ولقد أصيبت الحياة العقلية في مصر الإسلامية بكثير من الاضطراب والضعف في أواسط القرن الخامس الهجري كما يقول عنان ، أي منذ اضطربت شؤون الخلافة الفاطمية في عهد المستنصر بالله ، ونكبت مصر بالشدة العظمى ، وعانت عسف القحط والوباء أعواما طويلة (٤٤٦ ـ ٤٦٤ ه) ، وشغل المجتمع المصري حينا بما توالى عليه من الأرزاء والمحن ، وشغل الخلفاء ورجال الدولة بالتنازع على السلطان وتدبير الانقلابات السياسية العنيفة عن تعهد الحركة الفكرية ، وقترت الدولة على معاهد التعليم لنضوب مواردها ، وبددت خزائن الكتب أثناء الفتنة وكانت من أنفس وأعظم ما عرف العالم الإسلامي (١) .. وكان لهذا الاضطراب أثره في الأزهر ودار الحكمة فركدت حركة الدرس والتحصيل تبعا لركود الحياة العامة واضطراب الحياة الخاصة. وفي أواخر القرن الخامس في عصر أمير الجيوش بدر الجمالي المتغلب على الدولة (٤٦٥ ـ ٤٨٧ ه) وولده الأفضل شاهنشاه (٤٨٧ ـ ٥١٥ ه) عاد النظام والأمن والرخاء الى البلاد ، وانتظمت الحياة العامة ، واستعادت الحياة الفكرية نشاطها بما أسبغ عليها من الرعاية ، وما بذل للإنفاق على معاهد الدرس من الأموال والأرزاق.
ويقول عنان : كان نظام الحلقات العلمية وقت إنشاء الجامع الأزهر هو نظام الدراسة الممتازة في مصر الإسلامية وفي معظم الأقطار الإسلامية الأخرى ، وكان قوام الحياة الجامعية والفكرية في العالم الاسلامي .. وكان طبيعيا أن الأزهر حينما أتيح له أن يدخل هذا الميدان الدراسي ، أن تقوم الدراسة فيه وفقا لهذا النظام التقليدي المتوارث. ولم يك ثمة نظام آخر يمكن التفكير فيه في عصر لم تكن قد عرفت فيه المدارس بعد .. وهكذا بدأت الدراسة في الأزهر في حلقات علمية وأدبية ؛ واستمرت كذلك على مر العصور. وعقدت أول حلقة للدرس بالأزهر في صفر
__________________
(١) الخطط ج ٢ ص ٣٥٤.