١) على الخراب فناؤها (٢) ، وشيّد بالتراب بناؤها ، فمحلّها مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل عمارة (٣) موحشين وأهل محلة متشاغلين ، لا يستأنسون بالعمران (٤) ، ولا يتواصلون تواصل الجيران ، على ما بينهم من قرب الجوار ، ودنو الدار ، وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلى ، وأكلتهم الجنادل والثرى ، فأصبحوا بعد الحياة أمواتا ، وبعد غضارة العيش رفاتا ، فجع بهم الأحباب ، وسكنوا التراب ، وظعنوا فليس لهم إياب ، هيهات هيهات ، كلّا إنها كلمة هو قائلها ، ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ، وكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من الوحدة والبلاء في دار الموتى ، وارتهنتم في ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو قد تناهت الأمور وبعثرت القبور ، وحصّل ما في الصدور ، وأوقفتم للتحصيل بين يدي ملك جليل ، فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب ، وهتكت عنكم الحجب والأستار ، وظهرت منكم العيوب والأسرار ، هنالك تجزى كلّ نفس بما كسبت (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(٥)(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(٦) جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابه متّبعين لأوليائه حتى يحلنا وإياكم دار المقامة من فضله ، إنّه حميد مجيد.
أخبرنا أبو القاسم بن السّمرقندي ، أنا أبو محمّد أحمد بن علي بن الحسن بن أبي عثمان ، أنا أبو طاهر محمّد بن علي بن عبد الله بن مهدي ، أنا أبو طاهر أحمد بن محمّد بن عمرو المدني (٧) ، نا يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة الصّدفي (٨) ، نا يحيى بن حسّان ، حدّثني محمّد بن مسلم بن أبي الوضّاح البصري ، حدّثني ثابت أبو سعيد ، حدّثني يحيى بن يعمر.
أن عليّ بن أبي طالب خطب الناس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ثم قال (٩) :
__________________
(١) الأصل : «التي قد بين الخراب فناؤها» والمثبت والزيادة عن نهج البلاغة.
(٢) الأصل : «التي قد بين الخراب فناؤها» والمثبت والزيادة عن نهج البلاغة.
(٣) في نهج البلاغة : بين أهل محلة موحشين ، وأهل فراغ متشاغلين.
(٤) نهج البلاغة : لا يستأنسون بالأوطان.
(٥) سورة النجم ، الآية : ٣١.
(٦) سورة الكهف ، الآية : ٤٩.
(٧) ترجمته في سير أعلام النبلاء ١٥ / ٤٣٠ وفيها : المديني.
(٨) ترجمته في سير أعلام النبلاء ١٢ / ٣٤٨.
(٩) قارن ما ما ورد في نهج البلاغة الخطبة ٢٣ وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الأغنياء بالشفقة.
وانظر البداية والنهاية ٨ / ٨.