ويقوم البلاغى باستثمار تلك الدلالات التى تعطيها تلك الدوال المتعددة لتشكيل الدلالة الفنية لتلك الكلمة.
وينظر البلاغى إلى السياق والمقام الذى سيقت ضمنه تلك الكلمة أولا ، ثم ينظر فى مختلف دلالاتها السابقة ليرى مدى مناسبتها ومطابقتها لمقتضى الحال أو المقام الذى سيقت لأجله.
لقد سيقت تلك الكلمة فى مقام الحديث عن قدرة الله الشاملة على خلق الإنسان وإحاطة علمه به ، واطلاعه سبحانه على خفايا نفسه ، وهواجس ضميره ، وقربه منه سبحانه قربا لا تخفى معه خافية من أحواله على من يعلم السر وأخفى.
ومن هنا تأتى هذه الكلمة القرآنية متآزرة مع ذلك السياق ومناسبة أتم المناسبة لذلك المقام بما لها من دلالات مختلفة صوتية ومعجمية وصرفية ونحوية.
وهنا يستثمر دارس البلاغة الدراسات اللغوية المتعددة ليخرج بدلالة الكلمة فى مختلف دلالاتها اللغوية السابقة ، ليقف على دلالتها الفنية التى هى محصلة تلك الدلالات جميعها.
فمن الناحية المعجمية يقارن البلاغى بين الخيارات المتبادلة مع تلك الكلمة (توسوس) مثل (تتكلم ـ تتحدث ـ تسر ـ تخفى) لينتهى من خلال النظر فى معانى كل كلمة من تلك الكلمات إلى تفوق تلك الكلمة بما لها من مناسبة تامة لسياقها ومقامها لا تقوم به أى كلمة أخرى من البدائل الأخرى ؛ فالوسوسة هى الصوت الخفى غير المميز كصوت الريح أو الحلى مثلا ، ومن هذا القبيل وسوسة الشيطان فهى خفية وغير واضحة ولا مميزة ، بل تتسلل إلى النفس تسللا خفيا لا يكاد يشعر بها المرء ، بحيث لا يفرق بينها وبين نفسه.
ومن هنا تأتى مناسبة كلمة الوسوسة لسياقها لما تدل عليه من الخفاء وعدم التميز والوضوح ، ومع دقتها وخفائها وعدم تميزها ووضوحها تظهر قدرة الله تعالى وسعة علمه فى إحاطته بها وقوفه عليها ، مما يلقى الرهبة ويعظم الخوف فى قلوب العباد من تلك القدرة النافذة ، إلى شغاف القلوب حتى تطلع على خطراتها ووساوسها الخفية التى قد