حذفت لتقدّم ذكرها فى نحو قولك : بمن تمرر أمرر ، وعلى من تنزل أنزل ، ولم تقل : أمر ربه ولا أنزل عليه ، لكن حذفت الحرفين لتقدّم ذكرهما. وإذا جاز للفرزدق أن يحذف حرف الجرّ لدلالة ما قبله عليه (مع مخالفته له فى الحكم) فى قوله :
وإنّى من قوم بهم يتّقى العدا |
|
ورأب الثأى والجانب المتخوّف (١) |
أراد : وبهم رأب الثأى ، فحذف الباء فى هذا الموضع لتقدّمها فى قوله : بهم يتقى العدا ، وإن كانت حالاهما مختلفتين. ألا ترى أن الباء فى قوله (بهم يتقى العدا) منصوبة الموضع لتعلّقها بالفعل الظاهر الذى هو يتّقى ، كقولك : بالسيف يضرب زيد ، والباء فى قوله : (وبهم رأب الثأى) مرفوعة الموضع عند قوم ، وعلى كلّ حال فهى متعلّقة بمحذوف ورافعه الرأب ـ ونظائر هذا كثيرة ـ كان حذف الباء من قوله (والأرحام) لمشابهتها الباء فى (به) موضعا وحكما أجدر ، وقد أجازوا تبّا له وويل على تقدير وويل له ، فحذفوها وإن كانت اللام فى (تبّا له) لا ضمير فيها وهى متعلّقة بنفس (تبّا) مثلها فى هلمّ لك وكانت اللام فى (ويل له) خبرا ، ومعلّقة بمحذوف وفيها ضمير ، فهذا عروض (٢) بيت الفرزدق.
فإن قلت : فإذا كان المحذوف للدّلالة عليه عندك بمنزلة الظاهر فهل تجيز توكيد الهاء المحذوفة فى نحو قولك : الذى ضربت زيد ، فتقول : الذى ضربت نفسه زيد ؛ كما تقول : الذى ضربته نفسه زيد؟ قيل : هذا عندنا غير جائز ؛ وليس ذلك لأن المحذوف هنا ليس بمنزلة المثبت ، بل لأمر آخر ، وهو أن الحذف هنا إنما الغرض به التخفيف لطول الاسم ، فلو ذهبت تؤكّده لنقضت الغرض. وذلك أن لتوكيد والإسهاب ضدّ التخفيف والإيجاز ؛ فلمّا كان الأمر كذلك تدافع الحكمان ، فلم يجز أن يجتمعا ؛ كما لا يجوز ادّغام الملحق ؛ لما فيه من نقض الغرض. وكذلك
__________________
(١) البيت للفرزدق فى ديوانه ٢ / ٢٩ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٢٦ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٨٨٧ ، ولسان العرب (رأب) ، وبلا نسبة فى الخصائص ١ / ٢٨٦. رأب الثأى : إصلاح الفساد. ورأب الصدع والإناء يرأبه رأبا ورأبة : أصلحه. وانظر اللسان (رأب).
(٢) يقال : هذه المسألة عروض هذه ، أى نظيرها. اللسان (عرض).