يرجعوا حيث رأوا الظلم عيانا وتخريب المملكة جهارا ، فقد أقفرت المملكة وأجدبت بذهابهم ، وفقد أهل العلوم وأرباب الصنايع نقص في العمران وهدم للحضارة. ومن هذا العهد صار للمملكة وللقيروان بالخصوص تاريخ جديد أساسه الأمن ورائده العلم ، فيه تعارفت الأمم واقتبست المعارف وانطلقت الألسن وجرت الأقلام ودونت الأخبار ، وسهلت الأسفار وطبعت التاليف ورقيت الصنائع وأتقنت الفلاحة ونمت الغراسة وحفظت الصحة ودونت القوانين ، وها هي المملكة بعد جيل من ذلك التاريخ تتفيأ ظلال الأمن متسنمة ذرى الرقي.
٣ ـ وقد تكون مفارقة الوطن فرارا بالمال الذي يخشى صاحبه على العادية عليه وخروجه من يده فتهون على النفس مفارقة الوطن حبا في المال حبا جما ، وهو في الدرجة الرابعة والوطن في الدرجة الخامسة فيما يظهر في منازل القرب من النفس.
وأولها الدين ثم العرض والشرف ، ثم الحياة ثم المال ثم الوطن. وكل واحدة من هذه يضحى له ما بعده ويهون فقده للإبقاء على السابق منها دون العكس ، مثل العرض ولشرف تضحى الحياة والمال والوطن لأجله أما الدين فلا. والحياة يضحى المال والوطن دونها أما الشرف أو الدين فلا :
يهون علينا أن تصاب جسومنا |
|
وتسلم أعراض لنا وعقول |
وهذا لا يكون إلّا في أيام الدولة المنحرفة عن واجبات العدل والعمران فتمتد أيدي الولاة لأرباب الأموال أو في زمن ضعفها وعجزها عن كف هجمات النهب وقطع أيدي السرقات ، وبذلك لا يأمن السكان على أموالهم فتجدهم لا يظهرونها في هاته الأدوار للانتفاع بها في التجارة ونحوها خوفا من الغايلة جهرا أو خفية. فمن نامت عنه أنظار التفتيش على كنوز الأغنياء وجهلت منه أرباب السعايات والغايات مدافن معادنها استنام وأخلد إلى زوايا منزله يأكل ماله درهما بعد درهم ، وربما لابست هاته الصفات بعض الأغنياء حتى في أدوار العدل ، وهو أمر مشاهد في بعض الأفراد مع كمال الأمن على الأموال وحرية الأعمال في دور الاحتلال لما ألفته نفوسهم من خلال الخوف على إظهار المال مع القصور عن التعرف بطرق الانتفاع بالناض منه. والدنانير كالرجال لها طرق في أسفارها متى علمت واعتيدت كان