العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

الشيخ محمد حسين الأنصاري

العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

المؤلف:

الشيخ محمد حسين الأنصاري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-79-x
الصفحات: ١٤٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ليعلّمنا أحكامها ، وحدودها.

ولماذا لم يسرق ، حتّىٰ يعلّمنا كيفية قطع يد السارق ، وكيفية اعترافه قبل ذلك ؟! ما هذا كلّه إلاّ خروج عن طريق الصواب. وقياس لغير العبادات والمناسك بها ، وهو كما ترى.

خامساً : وقد قسَّم الشيخ ابن بابويه الناس إلىٰ قسمين :

القسم الأول : النبي والأئمة عليهم‌السلام.

القسم الثاني : بقية الناس.

فالأول من القسمين ليس للشيطان عليهم سبيل. وأمّا الثاني منهما فهم مصاديق للآية المباركة : ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) (١) وعلىٰ من تبعه من الغاوين علىٰ حدِّ تعبيره.

فهو بنفسه الشريفة من أيّ قسمٍ يمكن أن يدخل ، وحاشاه من توليه للشيطان والغواية والشرك ؟!!

سادساً : نقول لماذا يكون ذلك غلواً إذا أخذت بأعناقنا الأدلة العقلية والنقلية عنهم عليهم‌السلام ؟!!

الثاني : النوم :

حدَّ الفقهاء النوم بذهاب حاسة السمع والبصر ، وغيبة إدراكهما عنهما تحقيقاً ، أو تقديراً ، وبما أنه من الحالات الطبيعية للانسان ، فليس فيه

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١٠٠.

٦١

غضاضة علىٰ من يسلبه النوم كلَّ ذلك (١).

وقد وصف القرآن الكريم هذه الحالة بالوفاة ، وجعل الفرق بينها وبين الموت هو الرجوع وعدمه ، قال تعالىٰ : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (٢).

مع هذا كلّه ، فإنّه قد ورد من طرق الفريقين ، وأطبق عليه العام والخاص أنّ من خصوصيات رسولنا الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه تنام عينه ، ولا ينام قلبه.

بل صرَّح بعضهم ب‍ ( أنّ منامات الرسل والأنبياء والأئمة عليهم‌السلام صادقة لا تكذب ، وأن الله عصمهم عن الأحلام ، وبذلك جاءت الأخبار عنهم علىٰ الظهور والانتشار ) (٣).

وقد جاء أنّ سبب نزول هذه الآية المباركة : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٤).

ما روي أن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك ، لمّا قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة سألوه ، فقالوا : يا محمد كيف نومك ، فقد أُخبرنا عن نوم النبي

__________________

(١) مجمع البحرين / الشيخ الطريحي ١ : ١٨٠ المطبعة المرتضوية.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٤٢.

(٣) أوائل المقالات / مصنّفات الشيخ المفيد ٤ : ٧٠.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٩٧.

٦٢

الذي يأتي في آخر الزمان ؟!! فقال : « تنام عيني ، وقلبي يقظان » (١).

فهذا الذي لا ينام قلبه ، حتىٰ في النوم ، كيف ينام قلبه في اليقظة فيسهو أو يخطأ ؟!!

من هنا نرىٰ من أنّه لا مجال للقول بالسهو مطلقاً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا المعنىٰ بعينه نقوله في الإمام ، إذ ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام أنّه قال : « للإمام علامات ، يكون أعلم زمانه ، وأحكم الناس ، وأتقىٰ الناس ، وأحلم الناس ، وأشجع الناس ، وأسخىٰ الناس ، وأعبد الناس ، إلىٰ أن قال عليه‌السلام : وتنام عينه ولا ينام قلبه (٢) ».

وكذا ورد عنهم عليهم‌السلام أنّ « حال الأئمة في المنام حالهم في اليقظة ، لا يُغيّر النوم منهم شيئاً... » (٣).

الثالث : العصمة في الغضب والرضا :

لو قيل : إنّه بشر يتكلّم في الغضب والرضىٰ ، فكيف يكون في كلِّ ذلك معصوماً ؟!!

فإنّه يقال : إنّ القرآن قد صرَّح به وبيّن الفرق فقال تعالىٰ آمراً رسوله

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ١ : ٣٦٣ في تفسير هذه الآية المباركة.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤١٨. ومعاني الاخبار ٢ : ١٠٢. والخصال ١ : ٥٢٧. والاحتجاج / الطبرسي : ٤٣٦. وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٢ / ١.

(٣) الكافي ١ : ٥٠٩ / ١٢.

٦٣

أن يقول للناس من أنّه بشر مثله : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ) ، لكن الفارق قد ذكره تعالىٰ أيضاً بعد أمره بقوله هذا إذ قال تعالىٰ : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (١) فالوحي الالهي له مكانه الخاص به ، وبهذا افترق هذا البشر عن غيره ، إذ قال تعالىٰ : ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (٢). وبيّن طاقة هذا البشر بقوله تعالىٰ : ( لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ ) (٣).

ولذا وردت الرواية علىٰ لسان عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال : ( كنت أكتب كلّ شيء اسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : تكتب كلّ شيء سمعته من رسول الله ، ورسول الله بشر يتكلّم في الغضب والرضىٰ ؟! فأمسكت عن الكتابة.

فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأومأ باصبعه إلىٰ فيه ، وقال : « اكتب فو الذي نفسي بيده ، ما يخرج منه إلاّ حق » (٤).

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١١٠.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٤.

(٣) سورة الحشر : ٥٩ / ٢١.

(٤) سنن أبي داود ٣ : ٣٤٢. واُنظر أيضاً : مسند أحمد بن حنبل ٢ : ٢١٥ عن طريقين. المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ٥٢٨.

٦٤



الفصل الرابع

أدلة العصمة من الكتاب والسُنّة

المبحث الأول : أدلة العصمة من القرآن :

١ ـ قال تعالىٰ : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (١).

( دلّت الآية ـ كما قال القرطبي ـ علىٰ انّ الله عزَّ وجلَّ لا يُخلي الدنيا في وقت من الاوقات من داع يدعو إلىٰ الحق ) (٢).

وقال الجبائي : ( هذه الآية تدلُّ علىٰ أنّه لا يخلو زمان ألبتّة عمّن يقوم بالحق ، ويعمل به ، ويهدي إليه ، وانّهم لا يجتمعون في شيء من الازمنة علىٰ الباطل... ) (٣).

فعليه يمكن ان يقال بأنّ هذه الاُمّة آخر الاُمم ، وانّه لابدّ ان يبقىٰ منها من يقوم بأوامر الله ، حتىٰ يأتي أمر الله.

__________________

(١) سورة الاعراف : ٧ / ١٨١.

(٢) الجامع لاحكام القرآن / القرطبي ٧ : ٣٢٩.

(٣) التفسير الكبير / الفخر الرازي ١٥ : ٧٦ ـ ٧٧.

٦٥

وقال السيد الطباطبائي في « ميزانه » : ( تدل علىٰ انّ النوع الانساني يتضمن طائفة قليلة أو كثيرة مهتدية حقيقة ، إذ الكلام في الاهتداء والضلال الحقيقيين المستندين إلىٰ صنع الله ومن يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فاولئك هم الخاسرون ، والاهتداء الحقيقي لا يكون الا عن هداية حقيقية ، وهي التي لله سبحانه ، وقد تقدم في قوله تعالىٰ : ( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) (١) ، وغيره ، ان الهداية الحقيقية الالهية لا تتخلف عن مقتضاها بوجه ، وتوجب العصمة من الضلال ، كما ان الترديد الواقع في قوله تعالىٰ : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) (٢). يدل علىٰ انّ من يهدي إلىٰ الحقّ يجب ان لا يكون مهتديا بغيره إلاّ بالله.

وعلى هذا فإسناد الهداية إلىٰ هذه الاُمّة لا يخلو عن الدلالة علىٰ مصونيتهم من الضلال ، واعتصامهم بالله من الزيغ إمّا بكون جميع هؤلاء المشار إليهم بقوله : ( أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ) متصفين بهذه العصمة والصيانة كالانبياء والاوصياء ، وإما تكون بعض هذه الاُمّة كذلك ، وتوصيف الكل بوصف البعض نظير قوله تعالىٰ : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) (٣) ، وقوله تعالىٰ : ( وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) (٤) ، وقوله : ( لِّتَكُونُوا

__________________

(١) سورة الانعام : ٤ / ٨٩.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٣٥.

(٣) سورة الجاثية : ٤٥ / ١٦.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٢٠.

٦٦

شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (١) وانّما المتصف بهذه المزايا بعضهم دون الجميع ) (٢).

وبناءً علىٰ كلِّ ما تقدّم نستخلص وجود من يهدي إلىٰ الحقّ ولا يجتمع مع الباطل أصلاً في جميع الازمنة ، ولا يمكن بناءً علىٰ هذا ان يظهر المصداق لهذه الآية المباركة إلاّ علىٰ ما نقول به من وجود الإمام المعصوم في كلِّ وقت.

فالذي يهدي بالحق وبه يعدل لابدّ ان يكون معصوماً كما تقدم ، إمّا اشارة إلىٰ امة معصومة بالذات ، أو إلىٰ الاُمّة المرحومة جميعاً بالاضافة إلىٰ وجود المعصوم فيها في كلِّ وقت.

٢ ـ ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) (٣).

فالضلال منفي عنه ، والغواية منفية عنه. ومن معاني الضلال التي أشار إليها القرآن الكريم : النسيان ، قال تعالىٰ : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ) (٤). ( يريد لئلاّ تنسىٰ إحداهما فسمّىٰ النسيان ضلالاً ، وذلك معروف في اللغة ) (٥).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

(٢) الميزان / الطباطبائي ٨ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ١ ـ ٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٢.

(٥) مصنفات الشيخ المفيد ( كتاب الجمل ) ١ : ١٠٤.

٦٧

وقال تعالىٰ : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (١). فسمىٰ سبحانه المعصية هنا غواية. والغواية تأتي في اللغة بمعنىٰ الخيبة ، وهنا اطلقت لخيبة آدم من ثواب كان مقدّراً له.

قال الشاعر :

ومن يلق خيراً يحمد الناس أمرهُ

ومن يغو لا يُعدم علىٰ الغي

فحينئذ لو أدركنا انّ من معاني الضلال النسيان وان من معاني الغواية المعصية والخيبة نرىٰ أنَّ الباري عزَّ وجلّ قد نفىٰ النسيان والمعصية والخيبة عن نبيه الكريم باطلاق قوله سبحانه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ).

٣ ـ وآيات الاتّباع والاسوة لابدّ ان تكون دالة علىٰ العصمة وإلاّ لاُمرنا باتّباعه والتأسي به حتىٰ عند خطئه وسهوه وهو كما ترىٰ.

مثل قوله تعالىٰ : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٢).

وقوله تعالىٰ : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ) (٣).

وقوله تعالىٰ : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (٤).

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.

(٢) سورة الاحزاب : ٣٣ / ٢١.

(٣) سورة الاعراف : ٧ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٣١.

٦٨

وقوله تعالىٰ : ( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١).

وكذلك آيات الاطاعة الكثيرة سواء كانت مقرونة مع طاعة الله تعالىٰ أو منفصلة بل انّ لسانها كلها ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) (٢) ، فيجب ان يكون معصوماً مطلقاً كما هو واضحٌ بلا مزيد بيان.

٤ ـ وقوله تعالىٰ : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٣).

( دلّت علىٰ ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينطق إلاّ عن وحي ، فيستحيل ان يُسَلِّم في الصلاة في غير محلّه ، ثمّ يتكلم قبل تمام صلاته ، ثمّ يُكذِّب ذا الشمالين ، وهو صادق علىٰ قولكم ، ثمّ يعترف بخطئه ، وكلّ ذلك ينافي مدلول الآية ) (٤).

وقد دلّ السياق للآيات المباركة مع ورود النطق وقد ورد عليه حرف النفي انّ النطق مطلقاً منفي منه الهوى لا خصوص القرآن الكريم ، فلا قرينة هناك مخصّصة لا مقامية كما مال إليه بعضهم ، ولا مقالية ، فتأمل.

فدلّ علىٰ نفي الهوى عن نُطقه مطلقاً ، وان مطلق نطقه وحيٌّ يوحىٰ ، إلاّ إذا قام الدليل علىٰ خلافه ، والأدلة الاُخرىٰ تعضده ، فحينئذٍ توجد قرائن خارجية كثيرة تفيد ذلك فكيف تصرفها عن الظاهر ونقول من انّها

__________________

(١) سورة الاعراف : ٧ / ١٥٨.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٨٠.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ٣ ـ ٤.

(٤) التنبيه بالمعلوم / الشيخ الحر العاملي : ٧٧.

٦٩

في مقام بيان انّ القرآن من الوحي ؟!!

٥ ـ ويمكن ان يستشف من قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (١).

( الاصطفاء والاجتباء والاختيار نظائر ، وهو افتعال من الصفوة ، وهذا من أحسن البيان الذي يُمثَّل به المعلوم بالمرئي.

وذلك انّ الصافي هو النقي من شوائب الكدر فيما يشاهد ، فمثَّل الله خلوص هؤلاء القوم من الفساد ظاهراً وباطناً بخلوص الصافي من شوائب الادناس ) (٢).

وبقرينة الآية المباركة : ( الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وتكرارها في مواضع عدّة من كتابه بهذه الصيغة نستدلُّ علىٰ انّ العالمين جمع عالم ، وهو كل ما خلقه الله تعالىٰ فيشمل ، عالم الملائكة ، وعالم الجن ، وعالم الإنسان ، وعالم الحيوان ، وعالم النبات ، وعالم الجماد ، أو أي عوالم أُخرىٰ يمكن تصورها.

والملائكة كما نعلم من المعصومين علىٰ أصحّ الاقوال ( لَّا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (٣).

ومن هذه الآية نستدل علىٰ انّ الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام أفضل حتىٰ من

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٣.

(٢) مجمع البيان / الطبرسي ٣ : ٤٣٣ في تفسير هذه الآية المباركة.

(٣) سورة التحريم : ٦٦ / ٦.

٧٠

الملائكة ؛ ( لأنّ العالمين يعم الملائكة وغيرهم من المخلوقات ، والله سميع لما تقوله الذرية ، عليم بما يضمرونه فلذلك فضلّهم علىٰ غيرهم لما في معلومه من استقامتهم في أفعالهم وأقوالهم ) (١).

بل من هذا السياق نستدل علىٰ ان نبينا محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء رحمة ليس للناس فقط بل حتىٰ للجماد والحيوان والجن والانس بل حتىٰ للملائكة ، فهو رحمة لكلِّ ما خلق الله ويخلق بدليل قوله تعالىٰ : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٢) ، ومن كانت هذه صفاته بالخصوص ، ومن كانت تلك صفاتهم بالعموم مع تفضلهم علىٰ خلق الله تعالىٰ ومن جملتهم المعصومين الذين هم الملائكة الذين منهم سُجّدٌ لا يركعون ، ورُكّعٌ لا يسجدون قد مُلئت السموات والأرض منهم وعن العبادة لا يفترون..

كيف يتصوّر ان يكون ( الرحمة ) لهم غافلاً عن ذكر الله ، أو فاترا عنه ، ولو للحظة واحدة ، حتىٰ ولو كان سهواً ، وهذا الدليل الاخير بالخصوص مختصٌ بنبينا وآله عليهم‌السلام.

ألا نستشف من ذلك عصمتهم بالاضافة إلىٰ نكاتٍ اخرىٰ لا تخفىٰ علىٰ اللبيب ؟

٦ ـ قوله تعالىٰ : ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ ) (٣).

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٤٣٣.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٧.

(٣) سورة الأعلى : ٨٧ / ٦.

٧١

( وهي عامة ، فانّ المفعول لا يتعين تقديره بالقراءة ، ولا قائل بالفرق بين ماقبل نزول الآية ، وقبل القراءة ، وما بعدها ، فالفارق خارقٌ بالاجماع ) (١). وهذه « اللاّ » ليست ناهية ، بدليل عدم حذف حرف العلة ، فهي إذن نافية فيثبت المطلوب.

٧ ـ قوله تعالىٰ : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (٢).

روىٰ الطبرسي وغيره من طرق العامّة والخاصّة انّها نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وانه قال : « ما سمعتُ شيئاً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنسيتُه » (٣).

وهذا عام مطلقٌ في التبليغ وغيره ، فيستحيل النسيان علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق الأولوية (٤).

٨ ـ قوله تعالىٰ : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (٥).

قال صاحب الميزان : والآية مع الغضّ عن السياق عامّة تشمل كلَّ ما آتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حكم فأمر به ، أو نهىٰ عنه. وقوله : ( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) تحذير لهم عن مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأكيدا لقوله : ( وَمَا

__________________

(١) التنبيه بالمعلوم / الشيخ الحر العاملي : ٧٨.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ١٢.

(٣) مجمع البيان / الطبرسي ، في تفسير هذه الآية المباركة.

(٤) التنبيه بالمعلوم / الشيخ الحر العاملي : ٧٧.

(٥) سورة الحشر : ٥٩ / ٧.

٧٢

آتَاكُمُ الرَّسُولُ ... ) (١).

بل ورد ( في الكافي باسناده عن زرارة انّه سمع أبا جعفر وأبا عبدالله عليهما‌السلام يقولان : « إنّ الله عزَّ وجلَّ فوّض إلىٰ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر خلقه ، لينظر كيف طاعتهم ، ثم تلىٰ هذه الآية ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) » ، والروايات عنهم عليهم‌السلام في هذا المعنىٰ كثيرة ، والمراد بتفويضه أمر خلقه كما يظهر من الروايات امضاؤه تعالىٰ ما شرّعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم ، وافتراض طاعته في ذلك ، وولايته أمر الناس ) (٢).

٩ ـ قال تعالىٰ : ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣).

يمكن البحث في دلالة هذه الآية المباركة كما يلي :

المحور الأول : في معنىٰ الظلم والظالمين نجد في القرآن الكريم إضافة إلىٰ هذه الآية موارد كثيرة : قال تعالىٰ : ( ... وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٤) ، وقال تعالىٰ : ( فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٥) ، وقال تعالىٰ : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ

__________________

(١) الميزان / الطباطبائي ١٩ : ٢٠٤.

(٢) الميزان ١٩ : ٢١٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٤.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٤.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٩٤.

٧٣

هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١) ، وقال تعالىٰ : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (٢) ، وقال تعالىٰ : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٣) ، ويمكن ان يكون الإنسان ظالماً لنفسه ، قال تعالىٰ : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) (٤) ، وقال تعالىٰ : ( وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (٥) ، وقد بيّن كيفية ظلم الإنسان لنفسه بقوله تعالىٰ : ( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (٦) ، وقال تعالىٰ : ( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٧).

مؤدىٰ الآيتين الكريمتين الاخيرتين يجب ألاّ يراد التعدي لحدود الله مطلقاً ، أي سواء كان التعدي عن عمدٍ أم سهو ، لأنّه اذا تعدىٰ حدود الله تعالىٰ عمداً فواضح ، وإذا تعدى سهواً ، فهو متعدٍ ظالم لنفسه ، إلاّ انه معذور فالعقوبة ترتفع إلاّ أنّ الظلم يبقىٰ حتىٰ وإن كان معذوراً.

وبه يظهر ان الإمام يجب ألا يكون مخطئا أصلاً ، وإلاّ لكان ظالماً في ذلك المصداق بالذات ، فيشمله انه من الظالمين ، فلا يمكن ان يناله عهد الله تعالىٰ ، فيجب ان يكون معصوماً مطلقاً.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤٥.

(٢) سورة لقمان : ٣١ / ١٣.

(٣) سورة الشورىٰ : ٤٢ / ٤٢.

(٤) سورة فاطر : ٣٥ / ٣٢.

(٥) سورة الصافات : ٣٧ / ١١٣.

(٦) سورة الطلاق : ٦٥ / ١.

(٧) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٩.

٧٤

المحور الثاني : قال تعالىٰ : ( يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ) (١).

فهذه الآية تُظهر لنا انَّ الظالم في جهة ، وفي الجهة الاُخرىٰ يكون الرسول ، فعليه لا يمكن ان يكونا في مصداقٍ واحد جزماً. ومنه نستشف انَّ الرسول يجب الا يكون ظالماً أصلاً ، ولو نوقش في هذا ، فالمحور الثالث ينجلي فيه الامر أكثر وأنصع.

المحور الثالث : قال إبراهيم عليه‌السلام : ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ... ) طلب هذا الأمر الجليل لبعض ذريته ، ولابدّ وان يكون مقصوده الذي يكون منهم مؤمناً ، فحاشاه ان يطلب هذا الأمر الجليل لغير المؤمن كما هو واضح ، ولأنّه خاطب أباه آزر من قبل فقال له : ( .. أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) (٢) ، فكيف يطلب هذا الامر لضال ؟!

وقد قال كذلك عند البيت الحرام : ( رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... ) (٣) فهو يدعو بالرزق للذين آمنوا خاصة ، فكيف يطلب الإمامة لغيرهم ؟!! هذا أولاً.

وثانيا : لابدّ وان يكون ذلك مؤمناً في حال كونه غير فاسق ، لأنّه يعلم انّ المتلبِّس بالفسق لا يمكن ان يكون إماماً للمؤمنين ، إذ إنّه هو عليه‌السلام لم يحز هذا المنصب إلاّ بعد التسليم المطلق لله تعالىٰ ، وبعد الرسالة ، والخلّة.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٧.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٧٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٦.

٧٥

وهذه المعاني لابدّ وان تكون موجودة في ذهنه المنار بالايمان لدرجة التسليم.

فإذا كان كذلك ، فما معنىٰ قول الباري عزَّ وجلَّ بعد ذلك : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) إذا استثنينا الكافر والفاسق الفعلي الذي يظهر منه انّه قد أخبر بذلك ، لرفع ما ليس متبادراً ومتداعياً في ذهن الخليل عليه وعلىٰ نبينا وآله السلام ، فبيّن له الباري عزّ وجلّ من انّ العهد لا ينال من ليس مؤمناً فحسب بل حتّىٰ المؤمنين الخواص ، وانّ ذلك المقام لابدّ وان يكون للذي لم يرتكب ، ولن يرتكب ظلماً أبداً ، سواء كان متلبساً بالظلم ، أم لا ، مستغفراً وتائباً من ذنبه لله تعالىٰ أم لا ، صغيراً كان أو كبيراً ، كما يُشعر بذلك ، قوله سبحانه : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ويريد ان يبين نكتة اُخرىٰ ، بإنَّ الظلم لا يفارق طبيعة الذرية ، والذرية مجموع ، فعليه أتىٰ بالجمع وقال تعالىٰ : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ولم يقل لاينال عهدي الظالم ، هذا أولاً.

وثانياً : ليبين انّ هناك بعده باشارة لطيفة أئمة وليس إماماً واحداً ، وفي ذريته بالخصوص وإن كان هذا المعنىٰ أبعد غوراً من ذاك.

١٠ ـ قال تعالىٰ : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... ) (١).

نستفيد من هذه الآية المباركة استفادات عديدة ، منها :

الاستفادة الأولىٰ : اطاعة الله سبحانه جاءت في الآية المباركة خالية

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

٧٦

من أيّ قيدٍ ، وبما انّ طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءت كذلك وعطفت علىٰ اطاعته تعالىٰ ، إذاً يجب ان تكون مطابقة لها كما هو الظاهر.

الاستفادة الثانية : بما انّ الله سبحانه منبعُ العصمة ، إذاً يجب ان يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً ، وإلاّ لاختلّت الاطاعة الثانية ولما عُطِفَت علىٰ الاطاعة الأولىٰ كما هو ظاهر.

الاستفادة الثالثة : قوله تعالىٰ في نهاية هذه الآية المباركة : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (١).

يظهر وجوب كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً وإلاّ لطلب منهم ان يردّوه إلىٰ الله فقط ، لئلا يحدث الخطأ بخطأ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما قال في نهاية الآية ( ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) لأنّه ان لم يكن معصوماً لأغرانا الله بالباطل سبحانه وأدلانا به ، هذا أولاً.

وثانياً : إنّ الارجاع إلىٰ الله غير واضح علىٰ ما هو عليه ، لأنّ الله غير ملموس ولا محسوس فالارجاع إليه ارجاع إلىٰ حكمه ، وحكمه مستفاد من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي يمثله (٢).

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

(٢) وقد قال الله سبحانه : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) فردُّوه إلىٰ أن نحكم بكتابه.. « وقد بيّن الإمام علي سلام الله عليه قبل ذلك في نفس الخطبة ، وهذا القرآن إنّما هو خطٌّ بين الدفتين لا ينطق بلسانٍ ولابدّ له من ترجمان وانما ينطقُ عنه الرجال... ». ومن أولىٰ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النطق عنه. نهج البلاغة / شرح الشيخ محمد عبده : ٢٥٨.

٧٧

فقوله تعالىٰ ( فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ ) كافٍ ، أو إلىٰ الرسول كذلك علىٰ هذا ، إلاّ انّه لم يكتف بذلك بل قال فردّوه إلىٰ الله والرسول ، ليبين لنا ان الردَّ إلىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة الردّ إلىٰ الله ، وما بينه الرسول بمنزلة ما بيّنه الله سواءً أظهر هذا الرسول وقال هذا حكم الله ، أم لم يظهر ذلك ، حتىٰ وان قال هذا حكمي كما هو بيّن في أي أمرٍ صدر منه ، وما هذا الامرُ إلاّ العصمة.

ولعلّه لما ذكرنا لم يتكرر حرف الجر ، بل عطف الرسول علىٰ الله بدونه ، ليدلنا علىٰ عدم الاثنينية في ذلك ، بعد ان كرر لفظ الاطاعة ليؤكدها وليركزها في أذهان الذين آمنوا.

الاستفادة الرابعة : عطف أولي الأمر علىٰ الرسول واطاعتهما علىٰ اطاعة الله يقتضي عصمتهم لما قدّمناه في عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بل نقول أكثر ببركة ورود أمر واحد بالاطاعة للرسول ولاولي الأمر فاطاعتهما واحدة ، ولذا لم يذكر أولي الأمر مرة اخرىٰ في نهاية الآية لاندكاكهم في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وللبيان والتوضيح اتىٰ بهم أولاً ، وللاختصار ولبيان وحدتهم بعد أن جعل لهما اطاعة واحدة لم يذكر الا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أخيراً وهو واضحٌ بحمد الله وبركته.

ولو جوّزنا الاّ تكون اطاعة أولي الأمر مطلقة كما كانت اطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للزِمَ ان يكون استعمال اللفظ امّا من باب استعمال المشترك في أكثر من معنىٰ ، وهذا ما لا يجوّزه أكثر أصحاب التحقيق ان لم يكن كلّهم.

٧٨

أو من باب المجاز ، وهو خلاف الظاهر ، فضلاً من ان السياق لا يساعد عليه بعد قوله تعالىٰ : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ.. ) ولم يذكر أولي الأمر لما ذكرناه ، وبعد قوله ختاما : (ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) ، وقد « وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته ، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ورسوله (١).

وقد أقرّ الرازي بدلالة هذه الآية علىٰ العصمة (٢) ولكنّه لحاجةٍ في نفسه أوّل أولي الأمر بأهل الاجماع بلا دليل يرتكز عليه. وقد ردّهُ الشيخ محمد حسن المظفر قدس‌سره في دلائل الصدق (٣) ، وفيه انَّ المنصرف من أولي الأمر من لهُ الزعامة وهذا خلاف أهل الاجماع ، وهذا الرد نوافق عليه.

إنّ ظاهر الآية إفادة عصمة كلّ واحدٍ منهم لا مجموعهم ، لأنّ ظاهرها ايجاب اطاعة كلّ واحدٍ منهم ، وهذا غير واضح من الآية المباركة ، ولذا يستطيع ان يدعي خلافه ، علىٰ ان العمل بمقتضىٰ الاجماع ليس من باب الطاعة لهم ، لأنّ الاجماع من قبيل الخبر الحاكي. وهذا ليس محلّ ذلك ففيه ما فيه.

فلم يبق إلاّ ان التمسك بانّ تأويله لأولي الأمر بأهل الاجماع خلاف الظاهر أصلاً ويحتاج إلىٰ دليلٍ واضح ، لا سبيل له ، ولا دلالة للآية المباركة

__________________

(١) الكافي ١ : ١٨٢ / ٦.

(٢) يراجع للاطلاع علىٰ رأيه تفصيلاً كتابه : مفاتيح الغيب ٣ : ٢٥٧.

(٣) دلائل الصدق / الشيخ محمد حسن المظفر ٢ : ١٧ ـ ١٨.

٧٩

عليهم لا من قريب ولا من بعيد ، مع الانصراف المذكور أولاً فيتعين من له الزعامة والإمامة ، وهو الإمام بزعمنا لا غير.

وقد أشكل الرازي (١) علىٰ انّ المراد بهم الأئمة عليهم‌السلام بوجوه مشوّهة :

الوجه الأول منها : إنّ الطاعة لهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم واذا قلنا انه يجب علينا ذلك ، إذ صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار مشروطاً وهو مطلق.

وفيه :

أ ـ النقض : بطاعة الله ورسوله وطاعة أهل الاجماع علىٰ رأيه.

ب ـ الحل : فالطاعة ليست مشروطة بمعرفتهم وبقدرة الوصول إليهم ، بل مطلقاً كما هي طاعة الله ورسوله... فيجب تحصيل المعرفة بهم ، كما في معرفة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلاّ لو التزمنا بما ذكر في أولي الامر لوجب ذلك أيضاً في الله والرسول وهو كما ترىٰ.

الوجه الثاني : إنّ أولي الأمر جمعٌ وعندهم لا يكون في الزمان إلاّ امامٌ واحد ، وحمل الجمع علىٰ الفرد خلاف الظاهر.

وفيه أنّ المراد هو الجمع ولكن بلحاظ التوزيع في الازمنة ، ولا منافاة فيه للظاهر بل نقول أكثر من ذلك وهو وجوب طاعتهم كلّهم علىٰ حدٍّ سواء ، وان كان الإمام واحداً في كلِّ عصر ، وهذان مقامان مختلفان وهو

__________________

(١) مفاتيح الغيب / الرازي ٣ : ٢٥٧.

٨٠