العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

الشيخ محمد حسين الأنصاري

العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

المؤلف:

الشيخ محمد حسين الأنصاري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-79-x
الصفحات: ١٤٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: F:Book-LibraryENDQUEUEEsmahimagesimage001.gif

١

٢

Description: F:Book-LibraryENDQUEUEEsmahimagesimage002.gif

٣

٤

مقدمة المركز :

الحمدُ لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد ..

إنّ موضوع العصمة هو واحد من المواضيع التي عنيت بها الكتب الكلامية لدى سائر الفرق الإسلامية كواحدة من مفردات العقيدة ، ولكل نظريته في تفسيرها ومنهجه في الاستدلال عليها.

والحديث عن العصمة يقتضي في بادي الأمر تصور من هو المعصوم الذي يُقال بعصمته أوّلاً ومن ثمّ التحقيق في تلكَ النسبة ثانياً.

أمّا من هو المعصوم حقّاً فلا ريب في أنهم ملائكة الله المقربون ورسله وأنبياؤه وأوصياؤهم عليهم‌السلام ، ولم تنسب العصمة إلىٰ غير هؤلاء عليهم‌السلام وأمّا عن عصمة الإجماع على ماينقل عن بعض اصوليي العامة فليست بشيء من التحقيق لإمكان وقوع الخطأ عقلاً على المجمعين مالم يكن المعصوم فيهم ، نعم عصمة القرآن الكريم مفروغ عنها ولكنها خارجة عن محل البحث هذا ، وأمّا عن التحقيق في تلكَ النسبة فلا شك أنه يرتكز على ثلاث شعب :

الاُولى : ويعتمد فيها على استجلاء موقف العقل من مفهوم

٥

العصمة ، وهذا الموقف لابدّ وأن يكون مقراً ومذعناً بها إذ لا يمكن أن يأتمن الله على وحيه إلاّ من يؤتمن جانبه من كل قبيح ومن كلّ ما يتنافى معَ الغرض الذي لأجله نزل الوحي بالشريعة ، كالخطأ والسهو والنسيان ونحو ذلكَ مما يتنزه عنه أمناء الله على وحيه ودينه.

الثانية : السمع ، وهو لا شك متحقق بالمقام سواء في آيات القرآن الكريم أو السنة المتواترة ، وقد تضمن هذا البحث طرفاً من تلكَ الأدلة.

الثالثة : معرفة السيرة الذاتية لمن تثبت له العصمة وهذه الشعبة بالذات تعد في الواقع دليلاً معتبراً جداً خصوصاً فيما يتصل بأوصياء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ سجل التأريخ سيرتهم بصفحات من نور ولم يعثر شانؤوهم على سقطة واحدة قط لأي منهم وإلاّ لطاروا بها زرافات ووحداناً ، وأقل ماقيل عنهم عليهم‌السلام يوجب القول بعصمتهم.

والكتاب الماثل بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ اعتمد هذه الشعب الثلاث في إثبات العصمة ، وألمّ بأطراف الموضوع ، عرضاً ونقداً وتحليلاً ، وأفلح في تنظيم المنتخبات من الأدلة والبراهين على أرجح الأقوال فيهِ ميسراً على القراء سبيل الوصول إلىٰ مبتغاهم في هذه المفردة العقيدية المهمة.

والله من وراء القصد .. وهو الهادي إلىٰ سواء السبيل

مركز الرسالة

٦



المقدِّمة

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام علىٰ محمد وآله المعصومين.

أما بعد : فإنّ الإمام : هو الإنسان الذي له الرئاسة العامّة في أمور الدين والدنيا بالاصالة في دار التكليف (١).

ويُقصد هنا بقيد « الاصالة » ، أي انّ الإمامة من قبل الباري عزّ وجلّ ، لا من قبل أيّ أحدٍ سواه حتّىٰ وإن كان نبيّاً أو مرسلاً ، إذ سلطنة الباري عزّ وجلّ علىٰ مخلوقاته تكونُ أولاً وبالذّات ، ثُمَّ تلك تترشح لمن يشاء كيف يشاء فتكون سلطنة أيّ شخصٍ آخرٍ حينئذٍ بالتّبع لا بالاصالة ، وهذا واضح.

ولعلّ هذا التعريف من أسدّ التعاريف للإمام وأقومها طرداً وعكساً. وهو مختار بعض علمائنا.

__________________

(١) راجع كتاب الألفين / العلاّمة الحلي قدس‌سره : ١٢.

٧

وقد عُرّف الإمام أيضاً بأنّه : هو الذي له الرياسة العامّة في أمور الدين والدنيا خلافةً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وبملاحظة التعريفين يظهر الفرق بينهما.

وعلىٰ كلِّ حالٍ ، فإنّ الإمامة ليست بيد الاُمّة ولا يكون تعيين الإمام من قِبَلها أبداً ، وقد أثبت علماؤنا ذلك في كتبهم بما يغني الباحث عن الحقّ (٢).

ومن الشروط الأساسية لهذا المنصب المهم : العصمة التي هي أمرٌ خفيٌ غير ظاهر لا يعلمه إلاّ الله سبحانه ، ولذلك فإنه هو الذي يشير إليها ، ويعيّن المتصف بها.

وقد وضعنا هذه الرسالة للبحث عنها وعن أدلّتها ...

ومن الأسئلة المهمّة التي يمكن لها أن تستقرَّ في الذهن :

هل بالعصمة نعلم الإمام ؟! أم بالإمام نعرف العصمة ؟!

أي هل من ثبتت لهُ العصمة كان إماماً ؟! أم من ثبتت له الإمامة كان معصوماً ؟!

وبتعبير آخر : أيُّهما المقدّم ؟! فبعضهم أحبَّ تقديم الأول ، وآخرون أحبوا تقديم الثاني.

__________________

(١) مقتبس من تعريف الإمامة / القوشجي ـ تبعاً لصاحب المواقف.

(٢) راجع الإمامة والحكومة في الإسلام : ٢٦. وراجع أيضاً خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الشورىٰ والنصّ ، من اصدارات مركز الرسالة ـ قم.

٨

إلاّ أننا نجد أنّ هناك فرقاً واضحاً بين المقامين.

فالإمام الذي يكون نبيّاً يجب أن نثبت نبوّته أولاً ، ولا تثبت إلاّ بالمعجز وبادعائه معه النّبوة ، فحينئذٍ تبعاً لذاك نُثبتُ عصمته. هذه هي طريقة إثبات عصمة الأنبياء والرسل.

ولو كان الإمام مختفياً بحيث انقطع أثره وخبره وذكرهُ من الناس فنسوه كليّاً ، فحينئذٍ عندما يدّعي الإمامة ، عليه أن يُظهر المُعجِزَ إلىٰ جانب الدعوىٰ ، فتثبت له الإمامة وبها نُثبت عصمته.

وأمّا في حال معرفة الإمام ، فإنّ تعيينه من قبل المُرسَل يكشف عن كونه معصوماً.

لأنَّ العصمة أمرٌ خفيٌ لا يستطيع الوصول إليه الناس ، فالرسول هو الذي يشير إليه.

كما أنَّهُ باختلاف الناس في التعيين وعدمه ، أو في قولهم بالتعيين مع اختلافهم في التشخيص لابدّ من إثبات العصمة حتّىٰ يتعيّن ذلك الشخص.

وبما أنَّهُ أمرٌ خفي فلابدّ أن تثبت العصمة عن طريق النص ، والنص منحصرٌ كما هو معلوم بكتاب الله وبسُنّة من ثبتت عصمته ، كأن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو معصوماً آخر قد ثبتت عصمته بالدليل ـ بكتاب الله وسُنّة نبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

فالذي أراد إثبات عصمة الأنبياء والرسل والأئمة بالطريق الأول عليه

٩

أن يُثبت ذاك عن طريق العقل وحده أولاً ، ثُمَّ بعد ذاك يستأنس ويعمّق استدلاله بالدليل النقلي كما هو مطلوب.

وأمّا الذي يريد أن يثبتَ العصمة عن الطريق الثاني المنحصر باثبات العصمة بالإمام فلابدّ أن يتلمّس الدليل عن طريق النص ، ويستأنس بالدليل العقلي ليؤكد مطلبه ويعززه.

والذي سنعتمده في كتابنا هذا هو تقديم الطريق الأول ؛ لأنَّ أُسَّ الافتراق كان فيه. إذ إنّ الذين آمنوا بالرسل والأنبياء قد وقع الاختلاف بينهم في ثبوت العصمة وحدودها وسعتها ، كما سنرىٰ ، لذا علينا تقديم الدليل العقلي ، ثم الكتاب ، ثم السُنّة بسعتها ومدىٰ دلالتها علىٰ ذلك ، ومدىٰ مطابقة العقل للشرع في هذا المورد بالذات.

محاولين أن نمزج بين الدليلين في مواضع مهمّة اخرىٰ لكي يكون الدليل أقوىٰ وأوضح ، عندما نجد أن النقل جاء علىٰ طبق العقل ، فنتشرّف بذكر كلام المقدَّمين في شرع الله تعالىٰ ونجعله مدخلاً لحديثنا.

وسيكون بحثنا في أربعة فصول :

الأول : في تعريف العصمة ، والثاني : في دراسة ومناقشة الأقوال المختلفة في العصمة ، والثالث : في الأدلة العقلية علىٰ العصمة ، والرابع : في إثبات العصمة عن طريق الكتاب والسُنّة ، ثم ألحقنا ذلك بتتمة في إثبات عصمة الزهراء عليها‌السلام.

وبه تعالىٰ نستعين ، وهو الهادي إلىٰ سواء السبيل

١٠



الفصل الأول

تعريف العصمة

العصمة لغةً :

عَصَمَ ، يعصم من باب ضَرَبَ : حَفَظَ ووقىٰ (١).

فالعصمة في كلام العرب : معناها المنع (٢).

والعاصم : المانع الحامي (٣).

العصمة اصطلاحاً :

عرّف الشيخ المفيد العصمة في الاصطلاح الشرعي بأنّها : ( لطفٌ يفعلُهُ الله تعالىٰ بالمكلّف ، بحيث تمنع منه وقوع المعصية ، وترك الطاعة ، مع قدرته عليهما ) (٤).

__________________

(١) راجع المصباح المنير : ٤١٧ مادة « عَصَمَ ».

(٢) مختار الصحاح : ٤٣٧ مادة « عصم ».

(٣) راجع لسان العرب ١٢ : ٤٠٣ مادة « عصم ».

(٤) النكت الاعتقادية / الشيخ المفيد ١٠ : ٣٧ مصنّفات الشيخ المفيد ط ـ المؤتمر العالمي.

١١

ومِنْ هنا قالوا بانّهُ : ( ليس معنىٰ العصمة انّ الله يجبُرهُ علىٰ ترك المعصية ، بل يفعل به ألطافاً ، يترك معها المعصية ، باختياره ، مع قدرته عليها ) (١).

ولذا قال الشيخ المفيد قدس‌سره : ( العصمة من الله لحججه هي التوفيق ، واللّطف ، والاعتصام من الحجج بهما عن الذنوب والغلط في دين الله ).

والعصمة : تفضّل من الله تعالىٰ علىٰ من علم انّه يتمسك بعصمته ، والاعتصام فعل المعتصم.

وليست العصمة مانعةً من القدرة علىٰ القبيح ، ولا مضطرة للمعصوم إلىٰ الحسن ، ولا مُلجئةً له إليه ؛ بل هي الشيء الذي يعلم الله تعالىٰ إنّه اذا فَعَلهُ بعبدٍ من عبيده ، لم يُؤثِر معه معصيةً له.

وليس كلُّ الخلق يُعْلَمُ هذا من حاله ، بل المعلوم منهم ذلك هم الصّفوة والأخيار ، قال الله تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ ) (٢) ، وقال : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٣) ، وقال : ( وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) (٤).

و « اعلم إنّ العصمة هي : اللّطف الذي يفعله الله تعالىٰ فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح ، فيقال علىٰ هذا انّ الله عصمه بأن فَعَلَ له

__________________

(١) حق اليقين / السيد عبدالله شبر ١ : ٩١.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠١.

(٣) سورة الدخان : ٤٤ / ٣٢.

(٤) سورة ص : ٣٨ / ٤٧.

١٢

ما اختار عنده العدول عن القبيح.

ويُقال : إنّ العبد معصوم لأنّهُ اختار عند هذا الداعي الذي فعل له الامتناع من القبيح.

وأصل العصمة في موضوع اللغة المنع يقال عصمتُ فلاناً من السوء إذا منعت من حلوله به ، غير أن المتكلمين أجروا هذه اللّفظة علىٰ من امتنع باختياره عند اللّطف الذي يفعله الله تعالىٰ به عنده من فعل القبيح ، فقد منعه من القبيح ، فأجروا عليه لفظة المانع قهراً ، وقسراً.

وأهل اللّغة يتعارفون ذلك أيضاً ، ويستعملونه لأنّهم يقولون فيمن أشار علىٰ غيره برأي فقبلهُ منه مختاراً ، واحتمىٰ بذلك من ضررٍ يلحقه ، وسوء يناله انّه حماه من ذلك الضرر ، ومنعه وعصمه منه ، وان كان ذلك علىٰ سبيل الاختيار » (١).

وقد قال المحقق الطوسي قدس‌سره في « التجريد » : ( ولا تنافي العصمة القدرة ).

وقال العلاّمة الحلي قدس‌سره في شرحه لهذه العبارة : اختلف القائلون بالعصمة في انّ المعصوم هل يتمكن من فعل المعصية أم لا ؟! فذهب قوم منهم إلىٰ عدم تمكّنه من ذلك. وذهب آخرون إلىٰ تمكّنه منها.

أمّا الأولون : فمنهم من قال إنّ المعصوم مختص في بدنه ، أو نفسه بخاصيّة تقتضي امتناع إقدامه علىٰ المعصية.

__________________

(١) الامالي / السيد المرتضى ٢ : ٣٤٧ دار إحياء الكتب العربية ـ مصر ط ١.

١٣

ومنهم من قال : إنّ العصمة هي القدرة علىٰ الطاعة ، وعدم القدرة علىٰ المعصية ، وهو قول أبي الحسن البصري.

وأمّا الآخرون الذين لم يسلبوا القدرة : فمنهم من فسّرها : بانّه الأمر الذي يفعله الله تعالىٰ بالعبد من الألطاف المُقرِّبة إلىٰ الطاعات ، التي يعلم معها انّه لا يقدم علىٰ المعصية ، بشرط أن لا ينتهي ذلك الأمر إلىٰ الإلجاء.

ومنهم من فسّرها : بأنّها ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي.

وآخرون قالوا : العصمة لطفٌ يفعله الله لصاحبها ، لا يكون معه داعٍ إلىٰ ترك الطاعات ، وارتكاب المعصية.

وأسباب هذا اللّطف أمور أربعة :

أحدها : أن يكون لنفسه ، أو لبدنه خاصيّة ، تقتضي ملكةً مانعةً من الفجور ، وهذه الملكة مغايرة للفعل.

الثاني : أن يحصل له علم بمثالب المعاصي ، ومناقب الطاعات.

الثالث : تأكيد هذه العلوم بتتابع الوحي ، أو الالهام من الله تعالى.

الرابع : مؤاخذته علىٰ ترك الأولىٰ ، بحيث يعلم انّه لا يُترك مهملاً ؛ بل يُضيَّقُ عليه الأمر في غير الواجب من الامور الحسنة.

فإذا اجتمعت هذه الامور كان الإنسان معصوماً ) (١).

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد / العلاّمة الحلي : ٣٦٥.

١٤

إلىٰ هنا وقفنا علىٰ أربعة تعاريف لمصطلح العصمة ، هي كالآتي :

١ ـ ( لطفٌ يفعله الله تعالىٰ بمكلّف ، بحيث تمنع منه وقوع المعصية ، وترك الطاعة ، مع قدرته عليهما ).

٢ ـ ( الأمر الذي يفعله الله تعالىٰ بالعبد من الالطاف ، المقرِّبة إلىٰ الطاعات التي يعلم معها إنّه لا يقدم علىٰ المعصية ، بشرط ألاّ ينتهي ذلك الأمر إلىٰ الإلجاء ).

٣ ـ ( ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي ).

٤ ـ ( لطفٌ يفعله الله لصاحبها ، لا يكون معه داعٍ إلىٰ ترك الطاعات ، وارتكاب المعاصي ).

ومنه يظهر اتحاد التعاريف الثلاثة : الأول والثاني والرابع ، في المعنىٰ ، وأنّها تكاد تتحد في اللفظ أيضاً.

وأمّا الثالث : فاذا كان مقصودهم من انّ ذلك لطفٌ يفعله الله بمكلّفٍ يجعل له ملكة نفسانية حينئذٍ تكون كلُّ التعاريف واحدة.

وأمّا سبب هذا اللطف لو لاحظناه بدقة لرأينا انه في التعريف الثاني هو « علم » ، وفي الثالث تأكيد هذه العلوم يرجع إلىٰ العلم أيضاً ، والرابع أيضاً يرجع إلىٰ علمه بانّه سيضيَّقُ عليه ، فعليه كلّها ترجع إلىٰ العلم.

يبقىٰ الأول ، ولعلَّ قوله تقتضي ملكة مانعة أيضاً مرجعها إلىٰ العلم فنحصل علىٰ انَّ سبب هذا اللّطف علم في علم ، ولعلّ ذلك حدىٰ بالسيد الطباطبائي قدس‌سره إلىٰ تبني أن قوّة العصمة هي علمٌ خاص.

١٥

وأمّا علىٰ تعريف الشيخ محمدرضا المظفر قدس‌سره من أنّ العصمة : « هي التنزّه عن الذنوب والمعاصي ، صغائرها وكبائرها ، وعن الخطأ والنسيان ، وإن لم يمتنع عقلاً علىٰ النبي ان يصدر منه ذلك ، بل يجب ان يكون مُنزّهاً عمّا ينافي المروءة ، كالتبذّل بين الناس من أكلٍ في الطريق ، أو ضحك عالٍ ، وكل عمل يستهجن فعله عند العرف العام » (١).

فهو أقرب للشرح ، لا للتعريف.

هذا ما اقتضىٰ ذكره حول تعريف العصمة في هذه الرسالة ، ومن أراد التوسّع فليرجع إلىٰ كتب هذا الشأن ، وسنذكر نصوص عبارات عدّة من أعلام الطائفة في العصمة إن شاء الله.

لكن من المهم هنا تبيان قول السيد الطباطبائي الذي ارجع هذه الملكة إلىٰ العلم ، إذ قال في تفسيره « الميزان » تحت عنوان ( كلامٌ في معنىٰ العصمة ) عند تفسيره للآية المباركة : ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) (٢).

( ظاهر الآية انّ الأمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصية والخطأ. وبعبارة اخرىٰ علمٌ مانعٌ

__________________

(١) عقائد الإمامية / الشيخ محمدرضا المظفر ، تحقيق محمدجواد الطريحي : ٢٨٧ مؤسسة الإمام علي عليه‌السلام.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١١٣.

١٦

عن الضلال.

كما ان سائر الأخلاق كالشجاعة والعفّة والسخاء كلٌّ منها صورة علمية راسخة ، موجبة لتحقق آثارها ، مانعة عن التلبس باضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره ، والبخل ، والتبذير.

ومن هنا يظهر ان هذه القوّة المسماة بقوّة العصمة سببٌ شعوري علمي غير مغلوب البتة ، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك لتسرّب إليها التخلّف ، وخبطت في أثرها أحياناً.

فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم ، والإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب.

ثم يقول قدس‌سره ـ : فقد بان من جميع ما قدّمناه انّ هذه الموهبة الالهية التي نسميها قوّة العصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في انه غير مغلوب لشيء من القوىٰ الشعورية البتة ، بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إيّاها ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقاً ) (١).

فقوله : ( إنّ الأمر الذي تتحقق به العصمة نوعٌ من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ ) قول دقيق وصحيح ، فالعلم أمرٌ تتحقق به العصمة ، أي ان العصمة شيء والعلم أمرٌ آخر.

ويمكن ان يقال حينئذٍ انّ العلم بلا ريب له تأثيره الأكبر في العصمة ،

__________________

(١) الميزان / السيد الطباطبائي : ٥ / ٧٨ ـ ٨٠.

١٧

ولذا قال تعالىٰ : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (١) ، فحتىٰ الخشية ولعلّها من مراحل العصمة الأولىٰ أيضاً منشؤها العلم ، ولذا حصر الخشية لله من عباده بالعلماء كما هو ظاهر الآية ، وهذا تامٌّ لا غبار عليه.

إلاّ أنّ قوله بعد ذلك : ( ومن هنا يظهر ان لهذه القوّة المسماة بقوّة العصمة سببٌ شعوري علمي غير مغلوب ألبتّة ) يوجب إرباكاً ، فهو يجعل قوّة العصمة : قوةً وسبباً شعورياً علمياً غير مغلوب. ثم نراه يقول أخيراً : ( فقد بان من جميع ما قدّمناه ان لهذه الموهبة التي نسميها قوّة العصمة نوعٌ من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في انّه غير مغلوب لشيء من القوىٰ الشعورية البتّة ).

فيُعرِّف العصمة بالعلم.

بل في استطراد كلام له في موضع آخر يقول بصريح العبارة : ( العصمة الالهية : التي هي صورة علمية نفسانية تحفظ الإنسان من باطل الاعتقاد ، وسيّء العمل ) (٢).

وللتحقيق في هذا مجالٌ آخر ، وإنّما كان قصدنا تذكير القارئ بذلك ليراجع مظانّه إن شاء.

ولنتبرّك بذكر بعض معاني العصمة من كلام الإمام الرضا عليه‌السلام : « إنّ الإمامة خصَّ الله عزَّ وجلَّ بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوة

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٨.

(٢) الميزان / السيد الطباطبائي ١٦ : ٣١٢.

١٨

والخلّة ، مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها ، وأشاد بها ذكره ، فقال : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ..

إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء... إنّ الإمام زمام الدين ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا ، وعزّ المؤمنين ... .

الإمام يحلُّ حلال الله ، ويحرّم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذب عن دين الله ، ويدعو إلىٰ سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة ...

الإمام الماء العذب علىٰ الظماء ، والدال علىٰ الهدىٰ ، والمنجي من الردىٰ... والدليل في المهالك من فارقه فهالك... الإمام المطهّر من الذنوب المبرّأ عن العيوب... الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير مخصوص بالفضل كلّه ، من غير طلب منه له ، ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضِّل الوهاب. فمن الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره ؟! هيهات هيهات ... .

فكيف لهم باختيار الإمام ؟ والإمام عالم لا يجهل ، وراعٍ لا ينكل معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ...

١٩

نامي العلم ، كامل الحلم ، مضطلع بالإمامة ، عالم بالسياسة ، مفروض الطاعة ، قائم بأمر الله عزَّ وجلَّ ناصح لعباد الله ، حافظ لدين الله (١).

__________________

(١) اُصول الكافي / الكليني ١ : ١٩٨ / ١ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ، كتاب الحجّة.

٢٠