العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

الشيخ محمد حسين الأنصاري

العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

المؤلف:

الشيخ محمد حسين الأنصاري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-79-x
الصفحات: ١٤٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

في هذا الموطن بالذات بهذا العنوان ، فما بعد ذلك إلاّ العناد.

وإذا صحّ التعبير إنّ هذا وضعٌ شرعي من قبل المشرّع نفسه وليس وضعاً مُتشرعاً ، فحتىٰ لو كان يشمل غيره فهنا قد خصصه الواضع ، فكيف ندعي الشمولية ؟

وهناك قرائن اُخرىٰ ، تفيد الاختصاص نذكرها تباعاً ، قرائن داخلية ، وقرائن خارجية ، بالاضافة إلىٰ ما مرَّ.

القرينة الأولىٰ : إنّه بعد النزول والتحديد بالرداء والكساء ، والحصر بالفعل بعد ان جاء الحصر بالقول كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكد هذا الحصر بهؤلاء عند خروجه للصلاة فيأتي باب الزهراء البتول فاطمة عليها‌السلام وينادي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) كل يوم خمس مرات لمدة تسعة أشهر أو سبعة أشهر أو ستة أشهر علىٰ اختلاف الروايات (١) راجع بذلك كل من الطبري وابن كثير والسيوطي في تفاسيرهم.

وقد قال ابن حجر ( وإنّ أكثر المفسرين علىٰ انّها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين ) (٢).

وتواتر النص بذلك من جماعة من الصحابة والتابعين ، وانهاه ابن جرير

__________________

(١) مسند أبي داود ٨ : ٢٧٤. وأسد الغابة ٥ : ٥٢١. وطبقات ابن سعد ٧ : ٣٠٦. والبداية والنهاية / ابن كثير ٨ : ٢٠٥. والمنتخب / الطريحي : ١٨٦ ط النجف.

(٢) الصواعق المحرقة : ١٤٣.

١٠١

الطبري في تفسيره ـ جامع البيان ـ إلىٰ خمسة عشر طريقا ، والسيوطي في تفسيره ـ الدر المنثور ـ عند تفسير هذه الآية من سورة الاحزاب إلىٰ عشرين طريقاً.

القرينة الثانية : إنّ الآل والأهل تدلاّن علىٰ النسب دون السبب (١) ، بل جاء بالاثر عن زيد بن أرقم عندما سُئل من أهل بيته ، نساؤه ؟!

قال : لا ، وأيم الله ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلّقها ، فترجع إلىٰ أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حُرموا الصدقة بعده (٢).

القرينة الثالثة : قال تعالىٰ : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٣) ، وقد أطبق المفسرون ، واتفقت الرواية ، وأيّده التاريخ : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضر للمباهلة ، ولم يحضر معه إلاّ علي وفاطمة والحسنان عليهم‌السلام ) (٤).

وقد خصّهم الله تعالىٰ قبل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم الأنفس والنساء والأبناء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة ، وبلفظ أنفسنا علي ، بل المراد انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يأتِ في مقام الامتثال إلاّ به وبها ، كشف

__________________

(١) راجع لسان العرب ١١ : ٣٨. والنهاية / ابن الاثير ١ : ٨١.

(٢) الجامع الصحيح / مسلم بن الحجاج ٧ : ١٢٣.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

(٤) الميزان ٣ : ٢٢٣.

١٠٢

ذلك انها هي المصداق الفرد لنسائنا ، وإنّه هو المصداق الوحيد لأنفسنا ، وإنّهما مصداق أبنائنا.

وكان المراد بالأبناء والنساء والأنفس في الآية هو الأهل ، فهم أهل بيت رسول الله وخاصته ، كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر اتيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « اللهمّ هؤلاء أهل بيتي » (١) ، فإنّ معنىٰ الجملة : إنّي لم أجد من أدعوه غير هؤلاء (٢).

فإذا كان كذلك عُلِمَ دخولهم في أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا ريب ولاشك ، وقد استقصىٰ صاحب كتاب خصائص الوحي المبين المصادر والطرق لرواية انّها نزلت في الخمسة من مسند أحمد لغيره ، وأضاف محقق الكتاب الشيخ محمد باقر المحمودي مصادر كثيرة اخرىٰ في تعليقته علىٰ هذا الكتاب (٣) فيسقط بهذا القول الأول ، كما سيأتي وجه

__________________

(١) رويت هذه الجملة في صحيح مسلم ٧ : ١١٩ في باب مناقب علي عليه‌السلام.

(٢) الميزان / الطباطبائي ٣ : ٣٣٨ ط مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

* والعجيب انّ كلَّ المفسرين عندما يصلون إلىٰ هذه الآية المباركة يأخذون بالحديث حول مقام أهل البيت عليهم‌السلام ، ويذكرون الخمسة بالخصوص ويثنون عليهم ، بما أثنىٰ الله تعالىٰ ورسوله عليهم ، إلاّ واحد منهم ـ وهو سيد قطب / في ظلال القرآن ١ : ٤٠٥ ـ أبت نفسه إلاّ نفورا فقال عندما تعرّض لهذه الآية المباركة : ( وقد دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كانوا يناظرونه في هذه القضية الىٰ هذا الاجتماع الحاشد ليبتهل الجميع إلىٰ الله ان ينزّل لعنته علىٰ الكاذب من الفريقين ، فخافوا العاقبة ، وأبوا المباهلة ، وتبيّن الحق واضحاً ). ومن المضحك المبكي انّه صرف وجهه عن اولئك الأطهار وأخذ في مدح المسيح والثناء عليه وعلىٰ أُمّه علىٰ نبينا وآله وعليهما السلام ، فهل الآية نزلت فيهما ؟!! أم ماذا ؟!! إلاّ أنّ غيره قال : ( وفيه دليل ، لاشيء أقوىٰ منه علىٰ فضل أصحاب الكساء عليهم‌السلام ).

راجع : التفسير الكبير / الفخر الرازي. والكشاف / الزمخشري. وتفسير ابن كثير وغيرها.

(٣) راجع : خصائص الوحي المبين / يحيى بن الحسن الحلي المعروف بابن البطريق : ٦٧ ـ ٧٨.

١٠٣

آخر لإسقاطه.

القرينة الرابعة : كثرة الروايات في ذلك (١).

القرينة الخامسة : ونزيد ذلك بياناً بتساؤل مؤدّاه : ما للخطاب عندما يبدأ بالارشاد والامر يبدأ بالنون ، وبه يختم ؟! فإذا وصل إلىٰ هذا المقطع من الآية المباركة انقلبت النون منكفئة ، وظهر بدلها ميم للجمع تصرخ بمل ء فيها انني غير تلك فلاحظوا.

ثم إذا تمّت النعمة واكتمل الامر لكل ذي لب ، رجعت النون تزهو في محلّها بخطابٍ لطيفٍ لنساء كان قدرهنَّ ان يكنَّ أمهاتٍ للمؤمنين ، بأن يذكرن ما يُتلىٰ في بيوتهنَّ من آيات الله والحكمة.

ففي الواقع ان الخطاب لهنّ بالاوامر الالهية قدَّ انتهىٰ بقوله تعالىٰ : ( وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) ثم ابتدأ بعد ذلك المقطع ثانياً بتذكيرهنَّ بان يذكرن ما يُتلىٰ في بيوتهنّ من آيات الله والحكمة ، ومن جملة ذلك ، ذلك المقطع بعينه بالخصوص.

فيتردد ذو اللب بين أمرين :

فإمّا أن يكون خطاباً لهنَّ مع غيرهنَّ من رجالٍ لم يُذكروا أصلاً ، وأمّا ان يكون خطاباً لغيرهنَّ.

__________________

(١) ومن أحب ان يلاحظ اختصاص ـ أهل البيت ـ بالخمسة المباركة فعليه بكتاب اللؤلؤة البيضاء في فضائل الزهراء ، للسيد طالب الخرسان : ٣٣ ـ ٤٥ ذكر في تلك الصفحات روايات جمّة في ذلك مع ذكر لمصادرها ، فليراجع. وذكر مثله السيد الطباطبائي في ميزانه ١٦ : ٣١٦ ـ ٣١٩ روايات عدة في ذلك.

١٠٤

ونقول : هل يصلح الأمر اذا كان الخطاب لمجموعة من النساء أولاً : ( مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) ، ثم يقول المخاطب الحكيم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فأي اذهاب للرجس هذا ، وأي تطهير ؟! فلاحظ.

ثم ألم يلاحظ من يدّعي انّ هذا المقطع لنساء النبي خاصة أو بالاضافة لمجموعة اُخرىٰ ، سينقلب الامرُ عليه وهو مصرٌّ علىٰ ذلك ولا يدري ، وذلك لانّه قال تعالىٰ : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ.. ).

فالاستقرار في البيت أولاً وعدم التبرّج ثانياً يكون علىٰ مبناه من حيث يدري أو لا يدري شرطاً في اذهاب الرجس والتطهير ، واذا باحداهنّ قد خرجت ولم تستقر في بيتها وهي ـ عائشة ـ فعلى هذا ما ذهب الرجس عنها ولم تطهر أصلا ، فإذا وافق بالمقدّم فليوافق في النتيجة واذا رفض النتيجة فالمقدّم مثله باطل فتكون بهذا خارجة من خطاب التطهير واذهاب الرجس ، وهو الامر الذي يصرُّ عليه الحكيم.

وقرينة اُخرىٰ : تبقىٰ قضية السياق ـ وهو مع الأسف ـ غير قابل للدلالة لملاحظات عدّة : وذلك لاتفاق الكلّ حتّىٰ القائل باختصاصها بالنساء وهو القول الشاذ جدّاً ، لا يقول بانّها نزلت سويّة ، بل الكل يعلم بانّ هذا المقطع من الآية المباركة نزل لوحده ، وهذه الأحاديث الكثيرة تنصّ علىٰ ذلك ، ولم ترد ولا رواية واحدة وان كانت ضعيفة جدّاً تذكر انها نزلت بالاضافة إلىٰ بقية الآيات.

١٠٥

القرينة السادسة : بل هذا السياق سيكون مشكلة للذي يتمسّك به ، فاننا إذا اردنا استيعاب الأمر بصورة جيّدة ، علينا ان نجعل الآيات المباركات نصب أعيننا للنظر فنرى..

قال تعالىٰ : ( قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) (١) ، ثم بعد ذلك يذكر المسلمين والمسلمات.. ويبيّن ما أعدّ لهم من مغفرة وأجر عظيم فلاحظ ، والله قد وصف نفسه باللّطف وبكونه خبيرا.. فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وهو يعلم الغيب واسراره ودقائقه... فلاحظ وركّز علىٰ شيء مهم وهو قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فجعلَ الأهل مضافاً للبيت ، الذي هو مفرد وهو معرفة ، ولاحظ بعد ذلك قوله جلَّ ذكره : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٨ ـ ٣٤.

١٠٦

مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) ، فهل تشاهد الفرق البيّن ، والكلام اللطيف.. فقد عبّر في « بيوتكنَّ » وهو جمع ولم يكن مفرداً كما كان في آية التطهير ولم تكن لهذه معرفة إلاّ بالاضافة لهنّ بالخصوص ، وما اضفن إلىٰ البيت الطاهر فأين ذهب التعريف والتشخيص ؟!!

فهل أصبح البيت بيوتاً أم يريد أن يبيّن ان تلك البيوت ليست بذلك البيت ؟

وإن كان ذاك إشارة إلىٰ بيت النبوة وهذه إلىٰ البيوت الطينية إلاّ أنّ في الفرق لعبرة.

لذا قال السيد عبدالحسين شرف الدين رحمه‌الله : ( وقد أجمعت كلمة أهل القبلة ، من أهل المذاهب الإسلامية كلّها علىٰ انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزل الوحي بها ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) عليه ضمَّ سبطيه وأباهما وأمهما إليه ، ثمّ غشّاهم ونفسه بذلك الكساء ، تمييزاً لهم علىٰ سائر الأبناء والانفس والنساء.

فلمّا انفردوا تحته عن كافّة اسرته ، واحتجبوا به عن بقيّة أُمّته بلّغهم الآية ، وهم علىٰ تلك الحال ، حرصاً علىٰ ان لا يطمع بمشاركتهم فيها أحد من الصحابة والآل ، فقال مخاطباً لهم ، وهم في معزل عن كافة الناس : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فازاح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحجبهم في كسائه حينئذٍ حُجُبَ الريب ، وهتك سرف الشبهات ، فبرح الخفاء بحكمته البالغة ، وسطعت أشعة الظهور ببلاغه

١٠٧

المبين ، والحمد لله رب العالمين ) (١).

فإذا تمَّ هذا ، وهو تام ، فلا يبقىٰ مجال لمغمز غامز ، ولا لاشارة مؤشر ولا لحركة متحرّك أن يغيّر ما أراد الله تعالىٰ ورسوله ، إلاّ أن يكون قد غيّر الله عقله فطاش سهمه ، فأصاب مقاتل علمه ونفسه ، وبذلك جنت علىٰ نفسها براقش ، فلا يبقىٰ للسياق ، وكونها في آيات النساء ـ بعد ان علمنا سبب نزولها ، بل واختصاصها بهم عليهم‌السلام دون غيرهم من الذكور والاناث ـ أي مجال للدلالة علىٰ دخولهنّ فيها ، فتسقط بهذا حجيّة السياق أصلاً ، فضلاً علىٰ ان السياق بنفسه ليس حجة مطلقاً.

هذا من جهة ، ومن جهة اُخرىٰ لعلّ وجودها في هذا المكان بالذات لثلاث نكات لطيفة ظهرت لنا وهي :

إنّ هذه الخطابات ، والاعتناء بهذه النسوة بالذات لا لكرامتهنّ عند الله تعالىٰ بما هُنّ نساء مسلمات ، وإلاّ لشمل النداء غيرهنّ من نساء المهاجرين والانصار والنساء المسلمات قاطبة.

بل اختصّ النداء بهنّ لأجل نكتة مفادها كرامة أهل البيت عليهم‌السلام عنده ، وعلو مرتبتهم وطهارتهم.

فهذه النسوة بما انهنّ قد حُسبنَ علىٰ هذا البيت الطاهر فعليه تكليفهن يكون أشد وثوابهنّ يكون أكثر.

__________________

(١) الكلمة الغراء / السيد عبدالحسين شرف الدين : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

١٠٨

فيريد أن يقول لهنّ انتنّ قد اصبحتن محسوبات علىٰ هذا البيت الطاهر فيجب عليكنَّ الالتزام الأشد.

قال الشيخ المظفر في « دلائل الصدق » : ( إنّ هذا التمييز انما هو للاتصال بالنبي وآله عليهم‌السلام ، لا لذواتهنّ فهنّ في محل ، وأهل البيت في محل آخر ، فليست الآية الكريمة إلاّ كقول القائل : يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعففي ، وتستري ، وأطيعي الله تعالىٰ ، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد الله حفظهم من الادناس ، وصونهم من النقائص ) (١) ، هذا أولاً.

وثانياً : إنّ النداء وان كان للنساء المحسوبات علىٰ هذا البيت وهنّ مع شرفهنّ لكرامة هذا البيت ، إلاّ انّه ربّما يصدر عنهنَّ ما يصدر ، كما صدر عن بعضهنّ ، إلاّ انّ هذا لا يغير من مقام أهل البيت ، وسموّه فيبقىٰ علىٰ طهارته ونقائه ، كما في قوله تعالىٰ : ( لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) فأنتم يا أهل البيت مطهرون بتطهير الله تعالىٰ ولا يؤثّر عليكم من حُسِب عليكم بأيّ حالٍ من الاحوال.

وأخيراً يريد أن يبين كرامة أهل البيت عنده ، فعندما تعرَّض للنساء الملتصقات بذلك البيت الطاهر ، وخاطبهن بذلك الخطاب الذي فيه تأديب وتهديد ووعد ووعيد ، اراد أن يرفع كلّ ما التصق من الخطاب ، فيلاطف أهل البيت عليهم‌السلام ويبيّن كرامتهم عنده ، وإلاّ يكون هذا الخطاب ماسّاً لهم بشيء ، فصرف وجهه عن النساء وخاطبهم بألطف خطاب

__________________

(١) دلائل الصدق / الشيخ محمد حسن المظفر ٢ : ٧٢.

١٠٩

وأرقّه ، ثمّ رجع تارة اُخرىٰ للنساء فأكمل خطابه معهنّ.

وهذا من ألطف البيان وأخصره فهو بجملة اعتراضية أراد أن يوضّح كلّ هذا بأتم بيان وأكمله.

فبناءً علىٰ هذا نرىٰ أن ما ذكره بعضهم من أنّ هذا الانتقال لوجهٍ أول مفاده ( تعريفهنّ علىٰ جماعة بلغوا في التورّع والتقىٰ الذروة العليا ، وفي الطهارة عن الرذائل والمساوئ القمة ، وبذلك استحقوا ان يكونوا اسوة في الحياة ، وقدوة في مجال العمل فيلزم عليهنّ ان يقتدين بهم ، ويستضيئن بضوءهم ) (١).

هذا لا تساعد عليه الدقة العربية في التعبير ، لا بلاغة ولا فصاحة ، فالكلام قد ورد علىٰ وجه الحصر الشديد ، والخطاب لأهل البيت عليهم‌السلام أنفسهم فأين كلُّ ذلك الكلام الذي ورد. نعم نوافقه بالوجه الثاني وقد ذكر هنا كوجهٍ أول.

وعلىٰ هذا : ( قد ثبتت عصمة أهل البيت عليهم‌السلام بالوحي العزيز المُتّفق علىٰ روايته من الخاص والعام ، وما كان كذلك صحّ التمسك به ، والاستدلال يوضّح ذلك ، ويزيده إيضاحاً وبياناً ما ذكره أحمد بن فارس اللغوي في كتاب ـ المجمل في اللغة ـ قال : الطهر خلاف الدنس ، والتطهير هو التنزّه عن الإثم وعن كلّ قبيح.

وهذا معنىٰ العصمة ، لأنّ المعصوم هو الذي لا يواقع اثماً ولا قبيحاً ،

__________________

(١) مفاهيم القرآن / الشيخ جعفر السبحاني ٥ : ٣٠٦ ، سنة ١٤٠٧ ه‍.

١١٠

وليس ذلك إلاّ مع تطهير الله عزَّ وجلّ له ، واذهاب الرجس عنه بارادته تعالىٰ ، لا بارادة غيره جلّ وعلا.

ومن ثبت تطهيره بالوحي العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد ، وبالصحاح من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ إجماع الشيعة والسُنّة ، ثبتت عصمته ) (١).

القرينة السابعة والاخيرة : ونرفع أيدينا عن المطلب حامدين وسائلين القوم ، هل تجدون ياعلماءنا ، ويا أهل الفكر والثقافة تناسبا أصلا بين قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) والآية فيها : إنّما وهي تفيد الحصر ، والتحقيق والاثبات ، والمحصور هو الارادة الالهية ، وهذا من العجيب فعندما تقول إنّما الشاعر زيد تريد حصر الشاعرية في زيد دون غيره ، وان كان غيره شاعراً ، وهنا وان كان لله ارادات وارادات إلاّ ان ارادته قد حُصرت في شيء ولا يمكن ان يخلو ذلك الشيء من هذه الارادة.

والارادة متعلقة باذهاب أمر معيّن عن جماعة مخصوصين وفوق استعمال الحصر ليؤكد مطلبه جاء بلام التوكيد وادخلها علىٰ الفعل المضارع ليكون هذا ثابتاً دائماً وفي كل زمن تقرأ فيه الآية الكريمة ، لأنّ الفعل المضارع يستعمل في الزمن الحاضر والملابس له من جهة المستقبل ، فتكون هذه الارادة بالاذهاب دائماً مستمرة ، ومؤكدة بلام

__________________

(١) خصائص الوحي المبين / ابن البطريق : ٧٩ ـ ٨٠.

١١١

التوكيد وهذا من ألطف البيان وأدقه.

ثم وكأنّه يلامس مشاعر اولئك واحاسيسهم بأرق تعبير فجاء بالاهل مضافاً للبيت الذي هو معرفة إما لكونه بيت الله الحرام فجعلهم أهله ، أو بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بيت الوحي ، وهذا من عجيب التعبير.

ويزداد التعبير دقة بالخطاب المباشر لهم في هذه اللحظات الرومانسية إذا صحَّ التعبير ، ثمّ يؤكد هذا الاذهاب أكثر من ذلك فيقول : ويطهركم تطهيراً ، فيعطف التطهير علىٰ الاذهاب ويؤكده بالمصدر ، فهنا توكيد الحصر ، وتوكيد اللاّم ، والاعتناء ، والاتيان بضمير الجمع لزيادة الاعتناء ، ثمَّ يكمل ذلك باظهار الاسم دون الضمير ، ويضيفهم إلىٰ البيت الذي لايخلو ان يكون بيت الله أو رسوله أو الوحي ثُمَّ يؤكد ذلك كلّه بالمصدر.

فأيّ اعتناء من الباري عزَّ وجلَّ بهؤلاء ، وأي مقام لهم وأي علو درجة.

فيا أيُّها العلماء ، والادباء ، والمفكرون ، والمثقفون ويامن درستم لغة الضاد ، بل يا من لديه إلمام بسيط بكلام العرب ، وبلغة القرآن..

أيتناسب ويجتمع كلُّ هذا مع قوله تعالىٰ : ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ) ، أو مع الآية الاُخرىٰ : ( عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ... ) ، أو ان يضرب لهن أخيراً مثلاً ويعرِّض بهنّ تعريضاً شديداً : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا

١١٢

النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) ، هذا أولاً.

وثانياً : الا تجدون ذلك متناغما مع آيات اُخرىٰ قالوا بأنّها نزلت في اولئك المعنيين منها : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) (١).

ومنها : عندما خرج للمباهلة مع النصارىٰ اخرجهم معه ولم يخرج غيرهم لمقامهم السامي عند الله كما ذكرنا ذلك فيما تقدم : ( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) (٢).

ومنها : ما أوجب مودتهم علىٰ كل المسلمين اجراً للرسالة ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (٣).

ومنها : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٤) ، إلىٰ غير ذلك من الآيات ، بل الروايات الواردة في علوّ مقام هؤلاء.. فلماذا وضع الرؤوس في الرمال ؟!

وهم آل بيت نبينا وحبيبنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم وصيّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) سورة الإنسان : ٧٩ / ٧ ـ ١٢.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

(٣) سورة الشورىٰ : ٤٢ / ٢٣.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٥٥.

١١٣

ولو قال قائل منهم عنادا أو جهلاً كما قيل من انّ الفعل المضارع الذي هو ( يريد ) ، و ( يذهب ) ، و ( يطهر ) لا ينبئ عن الوقوع ، بل لا يدل علىٰ المستقبل.

قلنا : أولاً الفعل المضارع يفيد الزمن الحاضر والمستقبل المتصل بالزمن المقال به الكلام ، لا الزمن المستقبل علىٰ الحقيقة ، وللدلالة علىٰ هذا الأخير يضاف علىٰ الفعل المضارع السين أو سوف حسب بعد الزمن وقربه.

ولذا قالوا : ( ويصلح المضارع لوقتين لما أنتَ فيه ، ولما لم يقع كما يقول المبرّد أي للحال والاستقبال ) (١).

مع انّ الفعل المضارع كثيراً ما يستعمل حتىٰ في الماضي فضلاً عن الحال ، قال تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ ) ، وقال تعالىٰ : ( يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ) ، وقال تعالىٰ : ( يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ ) (٢).

ومما جعلوا فيه المستقبل في موضع الماضي قول الصلتان العبدي يرثي المغيرة بن المهلّب :

وانضخ جوانب قبره بدمائها

فلقد تكون أخا دمٍ وذبائحِ

والبيت يستشهد به النحويون علىٰ انّ المضارع ، وهو يكون ، مؤوّل

__________________

(١) معجم القواعد العربية / عبدالغني الدفر : ٤٣٣ ط ١.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٩١. وسورة النساء : ٤ / ٢٨. وسورة الفتح : ٤٨ / ١٥ علىٰ التوالي.

١١٤

بالماضي ، أي ولقد كان ، لأنّه في مرثية ميت ، وهو إخبار عن شيء وقع ، ومضى ، لا اخبار عمّا سيقع لأنّه غير ممكن.

قال ابن الشجري في أماليه ، قال أبو الفتح عثمان بن جني ، قال لي أبو علي سألت يوماً أبا بكر بن السراج عن الأفعال ، فقال : يقع بعضها موقع بعض.

وقال : كان ينبغي للافعال كلها ان تكون مثالاً واحداً ، لأنّها لمعنىً واحد ، ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان ، فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ ، أو حال ، جاز وقوع بعضها موقع بعض (١).

وقال ابن عقيل في ألفية ابن مالك عند تعرّضه لتوكيد الفعل بالنون : ( ما يجوز تأكيده أحياناً ، ولا يجوز تأكيده أحياناً اُخرىٰ وهو المضارع ، والاحيان التي يجوز فيها تأكيده هي : وذكر ثلاثة أحيان ، وسنذكرها إلاّ انّ المعلّق قد علّق علىٰ هذه العبارة ب‍ ( الجامع لهذه المسائل كلها دلالته علىٰ الاستقبال فيها ، وإنّما يقصد العلماء ببيانها تفصيل مواضع دلالته علىٰ الاستقبال ، لأنّه لا يستطيع معرفتها كل أحد ) (٢).

والأماكن هي :

١ ـ أن يقع شرطاً بعد « ان » الشرطية المدغمة في « ما » الزائدة المؤكدة ،

__________________

(١) أمالي السيد المرتضى ٤ : ١٠٩ الهامش ، صححه وضبط ألفاظه وعلق حواشيه الشيخ أحمد بن الامين الشنقيطي ـ مصر ط ١.

(٢) شرح ابن عقيل علىٰ ألفية ابن مالك ، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد ٢ : ٦٥٥.

١١٥

كقوله تعالىٰ : ( إِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) (١).

٢ ـ أن يكون واقعاً بعد اداة طلب ، نحو لتجتهدنَّ ، لاتغفلنَّ ، وكقوله تعالىٰ : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) (٢).

٣ ـ أن يكون منفيّاً بلا ، كقوله تعالىٰ : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ) (٣) ، وله حالة رابعة يجب فيها التوكيد اذا كان مثبتاً ، جواباً لقسم غير مفصول من لامه بفاصل ، ويجب ان يكون دالاً علىٰ المستقبل أيضاً ، كقوله تعالىٰ : ( وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم ) (٤) ، فإذا كان كذلك علمنا انّه اذا خلا الفعل المضارع من هذه أي من أن الشرطية ، ومن الطلب ، ومن النفي ، أو كما في القسم الرابع فحينئذٍ الفعل المضارع يدلّ علىٰ الحال ، ولعلّه لذا جاء التوكيد في الآية المباركة باداة الحصر وباللام وبالمصدر دون نون التوكيد بقسميها لرفع هذا الالتباس.

وأخيراً ختاماً لكلِّ ما تقدّم نقول بانَّ :

الجملة الفعلية : هي التي تتألف من فعلٍ وفاعل أو نائبه ، وللفعل مدلولان : الحدث والزمان.

ولمّا كان الزمان غير ثابتٍ ولا قارٍّ بالحدث لو أخذنا الحدث بما هو حدث ، اذن يكون الفعل مع دلالته علىٰ الزمان بصيغته الماضوية أو

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٠٠. وسورة فصلت : ٤١ / ٣٦.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤٢.

(٣) سورة الأنفال : ٨ / ٢٥.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٥٧.

١١٦

المضارعية أو المستقبلية علىٰ فردٍ من الأزمنة الثلاثة إلاّ انّه يفيد التجدّد.

ولذا قالوا ان الجملة الفعلية ( موضوعة لافادة التجدد والحدوث ).

وأما الجملة الاسمية : ( فتفيد بأصل وضعها ثبوت شيء لشيء ليس غير بدون نظر إلىٰ تجدد ولا استمرار ) (١).

وبهذا نعلم السر في مجيء هذه الآية المباركة بالفعل دون الإسم للدلالة علىٰ تجدد الارادة والاذهاب للرجس والتطهير تطهيراً مؤكداً دائماً ومستمرّاً.

١٣ ـ قال الله سبحانه علىٰ لسان نبيه يوسف عليه‌السلام مخاطباً لصاحبيه في السجن : ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ) (٢).

لو تمعّنا قليلاً في هذه الآية المباركة لرأينا انّه اقرار من قبل نبي من أنبياء الله سبحانه بصفة معيّنة ، قد نقلها الباري عزَّ وجل واقرّها بكتابه العظيم المنزل علىٰ أعظم انبيائه ، واقرار هذا النبي المبارك ، مفاده امتناع صدور الشرك منه بفضل الله تعالىٰ ، وليس هذا فقط بل امتناع صدور الشرك من آبائه وأجداده.

والشرك بالمصطلح القرآني له عدّة معان حتىٰ ان بعضها قد ذكر في

__________________

(١) شرح ابن عقيل ٢ : ٧٥.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٣٩.

١١٧

نفس هذه السورة بالذات : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) (١).

والايمان بالله والشرك به وحقيقتهما تعلّق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبة وتعلّق القلب بغيره تعالىٰ ، مما لا يملك شيئاً إلاّ باذنه تعالىٰ يختلفان بحسب النسبة والاضافة ، فانّ من الجائز ان يتعلّق الإنسان مثلا بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة ، وينسىٰ مع ذلك كلّ حق وحقيقة ، ومن الجائز ان ينقطع عن كلِّ ما يصدّ النفس ويشغلها عن الله سبحانه ، ويتوجّه بكلّه اليه ، ويذكره ولا يغفل عنه ، فلا يركن في ذاته وصفاته إلاّ اليه ، ولا يريد إلاّ ما يريده ، كالمخلصين من أوليائه تعالىٰ.

وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبعد منه ، وهي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع (٢).

فإذا كان كذلك علمنا انّه خالص من ذلك كلّه ، وانّه محض اطاعة له سبحانه ، ولا يمكن له ان يتبع هواه بأي حال من الاحوال.

ومن هذه الآية المباركة بالذات نستطيع ان نستكشف معنىٰ الهمّ الذي همّ به يوسف عليه‌السلام مقابل هم امرأة العزيز.

فإنّ عدم إشراكه بالله طرفة عين يقتضي عدم تعلقه بشيء سوىٰ الله تعالىٰ ومرضاته ، وهذا هو الذي قد كان من فضل الله عليه بالخصوص وعلىٰ الناس بالعموم ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون.

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٦.

(٢) الميزان / الطباطبائي ١١ : ٢٧٦.

١١٨

وكفىٰ به دليلاً علىٰ العصمة له ولابائه ولبقية انبياء الله ورسله عليهم‌السلام مطلقاً ، لأنّ امكان تعلّقه بشيءٍ منافٍ للتوحيد الخالص ولو طرفة عين سينقل الأمر إلىٰ التبعيض ولا قائل بالتبعيض ، كما ان منطوق الآية ينفيه.

١١٩

المبحث الثاني : أدلّة العصمة من السُنّة :

في أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الأطهار من أهل البيت عليهم‌السلام طائفة كبيرة من النصوص التي تدل دلالة صريحة علىٰ عصمة الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام انتخبنا منها هذه المجموعة :

١ ـ عن تفسير الصافي عن الصادقين عليهما‌السلام : « إنّ أيوب عليه‌السلام أُبتلي بغير ذنب سبع سنين ، وانّ الأنبياء معصومون لا يذنبون ، ولا يزيغون ، ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ، ولا كبيراً » (١).

٢ ـ وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « نحن خزّان علم الله ، نحن تراجمة أمر الله ، نحن قوم معصومون ، أمر الله تبارك وتعالىٰ بطاعتنا ، ونهى عن معصيتنا ، نحن الحجة البالغة علىٰ من دون السماء وفوق الأرض » (٢).

٣ ـ وعن الإمام الرضا عليه‌السلام : « إنّ الله يقول في كتابه ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) يعني آل محمد عليهم‌السلام وهم الذين يستنبطون منهم القرآن ، ويعرفون الحلال والحرام ، وهم الحجة لله علىٰ خلقه » (٣).

٤ ـ قال الإمام علي عليه‌السلام : « وقد جعل الله للعلم أهلاً وفرض علىٰ

__________________

(١) تفسير الصافي : ٤٥٠. ورواه كذلك المجلسي في بحار الانوار ١٢ : ٣٤٨ عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام.

(٢) اصول الكافي ١ : ٢٦٩ / ٦.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ، عن الوسائل ٣ : ٣٨٩.

١٢٠