النظر ، وجردوا من شوب العصبية والهوى الفكر ، لعلموا أن أحدهم لو قيل له في شيء من خاصة أعماله ، وما يصدر عنه من أقواله وأفعاله ، إن فعلك هذا على غير أساس العقل موضوعه ، ولا من مطالعه طلوعه ، لاستشاط من ذلك غضبا ، ولقام له مكذبا ، وفي مثل هذه المواجهة مستذنبا ، فكيف يرضون للأنبياء الذين هم سادات دينهم ، والوسائط بينهم وبين ربهم ما لو قابلهم بمثله مقابل لكرهوه ، أم كيف لا يعتبرون أن الخطاب في كتاب الله كله مع أولي الألباب بقوله الله تعالى : «فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، وما يجري مجراه مما كثر وتكرر ، وليس يخلو من كون هذه الأوضاع الشرعية ليس لها برهان من العقل عند الرسول عليه السلام ، الآتي بها نفسه أو كون البرهان عنده فلم يشعر به ، فإن كان لا برهان لها عنده فهو فحش ، فلو أن سائلا سأله عن العلة التي اقتضت أن يجعل الصلاة خمسا ، ولا يجعلها ستا ، فكان يقول لا أدري ، لكفاه طعنا أن يأتي بشيء لا يدري العلة فيه إذا سئل عنها ، وإن كان لها برهان عند نفسه عقلى ـ والبرهان مما يجمل الأقوال والأفعال ـ ثم لم يظهره فلم يقم إذن بحق البلاغ ، وهذا منتف عن الرسول عليه السلام ، لأنه بلغ وقال في النادي : «اللهم اشهد أني بلغت» وسوى هذا فمعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكلف تكليف الشريعة إلا ذا عقل ، فكيف يكلف ذا عقل ما كان موضوعه على غير عقل ، لأن ما كان موضوعه على غير عقل ، فهو بغير ذي عقل أولى منه بذي عقل ، وما السبب في تولية العقل أولا وعزله آخرا؟ ولما لا تكون التولية آخرا ككونها أولا ، أو العزل أولا ككونه آخرا؟ وهذا مما لا خفاء به على منصف.
والمعلوم أن الفلاسفة يدعون العلوم العقلية والأمور الحقيقية ، وأن المسلمين يكفرونهم مع ذلك ، لانقطاعهم عن سبب الرسالة ، وقولهم أنهم غنوا عن الأنبياء في معرفة معالم نجاتهم ، وأن الحاجة إليهم لسياسة أمور الدنيا فقط ، بتحصين الدماء والأموال ، ومنع القوي عن الضعيف.