والدليل عليه : بناء العرف وطريقة العقلاء في جميع المخاطبات والمحاورات في كافّة الأعصار والأمصار من لدن أبينا آدم إلى يومنا هذا ، فكما إنّهم مطبقون على حمل كلام كلّ متكلّم على كونه مقصودا به اللفظ والإفهام ، فكذلك مطبقون على حمله عند تجرّده عن القرينة ـ ولو بحكم الأصل ـ على حقيقته ، تعويلا على أصالة الحقيقة ، على معنى ظهورها من غير نكير ولا توقّف ، بل لو اتّفق إنّ أحدا توقّف عن الحمل ، اعتذارا بعدم العلم بالمراد لم يكن عذره مسموعا ، وأطبقوا على ذمّه والتشنيع عليه ، وليس إلاّ من جهة كون التوقّف عن الحمل توقّفا فيما لا ينبغي التأمّل فيه ، ولا ينافيه ما قد يقع من السؤال عن حقيقة المراد لأنّه احتياط يراد به تحصيل الجزم ، لا أنّه بناء على عدم الاعتناء بأصالة الحقيقة.
وهذا كلّه يكشف عن إذن الواضع ، على معنى كون البناء على أصالة الحقيقة وحمل الألفاظ الموضوعة المجرّدة عن قرائن المجاز على معانيها الحقيقيّة إلى أن يظهر خلافه من الخارج ، ممّا رخّص فيه الواضع.
ويدلّ عليه أيضا إجماع العلماء بجميع أصنافهم قديما وحديثا من العامّة والخاصّة على الاعتماد على أصالة الحقيقة من غير نكير ولا توقّف ، وهذا وإن لم يكن من الإجماع المصطلح عليه ليكشف عن رأي المعصوم ، باعتبار عدم كون معقده ممّا بيانه وظيفة المعصوم ، غير أنّه يكشف عن حقيقة مورده ، وهو جواز البناء على أصالة الحقيقة في العمل بالحقائق وترتيب أحكامها على ما قام به الظهور اللفظي.
ولا يصادمه ما عرفته عن ابن جنّي من دعوى غلبة الاستعمالات المجازيّة ، إن كانت مسوقة لإنكار أصالة الحقيقة ـ كما هو أظهر الوجوه المحتملة في عبارته المتقدّمة ـ لابتنائه على أصل فاسد ، لمنع الغلبة المدّعاة ، بل الغلبة في جانب الاستعمالات الحقيقيّة حسبما أشرنا إليه في المقام الثالث ، مع أنّه إن أراد بغلبة الاستعمالات المجازيّة ما هو معتبر في المجاز المشهور ، فهو يقضي بكون الألفاظ بأسرها أو أكثرها مجازات مشهورة. وهذا كما ترى ، كيف والمجاز المشهور في