[٥٥] (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ)
لقد أصابتهم كلمة إبراهيم في الصميم ، فطرحوا عليه هذا السؤال كمن يعطي نفسه فرصة لإعادة ترتيب أوراقه ولملمة خواطره المتناثرة.
[٥٦] ولكن إبراهيم واصل حجته القوية المنطقية ، وأطبق عليهم بهذه الحقيقة الصارخة التي لا سبيل لانكارها :
(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
لا أحد من آلهتهم كان يدعي أنه خلق السماوات والأرض ، أو أنّه خلقهم. ولذلك فلا بدّ أن يكون الإله الحقيقي لهذا الكون غير الأصنام الصّماء البكماء. وهكذا أصرّ إبراهيم عليه السلام إنه ليس لاعبا ، وليس حديثه من نوع حديث المراهقين الذين يشكون لضعف في عقولهم ـ حاشاه ـ ، بل إنه يدعو وبجد الى ربّ السماوات والأرض ، وهو شاهد على صدق دعواه ، بثبات قوله ، وشجاعة طرحه ، واستعداده للتضحية ، وسلامة نهجه وصدق مواقفه ، وسعادته وفلاحه.
وهنا دحض حجتهم بالكامل ، وانقطعوا عن أيّ جواب ، ولكن النفس البشرية ليست من البساطة بحيث تؤمن بالحق أول ما تراه ، فهناك عوامل معقدة ومتشابكة اجتماعية وثقافية واقتصادية ، تنشأ عنها مصالح واعتبارات يخيل نظريّا للإنسان بأنّه لا يستطيع التخلّي عنها. إنهم عرفوا الحقيقة وانجلت أمام أعينهم ، ولكن إتباعها يتطلب منهم أن يضحوا بالكثير من مكاسبهم المادية ، كالجاه والسلطة والثروة وغيرها. ولذلك لم يبادروا بإعلان قبولهم بالحقّ وخضوعهم له ، بل انهم لاذوا بالصمت كمن ينحني لتمرّ العاصفة بسلام ، ثم يواصل دربه.