وحرمها أمنا من الجبابرة والخسف وغيرهما كان منذ خلق الله السموات والأرض ، وإبراهيم صلىاللهعليهوسلم إنما أظهر حرمتها لسؤاله المذكور فى القرآن لما اندرس البيت من الطوفان ونسى حكمه وهجر ، وأنه لم يسأل إلا أمنا مخصوصا كالأمن من الجدب والقحط أى : القاتل وإلا فكم وقع منها من جدب لا يطاق انتهى. وقال الدمامينى (١) فى شرح البخارى فى تفسير قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أنه تطرق جماعة من الملاحدة إلى الطعن فى ذلك والعياذ بالله تعالى بقتل عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما وغيره ممن قتل فى الحرم ، يشيرون بذلك إلى وقوع الخلف فى القرآن بزعمهم فقال القاضى أبو بكر الباقلانى : الخبر هنا مراد به الأمر كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(٢) وقال عليه الصلاة والسلام : «من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن» إلى غير ذلك ، قال ابن المنير : الأوجه فى إبطال كلام الملاحدة أن يقال : إن الله تعالى خاطب العرب كما تتخاطب ، ولا شك أن لسانها يقتضى وصف المدن بأنها مأمن ووصف المفاوز بأنها مخاوف ، ولا ينكر هذا إلا متعنت جاهل ، ثم الأمر محمول فيه على الغالب ، وإلا فليس كل من كان بمدينة لا يهلك ولا كل من كان بمفازة يهلك ، فدل ذلك على أنهم إنما يضيفون ذلك إلى الغلبة ، ولا شك أن الحرم فى الجاهلية وما تقدم عليها لم يزل متميزا على غيره بمهابة تصد عن السفك فيه غالبا فصح وصفه بالأمن وحمل الكلام على الخبر الحسن وهو الأصل ، وأيضا لو حمل على الأمر لم يكن له مزية ؛ لأن السفك إن كان بالباطل فهو منهى عنه مطلقا فى الحرم وغيره ، وإن كان بحق فالحكم عندنا أن تستوفى الحدود فى الحرم ، فأين المزية باعتبار الحكم إذن؟ وحمل الأمر على حالة اختص بها يوم الفتح بعيد ، فإن أمان الفتح ما كان معروفا بمكة إلا لمن أغلق بابه ولمن دخل دار فلان ونحو ذلك ، وأما ما كان من الكفار فى الطرقات والشعاب فلم يكن حينئذ مؤمنا ، والحرم أعم من مكة يتناولها ، ويسمى الحرم كله مقام إبراهيم ؛ لأن المقام فيه وهذا هو الأظهر انتهى كلام الدمامينى.
__________________
(١) مشكاة المصابيح مخطوط لوحة ١٣٠.
(٢) البقرة آية : ٢٢٨.