العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

الشيخ محمد حسين الأنصاري

العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

المؤلف:

الشيخ محمد حسين الأنصاري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-79-x
الصفحات: ١٤٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



الفصل الثاني

الأقوال في العصمة

قد وقع الاختلاف بين العلماء في عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، وقد أرجع الشيخ المجلسي هذه الاختلافات إلىٰ أربعة محاور :

أحدها : ما يقع في باب العقائد.

وثانيها : ما يقع في التبليغ.

وثالثها : ما يقع في الأحكام والفتيا.

ورابعها : في أفعالهم وسيرهم عليهم‌السلام.

قال رحمه‌الله : فأمّا الكفر والضلال في الاعتقاد :

فقد أجمعت الاُمّة علىٰ عصمتهم عنهما قبل النبوة وبعدها.

غير أنّ الازارقة من الخوارج (١) جوّزوا عليهم الذنب ، وكلُّ ذنبٍ عندهم كفر ، فلزمهم تجويز الكفر عليهم ، بل حُكي عنهم أنهم قالوا يجوز

__________________

(١) وهم فرقة متشددة منهم ، تنسب إلىٰ  (نافع بن الازرق ).

٢١

أن يبعث الله نبيّاً عَلِمَ أنّه يكفر بعد نبوته !

وأمّا النوع الثاني ، وهو ما يتعلّق بالتبليغ :

فقد اتّفقت الاُمّة بل جميع أرباب الملل والشرائع علىٰ وجوب عصمتهم عن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ عمداً وسهواً إلاّ القاضي أبو بكر ، محمد بن الطيب الباقلاني البصري المتكلم الأشعري ( ت / ٤٠٣ ه‍ ) (١) ، فإنّه جوّز ما كان من ذلك علىٰ سبيل النسيان ، وفلتات اللّسان.

وأمّا النوع الثالث : وهو ما يتعلق بالفتيا :

فاجمعوا علىٰ أنّه لا يجوز خطؤهم فيه عمداً وسهواً ، إلاّ شرذمة قليلة من العامّة.

وأمّا النوع الرابع : وهو الذي يقع في أفعالهم :

فقد اختلفوا فيه علىٰ خمسة أقوال :

الأول : مذهب أصحابنا الإمامية : وهو أنّه لا يصدر عنهم الذنب لا صغيره ولا كبيره ، لا عمداً ولا نسياناً ، ولا يخطأ في التأويل ، ولا للاسهاء من الله سبحانه.

ولم يخالف فيه إلاّ الصدوق ، وشيخه محمد بن الحسن بن الوليد قدس‌سرهما ، فإنّهما جوّزا الاسهاء ، لا السهو الذي يكون من الشيطان.

__________________

(١) ولد في البصرة ومات في بغداد ، له مؤلفات عدّة منها : « اعجاز القرآن » ، « التمهيد ».

٢٢

وكذا القول في الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام.

الثاني : قول أكثر المعتزلة : وهو أنّه لا يجوز عليهم الكبائر ، ويجوز عليهم الصغائر ، إلاّ الصغائر الخسيسة المنفّرة كسرقة حبة ، أو لقمة ، وكل ما ينسب فاعله إلىٰ الدناءة والضّعة.

الثالث : قول أبي علي الجبائي (١) : وهو أنّه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ، ولا كبيرة علىٰ جهة العمد ، لكن يجوز علىٰ جهة التأويل ، أو السهو.

الرابع : قول النظام (٢) وجعفر بن مبشر ومن تبعهما : وهو أنّه لا يقع منهم الذنب إلاّ علىٰ جهة السهو والخطأ ، لكنّهم مؤاخذون بما يقع منهم سهواً ، وإن كان موضوعاً عن أُممهم لقوّة معرفتهم وعلو رتبتهم ، وكثرة دلائلهم ، وإنّهم يقدرون من التحفظ علىٰ ما لايقدر عليه غيرهم.

الخامس : قول الحشوية (٣) ، وكثير من أصحاب الحديث من العامّة : وهو أنّه يجوز عليهم الكبائر والصغائر ، عمداً وسهوا وخطأً (٤).

ثمّ اختلفوا في وقت العصمة علىٰ ثلاثة أقوال :

__________________

(١) محمد بن عبدالوهاب ، توفي سنة ٣٠٣ ه‍ ، وينسب إلىٰ ( جبّا ) وهي منطقة تقع جنوب ايران ، وهو أحد علماء البصرة والفرقة التي تنسب إليه تسمى ب‍ ( الجبّائية ) وهي فرقة من المعتزلة.

(٢) إبراهيم بن سيّار وهو تلميذ أبي الهذيل العلاّف ( متكلم معتزلي ) ، كان في البصرة ، وبغداد. ويعدُّ أحد اساتذة الجاحظ ، والفرقة التي تنسب إليه تسمّىٰ ب‍ ( النظامية ).

(٣) وهم المحدِّثون من العامّة الذين ينفون تأويل الأحاديث ، والكتاب الكريم ، ويأخذونهما علىٰ الظواهر.

(٤) بحار الأنوار / العلاّمة المجلسي ١١ : ٨٩ ـ ٩٠.

٢٣

الأول : وهو مذهب أصحابنا : وهو أنّه من وقت ولادتهم إلىٰ أن يلقوا الله سبحانه.

الثاني : مذهب كثير من المعتزلة : وهو أنّه من حين بلوغهم ، ولا يجوز عليهم الكفر والكبيرة قبل النبوة.

الثالث : وهو قول أكثر الأشاعرة ومنهم الفخر الرازي ، وبه قال أبو هذيل (١) ، وأبو علي الجبائي من المعتزلة : إنّه وقت النبوة ، وأمّا قبله فيجوز صدور المعصية عنهم.

هذا مجمل القول في الآراء حول العصمة.

أقوال علمائنا في عصمة الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام :

ونقتنص بعض أقوال علمائنا ، المفيدة للعصمة المطلقة ، بالاضافة إلىٰ ما مرَّ علينا في مطاوي البحث :

قال الشيخ المفيد قدس‌سره : ( إنّ الذي أذهب إليه في هذا الباب إنّه لا يقع من الأنبياء عليهم‌السلام ذنب بترك واجب مفترض ولا يجوز عليهم خطأ في ذلك ولا سهو يوقعهم فيه ، وإن جاز منهم ترك نفل ومندوب إليه علىٰ غير القصد والتعمد ، ومتىٰ وقع ذلك منهم عوجلوا بالتنبيه عليه فيزولون عنه في أسرع مدة وأقرب زمان ، فأما نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة والأئمة من ذريته عليهم‌السلام فلم يقع منهم صغيرة بعد النبوة والإمامة ، من ترك واجب ، ولا مندوب إليه ، لفضلهم علىٰ من تقدّمهم من الحجج عليهم‌السلام ، وقد نطق القرآن بذلك ،

__________________

(١) محمد العلاّف ولد في البصرة ، وتوفي سنة ٢٣٥ ه‍ ، وهو أحد علماء المعتزلة.

٢٤

وقامت الدلائل منه ومن غيره علىٰ ذلك للأئمة من ذريته عليهم‌السلام ) (١).

السيد المرتضىٰ علم الهدىٰ رضي‌الله‌عنه : وعندما يذكر السيد المرتضىٰ علم الهدىٰ ما يحتج به علىٰ صواب جميع ماانفردت به الإمامية ، أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء ، يذكر اجماعها علىٰ ذلك الامر ، ثمّ يبيّن سبب حجيّة ذلك الاجماع بقوله : ( إنّما قلنا ان اجماعهم حجة لان في اجماع الامامية قول الإمام الذي دلت العقول علىٰ ان كلّ زمان لا يخلو منه ، وانه معصوم لا يجوز عليه الخطأ في قولٍ ، ولا فعل ) (٢).

الشيخ الطوسي شيخ الطائفة قدس‌سره : قال ردّاً لحديث ذي الشمالين في سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وهذا ممّا تمتنع العقول منه ) (٣).

وقال في « الاستبصار » : ( وذلك مما تمنع منه الأدلة القاطعة في انّه لا يجوز عليه السهو والغلط ) (٤).

الخواجه نصير الدين الطوسي رضي‌الله‌عنه : ( ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض.

ثم أضاف قدس‌سره ـ : وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو ، وكلّما ينفّر عنه ، من دنائة الآباء ، وعهر الامهات ، والفظاظة

__________________

(١) مصنفات الشيخ المفيد / الشيخ المفيد ٢ : ١٠٣.

(٢) الانتصار / السيد المرتضى : ٦.

(٣) التهذيب / الطوسي ٢ : ١٨٠.

(٤) الاستبصار / الطوسي ١ : ٣٧١.

٢٥

والغلظة ، والاُبنة وشبهها ، نحو الأكل علىٰ الطريق وشبهه ) (١).

ثم قال قدس‌سره في عصمة الإمام : ( وامتناع التسلسل يوجب عصمته ، ولأنّه حافظ للشرع ، لوجوب الانكار عليه لو أقدم علىٰ المعصية فيضاد امر الطاعة ، ويفوت الغرض من نصبه ، ولانحطاط درجته عن أقل العوام ) (٢).

وقال العلاّمة الحلي قدس‌سره : وقالت الإمامية إنّه يجب عصمتهم من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها (٣) ، ثم ساق أدلة حول ذلك.

ثم قال قدس‌سره : ذهبت الإمامية والاسماعيلية إلىٰ ان الإمام يجب ان يكون معصوماً ، وخالف فيه جميع الفرق (٤) ، ثمَّ ساق الأدلة علىٰ ذلك.

وقد علّل عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقاً أي عدم جواز السهو والخطأ عليه بقوله قدس‌سره : ( إنّه لو جاز عليه السهو والخطأ ، لجاز ذلك في جميع أقواله وأفعاله ، فلم يبق وثوق باخباراته عن الله تعالىٰ ، ولا بالشرائع والاديان ، لجواز ان يزيد فيها وينقص سهواً ، فتنتفي فائدة البعثة.

ومن المعلوم بالضرورة : ان وصف النبي بالعصمة ، أكمل وأحسن من وصفه بضدها ، فيجب المصير إليه ، لما فيه من دفع الضرر المظنون ؛

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / الطوسي ، تعليق الشيخ حسن زاده آملي : ٣٤٩ ، مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) المصدر نفسه : ٢٦٤.

(٣) المصدر نفسه : ٣٤٩.

(٤) المصدر نفسه : ٢٦٤.

٢٦

بل المعلوم ) (١).

وقال في « نهج المسترشدين » : ( إنّه لا يجوز أن يقع منه الصغائر والكبائر لا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً في التأويل.

ويجب ان يكون منزّها عن ذلك كلّه من أول عمره إلىٰ آخره ).

وقال الفاضل المقداد قدس‌سره : ( وأصحابنا حكموا بعصمتهم مطلقاً قبل النبوة وبعدها عن الصغائر والكبائر عمداً وسهواً ، بل وعن السهو مطلقاً ، ولو في القسم الرابع ، ونقصد به الافعال المتعلّقة بأحوال معاشهم في الدنيا مما ليس دينياً ) (٢).

وقال الشيخ بهاء الدين في جواب « المسائل المدنيات » : ( عصمة الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام من السهو والنسيان ، مما انعقد عليه اجماعنا ) (٣).

وقال الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي قدس‌سره : ( وأما علم الحديث فهو من أجلَّ العلوم قدراً وأعلاها رتبة وأعظمها مثوبة بعد القرآن ، وهو ما أُضيف إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلىٰ الأئمة المعصومين ، قولاً أو فعلاً أو تقريراً أو صفة حتىٰ الحركات والسكنات واليقظة والنوم ) (٤) ، وهذا ظاهر بالشمول التام.

__________________

(١) الرسالة السعدية / العلامة الحلي : ٧٦.

(٢) ارشاد الطالبين إلىٰ نهج المسترشدين / الفاضل السيّوري : ٣٠٤.

(٣) نقلاً عن كتاب « التنبيه بالمعلوم » / الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، تحقيق محمود البدري : ٥٩ مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي.

(٤) منية المريد في آداب المفيد والمستفيد / الشهيد الثاني : ١٩١.

٢٧

وقال العلاّمة المجلسي صاحب البحار قدس‌سره : ( اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة ، والملائكة عليهم‌السلام أنهم معصومون ، مطهّرون من كلِّ دنس ، وانّهم لا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً ، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

ومن نفىٰ عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم ، واعتقادنا فيهم انّهم موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم الىٰ أواخرها ، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا جهل ) (١).

وقال في موقع آخر : ( العمدة في ما اختاره أصحابنا من تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام من كل ذنب ودناءة ومنقصة قبل النبوة وبعدها قول ائمتنا عليهم‌السلام بذلك المعلوم لنا قطعنا باجماع أصحابنا رضوان الله عليهم مع تأييده بالنصوص المتظافرة حتىٰ صار ذلك من قبيل الضروريات في مذهب الإمامية ، وقد استدل عليه أصحابنا بالدلائل العقلية وقد أوردنا بعضها في شرح كتاب الحجة ، ومن أراد تفصيل القول في ذلك فليرجع إلىٰ كتاب ( الشافي ) و ( تنزيه الأنبياء ) وغيرهما من كتب أصحابنا.

والجواب ، مجملاً عمّا استدل به المخطؤون من اطلاق لفظ العصيان والذنب فيما صدر عن آدم عليه‌السلام هو انّه لمّا قام الدليل علىٰ عصمتهم نحمل هذه الألفاظ علىٰ ترك المستحب والأولىٰ ، أو فعل المكروه مجازاً ، والنكتة فيه كون ترك الأولىٰ ومخالفة الأمر الندبي

__________________

(١) بحار الانوار / المجلسي ١١ : ٧٢ باب عصمة الأنبياء عليهم‌السلام.

٢٨

وارتكاب النهي التنزيهي منهم مما يعظم موقعه لعلو درجتهم وارتفاع شأنهم ) (١).

وقال الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي : ( ذكر السهو في هذا الحديث وأمثاله ـ يقصد حديث السهو ـ محمول علىٰ التقية في الرواية ، كما أشار إليه الشيخ وغيره ، لكثرة الادلة العقلية والنقلية علىٰ استحالة السهو عليه مطلقاً.

ثم انظر في رسالته الموسومة ب‍ « التنبيه بالمعلوم » أو ( البرهان علىٰ تنزيه المعصوم من السهو والنسيان ) تجد ما يدحض به الرأي الشاذ في ذلك.

وتحت عنوان ( في جملة من عبارات علمائنا وفقهائنا المصرّحين بنفي السهو عن النبي والأئمة عليهم‌السلام في العبادات وغيرها ) كتب الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، صاحب « وسائل الشيعة » : ( إنّ علماءنا وفقهاءنا قد صرّحوا بذلك في أكثر كتبهم في الفروع ، وصرّحوا في جميع كتب الاصول بنفي السهو عنهم عليهم‌السلام علىٰ وجه العموم والاطلاق الشامل للعبادة وغيرها ، وأوردوا أدلة كثيرة شاملة للعبادة ) (٢).

وأورد أقوال شيخ الطائفة الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتبه المختلفة ، والشيخ المفيد ، والمحقق الحلي في « المختصر النافع » ، والعلاّمة الحلي ، والفاضل المقداد ، والشيخ البهائي ، والشيخ

__________________

(١) بحار الأنوار ١١ : ٩١.

(٢) التنبيه بالمعلوم ( البرهان علىٰ تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان ) : ٤٧ تحقيق محمود البدري ، اصدار مركز النشر لمكتب الاعلام الاسلامي ط ١.

٢٩

الشهيد الأول ، والمحقق الطوسي ، وأخيراً قول السيد ابن طاووس (١).

والحق عندنا معاشر الإمامية وجوب العصمة في الملائكة والأنبياء والاوصياء عليهم‌السلام ، في تمام العمر مطلقاً سواء كان فيما يتعلق بالاعتقاد ، أو فيما يتعلق بالتبليغ ، أو فيما يتعلق بالفتوىٰ ، أو فيما يتعلق بالاحوال والافعال ، صغائر كانت أو كبائر ، ولا يجوز السهو والنسيان عليهم (٢).

وقال الشيخ محمد رضا المظفر قدس‌سره : ( ونعتقد ان الأنبياء معصومون قاطبة ، وكذلك الأئمة عليهم جميعاً التحيات الزاكيات.

وقال بعد ذلك : ونعتقد ان الإمام كالنبي يجب ان يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ، ما ظهر منها وما بطن ، من سنّ الطفولة إلىٰ الموت ، عمداً وسهواً.

كما يجب ان يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان ، لأنّ الأئمة حفظة الشرع ، والقوّامون عليه ، حالهم في ذلك حال النبي ، والدليل الذي اقتضانا ان نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا ان نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق (٣).

وقال الشيخ الآملي : ( الحق ان السفير الالهي مؤيّد بروح القدس ، معصوم في جميع أحواله وأطواره وشؤونه قبل البعثة ، أو بعدها.

__________________

(١) التنبيه بالمعلوم : ٤٧ ـ ٦٥.

(٢) شرح الاسماء الحسنى / السبزواري ٢ : ٣٧.

(٣) عقائد الإمامية : ٣١٣ باب عقيدتنا في عصمة الإمام ، ط مؤسسة الإمام علي عليه‌السلام.

٣٠

فالنبي معصوم في تلقي الوحي وحفظه وابلاغه ، كما انّه معصوم في أفعاله مطلقاً بالأدلة العقلية والنقلية.

فمن اسند إليه الخطأ فهو مخطئ ، ومن اسند إليه السهو فهو أولىٰ به.

ونقل الروايات والاخبار ، بل الآيات القرآنية في ذلك ، يؤدي إلىٰ الاسهاب ، وتنزيه الأنبياء لعلم الهدىٰ السيد المرتضى اغنانا عن ورود البحث عن هذه المسائل ) (١).

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / الشيخ حسن زاده آملي : ٥٩٣.

٣١
٣٢



الفصل الثالث

الأدلة العقلية علىٰ العصمة

توطئة خاصة :

قال الإمام أبو عبدالله الصادق عليه‌السلام : « إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا ، وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، لا يلامسهم ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ، ولا يحاجّهم ولا يحاجّوه. فثبتَ أنّ له سفراء في خلقه وعباده ، يدلّونهم علىٰ مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه. ثبت عند ذلك أنّ له معبرين ، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء ، مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في أحوالهم ، علىٰ مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب (١) ».

__________________

(١) التوحيد / الشيخ الصدوق قدس‌سره : ٢٤٩.

٣٣

ولعلّه من هنا وممّا علىٰ شاكلته ، استفيدت مقدّمات ما جعلوه بياناً وأسّسوا عليه قاعدة متينة تسمىٰ بقاعدة « اللطف » وخلاصة ذلك :

أنّه تعالىٰ لا يشاهده خلقه ، ولا يلامسهم ، ولا يلامسوه ، ولا يحاجّهم ، ولا يحاجّوه ، إذن لابدّ من وجود سفراء له في خلقه وعباده.

وهؤلاء هم الذين يدلّونهم علىٰ مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم ، فثبت حينئذٍ الآمرون والناهون ، عن الحكيم العليم في خلقه.

ولذا قد ورد : « إنّ الخلق لمّا وقفوا علىٰ حدٍّ محدود ، وامروا ان لا يتعدّوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم ، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم أميناً يأخذهم بالوقف عندما أُبيح لهم ، ويمنعهم من التّعدّي والدخول فيما حظر عليهم ، لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحدٌ لا يترك لذَّته ومنفعته لفساد غيره ، فجعل عليهم قيّما يمنعهم من الفساد ، ويقيم فيهم الحدود والأحكام.

و ـ إنّا لا نجد فرقةً من الفرق ولا ملّةً من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس لما لابدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم ان يترك الخلق ممّا يعلم انّه لابدّ لهم منه ، ولا قوام لهم إلاّ به (١).

__________________

(١) بحار الأنوار / المجلسي ٣ : ١٩ عن الإمام علي بن موسىٰ الرضا عليه‌السلام.

٣٤

ومنه يجب ان يكون هؤلاء لكي تتمّ الحكمة من سفارتهم صفوته من خلقه ، وإلاّ لكان هناك ترجيحٌ بلا مرجّح ، أو تقديمٌ لمفضول علىٰ فاضل ، وهو منافٍ للحكمة. وهؤلاء حكماء ، قد ادّبهم الباري عزّ وجلّ بآدابه فبُعثوا بالحكمة كما كانوا هم من أهلها وسادتها. ويجب أن يكونوا بصراء مطيعين لله تعالىٰ لا يشركون به طرفة عينٍ ولا أقلَّ من ذلك ولا أكثر. ويجب ألاّ يكونوا كاذبين وإلاّ لانتفت الحكمة في بعثهم ، إذ سيتردد الناس في قبول قولهم ، ولا يصلح أن يكونوا أدلاّء علىٰ طريقه. وهؤلاء يجب أن يكونوا من جنس البشر وطينتهم حتىٰ يكونوا مثالاً حيّاً للائتمام بهم. واختصارا لكلِّ الصفات الكاملة المجتمعة في ذاته المقدّسة نقول إنّه يجب أن يكون معصوماً.

وبما انّ العصمة ، ليست من الامور الظاهرة والواضحة ، بل من الامور غير المدركة للبشر ، إذن لابدّ وان يُشار إليها ، بالطرق الثلاثة الآتية أو ببعضها :

أ ـ بالعقل.

ب ـ بالنقل بالاضافة إليه.

ج‍ ـ أو بالاعجاز لاثبات منصبه ، ومن إثبات المنصب تثبت له بالملازمة.

ويتأكد العنصر الثالث ، إذ لابدّ من إعجاز يظهر لتأييد صدق مدّعي السفارة ، وإلاّ لادّعاها كلُّ أحد. ولابدّ ان يفهم أهل عصر السفير أنّ ذلك

٣٥

إعجازٌ ، فلذا كانت المعاجز مختلفة باختلاف العصور.

والرعاية شاملةٌ لكلِّ البشرية من أولها إلىٰ آخرها لا يختص ذلك بزمانٍ دون زمان. ولكن نعلم علم اليقين أنّه لا نبيّ بعد نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ المنكر لذلك لا يعدّ مسلماً أصلاً ، إذ إنَّ ذلك من ضروريات الدين ، فمنكره منكر للضروري ، ومنكر الضروري كافر. فاذن لابدّ من وجود سفير لله ، ولا يكون نبيّاً ، وذلك هو الذي نعبّر عنه « بالإمام ».

ونحصر البحث في الإمامة عند المسلمين إذ إنّه « لو لم يجعل لهم إماماً قيّما أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملّة ، وذهب الدين ، وغُيّرت السُنّة والأحكام ، ولزاد فيه المبتدعون ، ونقص منه الملحدون ، وشبّهوا ذلك علىٰ المسلمين ؛ لأنّا وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم ، وتشتّت انحائهم ، فلو لم يجعل لهم قيّما حافظاً لما جاء به الرسول ، فسدوا علىٰ نحو ما بيّنّا ، وغُيِّرت الشرائع والسنن ، والأحكام ، والايمان ، وكان ذلك فساد الخلق أجمعين (١).

ولذا قالوا : ( لمّا أمكن وقوع الشرّ والفساد وارتكاب المعاصي من الخلق ، وجب في الحكمة وجود رئيس قاهر ، آمر بالمعروف ، ناهٍ عن المنكر ، مُبين لما يخفى علىٰ الاُمّة من غوامض الشرع ، مُنفِّذ لأحكامه ، ليكونوا إلىٰ الصلاح أقرب ، ومن الفساد أبعد ، ويأمنوا من وقوع الشر والفساد ).

__________________

(١) بحار الأنوار / المجلسي ٢٣ : ١٩ عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام.

٣٦

فوجوده لطف ، وقد ثبت ان اللطف واجب عليه تعالىٰ ، وهذا اللطف يسمىٰ إمامة ، فتكون الإمامة واجبة ، ( ولمّا كان علّة الحاجة إلىٰ الإمام عدم عصمة الخلق وجب ان يكون الإمام معصوماً ) (١).

ومن ناحية اُخرىٰ فإنّ القرآن حق كلّه وإنّه قطعي الصدور ، إلاّ انّه ظنّي الدلالة ، فلذا سيقع الاختلاف في تأويله ، وكلُّ متأول يدعي انّه علىٰ الحق وغيره ليس عليه ، فيكون ذلك سبباً للفرقة والنزاع أكثر من التأليف والاجتماع ، وهذا منافٍ للحكمة ، إذن لابدّ من وجود مبيّن لكتابه العزيز ونعبِّر عنه بالحافظ له.

ومن جانب آخر نرىٰ أن السُنّة النبوية كذلك ، بل ملئت كتب نقلها بأحاديث كاذبة ومُلفقة ، فما أدرانا ما الذي قاله صاحب الشرع وما الذي لم يقله ؟ خاصّةً أنّ هذه الفجوة تكبر وتكبر كلّما ابتعدنا عن مركز الرسالة الأول ، فبذا لابدّ من وجود مبيّن ومفسّر وكاشف عنها. ومن هنا صرّح الشيخ الصدوق قدس‌سره بهذا الدليل في اول كلامه إذ قال :

« إنّه لمّا كان كلّ كلام ينقل عن قائله يحتمل وجوها من التأويل ، وكان أكثر القرآن والسُنّة مما اجمعت الفرق علىٰ انّه صحيح لم يغيّر ولم يبدّل ، ولم يزد فيه ولم ينقص منه ، محتملاً لوجوه كثيرة من التأويل ، وجب أن يكون مع ذلك مخبر صادق معصوم من تعمد الكذب والغلط ، مُنبيءٌ عمّا عني الله ورسوله في الكتاب والسُنّة علىٰ حق ذلك وصدقه ، لأنّ الخلق

__________________

(١) تعليقة العلاّمة الاُستاذ الشيخ علي الأنصاري علىٰ فصول العقائد للحكيم الطوسي رضي‌الله‌عنه : ٣٥ ـ ٣٦ ط ١٣٩٣ ه‍.

٣٧

مختلفون في التأويل ، كلّ فرقةٍ تميل مع القرآن والسُنّة إلىٰ مذهبها ، فلو كان الله تبارك وتعالىٰ تركهم بهذه الصفة من غير مخبر عن كتابه صادق فيه لكان قد سوّغهم الاختلاف في الدين ودعاهم إليه ... وفي ذلك إباحة العمل بالمتناقضات والاعتماد للحق وخلافه.

فلمّا استحال ذلك علىٰ الله عزّ وجلّ ، وجب أن يكون مع القرآن والسُنّة في كلّ عصر من ينبئ عن المعاني التي عناها الله عزّ وجلّ في القرآن بكلامه... وينبيء عن المعاني التي عناها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنته وأخباره... واذا وجب انه لابدّ من مخبر صادق وجب ان لا يجوز عليه الكذب تعمّداً ، ولا الغلط وجب ان يكون معصوماً » (١).

وبما أنّ مهمته كذلك إذن يجب ان يكون صادقاً وأميناً ، لكي يقبل منه الناس كلّ ما يبينه ويوضحه كما كان الرسول كذلك.

( وثبت عند ذلك أنّ له معبّرين هم الأنبياء وصفوته من خلقه ... ).

فالأنبياء قد ذكر ، والأئمة بصفوته من خلقه قد بيّنهم كذلك ، فالأنبياء والأئمة كلُّهم لابدّ وان يكونوا ( مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في أحوالهم ، علىٰ مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب.. ). ومن هنا نفهم وندرك جيداً معنىٰ حديث الثقلين : « إنّي مُخَلِّفٌ فيكم الثقلين كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ... ».

وندرك كذلك لِمَ سكت ذلك الشامي عندما ناظره هشام بن الحكم رضي‌الله‌عنه

__________________

(١) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ١٣٣ ـ ١٣٤ بتصرف طفيف.

٣٨

، عندما قال له هشام : يا هذا أربُّك أنظَر لخلقه أم خَلقُهُ لأنفسهم ؟

فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه.

فقال : ففعل بنظره لهم ماذا ؟!

قال : أقام لهم حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا ، أو يختلفوا ، يتألّفُهُم ويقيم أودهم ويخبرهم بخبر ربهم.

قال : فمن هو ؟!

قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال هشام : فبعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَنْ ؟!

قال : الكتاب والسُنّة

قال هشام : فهل ينفعنا اليوم الكتاب والسُنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟!

قال الراوي ـ الذي هو يونس بن يعقوب ـ فسكت الشامي » (١).

وأخيرا نقول إنّ الإمامة منصبٌ خاص.

ونستطيع أن نضيف : بانّ منزلة الإمامة تساوي الاُسوة والقدوة.

فالمُقتدى به هو الإمام ، وبما أنّه النموذج الأمثل والأكمل للخلافة الالهية فعليه يجب أن يكون حاوياً لكلِّ معنىٰ الكمال الذي يمكن أن يتّصف به المخلوق ، حتّىٰ يكون قدوةً للجميع.

__________________

(١) اُنظر اصول الكافي ١ : ١٧١ ـ ١٧٢ / ٣. وكذلك وسائل الشيعة / الحر العاملي ٢٧ : ١٧٧ / ٢ باب ١٣.

٣٩

وبالخليفة يُستدلُّ علىٰ المستخلِف ، فلو كان عادلاً لأشعر وأشار إلىٰ عدله ، ولو كان ظالماً لبيّن ظلمه.

كما أنّ نصب الكامل أبعد للخيانة ، فالله قادرٌ لا يعجزهُ شيء ، وهو المُطّلع علىٰ عباده ، فاختياره لمن يحمل رسالته ويكون خليفته لابدّ أن يكون أتمّ خلقه ، ولا يصح أن يقع بالخيانة مهما صغرت ، إذ الله يقول وقوله الحقّ : ( أَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) (١).

فعليه لابدّ وأن يكون أحسن خلقه وأتمَّهم. وبذا أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسوةً لنا : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٢).

فالإمام كما يظهر للمتتبع يمثل الاسوة والقدوة الالهية الكاملة للممكن سواء كان نبيّاً أم غيره.

وبهذا كلّه ظهر بعض خصائص الإمام المعبّر عنه بالعصمة.

الأدلة العقلية

بعد هذا الاستعراض وهذه المقدّمات نحاول أن نضع أصابعنا علىٰ الأدلة العقلية التي تثبت العصمة لمن اختاره الله تعالىٰ لهداية خلقه بعد إنذارهم...

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٥٢.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢١.

٤٠