قال : فما هذه الشاة التي أراها في فناء البيت؟ قالت : شاة خلّفها الجهد عن الغنم ، فقال : أتأذنين في حلابها؟ قالت : لا والله ما ضربها فحل قط. فشأنك بها ، فدعا بها ، فمسح ظهرها وضرعها ثم دعا بإناء يربض (١) الرهط ، فحلب فيه ، فملأه فسقى أصحابه ، عللا بعد نهل ، ثم حلب فيه آخر فغادره عندها وارتحل. فلما جاءها زوجها عند المساء قال : يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوبة في البيت ، والغنم عازبة قلت : لا والله إلّا أنه مرّ بنا رجل ظاهر الوضاءة (٢) ، متبلّج الوجه ، في أشفاره وطف (٣) ، وفي عينيه دعج ، وفي صوته صهل (٤) غصن بين غصنين لا يشان (٥) من طول ، ولا يقتحم (٦) من قصر ، لم تعله (٧) نخلة ولم تزر به صعلة (٨) كأن عنقه إبريق فضة ، إذا صمت فعليه البهاء ، وإذا نطق فعليه وقار ، له كلام كخرزات النّظم ، أزين أصحابه منظرا ، وأحسنهم وجها صلىاللهعليهوسلم ، أصحابه يحفون به ، إذا أمر ابتدروا أمره ، وإذا نهى انتهوا عند نهايته ، قال : هذه والله صفة صاحب قريش ، ولا رأيته لأنعته ولا جهول إذا فعل (٩) قال : فلم يعلموا بمكة أين توجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا على رأس أبي قبيس وهو يقول :
جزى الله خيرا والجزاء يكفه (١٠) |
|
رفيقين قالا خيمتي أم معبد |
هما رحلا بالحق وانتزلا به |
|
قد أفلح من أمسى رفيق محمّد |
فما حملت من ناقة فوق رحلها |
|
أبرّ وأوفى ذمة من محمّد |
__________________
(١) أي يرويهم حتى يثقلوا فيربضوا ، والرهط ما بين الثلاثة إلى العشرة (دلائل البيهقي ١ / ٢٨٢).
(٢) الوطف كثرة شعر الحاجبين والعينين والأشفار مع استرخاء وطول. (اللسان) وفي رواية غطف وقيل عطف ، وهو أن تطول الأشفار ثم تنعطف.
(٣) يعني ظاهر الجمال ، وأبلج الوجه يعني مشرق الوجه مضيئه.
(٤) في صوته صهل ، ويروى صحل ، أي كالبحة ، وهو أن لا يكون حادا (دلائل البيهقي ١ / ٢٨٣).
(٥) كذا بالأصل وخع ، وفي دلائل البيهقي : «تعبه نخلة» والنحل : الدقة والضمر.
(٦) يحتمل أن يكون معناه إنه ليس بالطويل الذي يؤيس مباريه عن مطاولته (دلائل البيهقي).
(٧) وفي رواية : لا تقتحمه عين من قصر ، أي لا تحتقره ولا تزدريه (دلائل البيهقي).
(٨) الصعلة : صغر الرأس. (البيهقي) ، ويقال هي الدقة والنحول في البدن (اللسان) وتروى : الصقلة بالقاف ، قال أبو ذر في شرح السيرة : الصقلة جلد الخاصرة ، يعني أنه ناعم الجسم ضامر الخاصرة.
(٩) كذا بالأصل وخع والمعنى مضطرب ، وفي المطبوعة (السيرة ١ / ٢٧٠) : ولو رأيته لاتّبعته ولأجهدنّ أن أفعل ذلك.
(١٠) في دلائل البيهقي :
جزى الله رب الناس خير جزائه قالا : من القيلولة منتصف النهار.