التكليف قد يكون الحامل على الفعل إكراه الغير له بتوعيد ونحوه ، وقد يكون عقد إجارة ونحوه ، وقد يكون الالتزام بعهد وشبهه ، وقد يكون غير ذلك ممّا لا يخفى على المتدبّر.
الثالثة : قضيّة ما قرّرناه في المقدّمتين كون الطلب كائنا ما كان عبارة عن الحمل ، وهو المنساق منه عرفا ، فالطالب هو الحامل والمطلوب هو المحمول والمطلوب منه هو المحمول عليه ، والأوّل في مقام الاستعمال هو المتكلّم ومن يقوم مقامه كالكاتب والمشير ونحوه وفي مقام التكليف هو الآمر ، والثاني في مقام الاستعمال إفادة المعنى وإفهامه وفي مقام التكليف الفعل المأمور به ، والثالث في مقام الاستعمال هو اللفظ وما يقوم مقامه ممّا ذكر وفي مقام التكليف هو المكلّف المأمور.
وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرناه في المقدّمات عرفت ما هو الصحيح من القولين عمّا هو سقيمهما ، فإنّه لا ينعقد تكليف إلاّ ويتحقّق معه إرادة بالمعنى الثاني وإرادة بالمعنى الثالث سابقة عليها بالمعنى الأوّل منشأ لحدوثها ، وطلب بالمعنى المذكور ، غير أنّ الموضوع له للفظ « الأمر » وصيغه هو الطلب خاصّة والإرادتان لازمتان له سابقتان عليه.
ولا ريب في مغايرته لهما كيف وهو أمر نسبيّ لابدّ في تحقّقه من تحقّق منتسبيه ، بخلاف الإرادة بكلا المعنيين.
وممّا يشهد بمغايرته لها أيضا أنّه معنى إنشائي ولا يتأتّى إلاّ بآلة ، ولذا يضاف إليه الإنشاء ويقال : « إنشاء الطلب » بخلاف الإرادة إذ لا يصحّ أن يقال : « إنشاء الإرادة » وهو كما ترى معنى ظاهر واضح لا خفاء فيه أصلا ، ومن شأنه أن يوضع له لفظ بالخصوص ، بل هو من الواجبات الّتي ليس للواضع الحكيم أن يهمل فيها ، كما هو الحال في سائر المعاني الواضحة الّتي يتداولها عامّة أهل اللسان.
فلا وقع لما احتجّ به العلاّمة ـ بل ولا ينبغي الالتفات إليه ـ من : أنّا لا نجد في « الأمر » أمرا آخر يغاير الإرادة ، بدعوى : أنّ المفهوم ليس إلاّ إرادة الفعل فلو كان هناك أمرا آخر يغايرها فلا يجوز كون اللفظ وضعا بإزائه ، لعدم جواز وضع الألفاظ المتداولة عند عموم أهل اللسان للامور الخفيّة الّتي لا يعقلها إلاّ الخواصّ منهم ، والمفروض منها لكونه في الخفاء بمثابة لا يدركه إلاّ الخواصّ.
ولا لما قيل أيضا من أنّ المتبادر من « الأمر » هو إرادة الفعل من المأمور فيكون حقيقة فيه ، وقضيّة ذلك اتّحادها مع الطلب ، إذ لا قائل بالتغاير بينهما مع القول بدلالة « الأمر » عليها وضعا.