العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

الشيخ محمد حسين الأنصاري

العصمة حقيقتها ـ أدلّتها

المؤلف:

الشيخ محمد حسين الأنصاري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-79-x
الصفحات: ١٤٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

العباد طاعتهم بقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) ، وبقوله : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ، وبقوله : ( اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، وبقوله : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، وبقوله : ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) والبيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الانبياء ، وأبوابها أوصياؤهم ، فكل عمل من أعمال الخير يجري علىٰ غير أيدي أهل الاصطفاء وعهودهم وحدودهم وشرايعهم وسننهم ومعالم دينهم مردود غير مقبول ، وأهله بمحلِّ كفر ، وان شملتهم صفة الإيمان.

إلى أن قال عليه‌السلام : ثم ان الله جلَّ ذكره لسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدّلون من تغيير كتابه قسّم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسماً لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه ولطف حسه ، وصحّ تمييزه ممّن شرح الله صدره للاسلام. وقسماً لا يعرفه إلاّ الله وامناؤه والراسخون في العلم ، وإنّما فعل الله ذلك لئلاّ يدعي أهل الباطل من المستولين علىٰ ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم.

وليقودهم الاضطرار إلىٰ الائتمار لمن ولاه الله أمرهم فاستكبروا عن طاعته » (١).

__________________

(١) الاحتجاج / الطبرسي ١ : ٥٨١ ـ ٥٩٦ / ١٣٧.

١٢١

٥ ـ حديث صححه أشدُّ نقاد الحديث من أئمة الحديث وهو الذهبي :

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من اطاعني فقد اطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن اطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومن عصىٰ علياً فقد عصاني » (١).

ونصوِّر هذا الحديث هكذا : طاعة علي طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبما ان طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاعة الله ، ينتج ان طاعة علي طاعة الله.

ومثل هذا : معصية علي معصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصية لله تعالىٰ ، ينتج انّ معصية علي معصية لله تعالىٰ.

فإن كانت ارادة علي عليه‌السلام تتخلّف عن ارادة الله ، وكان ما يكرهه علي يتخلّف عمّا يكرهه الله فانّ القياس الأول باطل ، وهكذا القياس الثاني باطل أيضا.

وإذا كان صحيحاً وحقّاً فانّ انكار عصمة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ظلم وباطل.

٦ ـ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : قال : « إنّ الله طهّرنا ، وعصمنا ، وجعلنا شهداء علىٰ خلقه ، وحجّته في أرضه ، وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا ، لا نفارقه ولا يفارقنا » (٢).

__________________

(١) انظر المستدرك / الحاكم ٣ : ١٢١ ـ ١٢٨ ، عن أبي ذر الغفاري ، وقد صححه الذهبي.

(٢) الوسائل / الحر العاملي ٢٧ : ١٧٨ / ٤ الباب ١٣.

١٢٢

٧ ـ حديث الثقلين :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدىٰ والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ... وأهل بيتي » (١).

وفي لفظ آخر : « إني تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانّهما لن يفترقا حتىٰ يردا عليّ الحوض » (٢).

( والصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة ) (٣).

( وحديث الثقلين من المتواترات التي أجمع علىٰ روايتها الفريقان ، وقد انهىٰ بعض علماء الحديث رواته من الصحابة إلىٰ خمس وثلاثين راويا من الرجال والنساء ، وقد رواه عنهم جمٌّ غفير من الرواة وأهل الحديث ) (٤).

( وقد بلغ هذا الحديث الشريف من الشهرة ما أغنىٰ استطراد مصادره ، فإنّه قد رواه الفريقان ، واعترفت به الفرقتان ، وعرفه الخاص والعام ، بل حفظه الصغير والكبير ، والعالم والجاهل فهو فاكهة الاندية ، وفي مذاق

__________________

(١) لفظ صحيح مسلم / باب فضائل علي بن أبي طالب. ومسند أحمد ٤ : ٣٦٦.

(٢) مستدرك الصحيحين ٣ : ١٠٩.

(٣) المراجعات / السيد عبدالحسين شرف الدين : ١٥.

(٤) تفسير الميزان / الطباطبائي ٣ : ٣٧٩ بتصرف.

١٢٣

الافواه ، حتىٰ كاد ان يتجاوز حدّ التواتر ) (١).

واختلاف بعض الرواة في زيادة النقل ونقيصته تقتضيه طبيعة تعدد الواقعة التي صدر فيها ، ونقل بعضهم له بالمعنىٰ ، وموضع الالتقاء بين الرواة متواتر قطعاً.

ومن حسنات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في مصر انها أصدرت رسالة ضافية ألّفها بعض أعضائها في هذا الحديث اسمتها ( حديث الثقلين ) ، وقد استوفىٰ فيها مؤلفها ما وقف عليه من أسانيد الحديث في الكتب المعتمدة لدىٰ أهل السُنّة (٢).

وقد أخرج لحديث الثقلين العلاّمة الحجة الكبير السيد هاشم البحراني في غاية المرام تسعة وثلاثين طريقاً من طرق أهل السُنّة.

كما أخرج له اثنين وثمانين طريقاً من طرق الشيعة عن أهل البيت عليهم‌السلام (٣).

هذا وقد ذكر هذا الحديث السيد الاجل السيد مير حامد حسين النيسابوري ، ثمّ الهندي في « عبقات الأنوار ». ورواه عن جماعة تقرب من

__________________

(١) لماذا اخترت مذهب أهل البيت عليهم‌السلام / الشيخ الانطاكي : ١٤٦.

(٢) الاُصول العامة للفقه المقارن / السيد محمد تقي الحكيم : ١٦٣. وقد أخرج هذا الحديث : أحمد ومسلم والترمذي والنسائي والدارمي وأبو داود وابن ماجة من طرق متعددة ، والبغوي في مصابيح السُنّة ، والحاكم في المستدرك كذلك والذهبي في تلخيص المستدرك ، والفخر الرازي في التفسير ، وابن كثير أيضاً وغيرهما من المفسرين.

(٣) غاية المرام : ٢١١ ـ ٢١٧.

١٢٤

المائتين من أكابر علماء المذاهب من المائة الثانية إلىٰ المائة الثالثة عشرة ، وعن الصحابة والصحابيات أكثر من ثلاثين رجلاً وامرأة كلهم رووا هذا الحديث الشريف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ومن هذا الحديث الشريف نقف علىٰ فوائد جمة ، منها :

أ ـ تكراره في عدة مواضع ، وأوقات مختلفة يدلّ علىٰ اهتمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمضمونه اهتماماً بالغاً.

ب ـ الرجوع إلىٰ معنىٰ الثقل في اللغة يبين لنا ثقل هذا الحديث الشريف ويمكن ان نستدلّ منه علىٰ عصمة من ذكروا فيه.

فهذا ابن حجر مثلاً يقول بعد ان ذكر حديث الثقلين في عليّة تسمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن وعترته بالثقلين :

( لأنّ الثقل كلُّ نفيس خطير مصون ، وهذان كذلك ؛ إذ كلٌّ منهما معدن للعلوم الدينية والأسرار والحكم العلية ، والأحكام الشرعية ، ولذا حثّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ الاقتداء والتمسك بهم ، والتعلم منهم ، وقال الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة ـ أهل البيت ـ وقيل سُميّا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما ) (٢).

ويقول آخر : ( إنّما سماهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثقلين لخطرهما ، وعظم

__________________

(١) لماذا اخترت مذهب أهل البيت عليهم‌السلام / الشيخ محمد مرعي أمين الانطاكي : ١٥٣ ـ ١٥٤ ، ١٩٦٢ م بتصرّف لا يخل.

(٢) الصواعق المحرقة / ابن حجر الهيتمي : ١٣١ ط مصر.

١٢٥

قدرهما حيث يعبّر في اللغة لكلِّ خطر عظيم ثقلاً ؛ لأنّ الاخذ عنهما ، ودوام التمسك بهما ليس بالامر السهل ، أو لأنّ العمل بما أوجب الله تعالىٰ من حقوقهما ثقيل كما ذكر ذلك جماعة من أعاظم علماء السُنّة منهم ابن حجر في صواعقه في باب وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنهم السيوطي ) (١).

فلو رجعنا لمعنىٰ الثقل الذي هو : كلُّ نفيس خطير مصون ، لتبين لنا الامر فالكتاب نفيس وخطير ومصون لأنّه ثقل ، والعترة نفيسة وخطيرة ومصونة لأنها ثقل.

فالنفاسة والخطر فيهما ، فما وجه الصون لهما لعلّه اشارة طريفة لعصمتهما ، فهما مصونان عن كلِّ زيف وزيغ وانحراف ، وكذا النفاسة.

ج‍ ـ نفي الضلال عن التمسك بهما دلالة علىٰ انهما علىٰ الحق دائماً ، وإلاّ لما نُفي : فإنَّ « لن » تفيد تأبيد النفي كما هو واضح لمن تتبع استعمالات هذه الكلمة في كلام العرب ، وكما صرّح به أهل الخبرة والتتبع منهم (٢).

و « هو مقتضىٰ ما تفيده لن التأبيدية » (٣) ومن هنا سلّم العلاّمة الطباطبائي قدس‌سره بظهورها في التأبيد خلال كلامه حول آية ( لَن تَرَانِي ) (٤).

__________________

(١) لماذا اخترت مذهب أهل البيت عليهم‌السلام / الشيخ الانطاكي : ١٥٦.

(٢) كما صرّح بذلك الزمخشري في انموذجه.

(٣) الاصول العامة / السيد محمد تقي الحكيم : ١٦٣.

(٤) سورة الاعراف : ٧ / ١٤٣.

١٢٦

وقال : ( والتعبير في قوله : ( لَن تَرَانِي ) ب‍ « لن » الظاهر في تأبيد النفي ) (١).

( وقد استدلّ بهذه الآية كثير من العلماء الموحدين علىٰ أنّه تعالىٰ لا يُرى بالأبصار من حيث نفي الرؤية نفياً عاماً بقوله تعالىٰ : ( لَن تَرَانِي ) ) (٢).

ولو تنزلنا وقلنا انّها لا تفيد تأبيداً كما صرّح به صاحب قطر الندىٰ (٣) ، عند كلامه حول ما ينصب به الفعل ، إلاّ انّها تفيده لو كانت ثمة قرينة تفيد ذلك ، كما في قوله تعالىٰ : ( لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا ) (٤) ، أو ( لَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ) (٥).

فهاتان الآيتان لقرائن خارجية علىٰ رأي بعضهم أفادتا تأبيدا لما دخل عليه « لن ».

ففي هذا المقام نقول عين قولهم ، إذ لو حدث أن ضللنا باتّباعهما ، ولو بمصداق واحد لما خرج كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحيحاً وصادقاً ، لاطلاق الكلام وهو في مقام الهداية والبيان.

فما يكون اتّباعه عدم الضلال ، ومن عدم الضلال يمكن ان نستشف

__________________

(١) تفسير الميزان / الطباطبائي ٨ : ٢٤٣.

(٢) أمالي السيد المرتضىٰ ٤ : ١٢٨.

(٣) قطر الندىٰ وبل الصدىٰ / ابن هشام : ٧٩.

(٤) سورة الحج : ٢٢ / ٧٣.

(٥) سورة الحج : ٢٢ / ٤٧.

١٢٧

عصمته كما هو ظاهر للمتمعّن.

د ـ إنّ المفهوم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي » انّما هو ضلال من لم يتمسك بهما معاً ، كما لا يخفىٰ.

ويؤيد ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث الثقلين عند الطبراني ـ « فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم » (١).

فلابدّ لكلِّ مكلف من ان يتمسك بالثقلين معاً ، لا بالكتاب وحده دون قرينة العترة ، ولا بالعترة وحدها دون مصدرها الكتاب... ، بل ما هما إلاّ عروة واحدة لا يمكن التفكيك بين حلقها المتماسكة ، غير ان العترة اللسان الناطق للكتاب الصامت ، فلا نقدر ان نتمسك بالكتاب من دون طريقهم (٢).

ه‍ ـ كتاب الله ، هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو معصوم في جميع آياته وسوره ، وهذا ما لا يُخالف فيه المسلمون قاطبة.

وحسب أئمة العترة الطاهرة ان يكونوا عند الله ورسوله بمنزلة الكتاب ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكفىٰ بذلك حجة

__________________

(١) المراجعات / السيد عبدالحسين شرف الدين : ٢٣.

(٢) لماذا اخترت مذهب أهل البيت عليهم‌السلام / الشيخ الانطاكي : ١٥٤.

١٢٨

تأخذ بالاعناق للتعبّد بمذهبهم.

فإنّ المسلم لا يبتغي بكتاب الله بدلا ، فكيف يبتغي عن اعداله حولا (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الروايات « ولن يفترقا » كما في سنن الترمذي (٢) ، إذا تمعنّا بهذه ال‍ « لن » فانّها تفيد كما ذكرنا سابقاً التأبيد في نفي المتعلق ، وهنا هو عدم الافتراق بعد ان نقول لاحقاً اذا وسوست النفس ولم تطمئن بذلك هناك قرينة لفظية بعدم الافتراق ، وبالاضافة إلىٰ القرينة تلك وهذه علىٰ أقل تقدير إذ حدَّد بمنطوق الكلام فترة عدم الافتراق ، نهايتها ، بورودهما عليه الحوض ، إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لن يفترقا حتّىٰ يردا عليّ الحوض ». وهو المهم في حديثنا الآن ، كما هو واضح.

فعليه نقول : إذا كان أحدهما معصوماً وهو كتاب الله الكريم فيجب أن يكون الثاني وهو العترة الطاهرة كذلك ، وإلاّ لافترق أحدهما عن الآخر في موارد عدم عصمة الآخر كما هو واضح ، ( ومن البديهي أن صدور آية مخالفة للشريعة سواءً كانت عن عمد أم سهوٍ أم غفلة تعتبر افتراقاً عن القرآن في هذا الحال ، وإن لم يتحقق عنوان المعصية عليها أحياناً كما في الغافل والساهي ، والمدار في صدق عنوان الافتراق عنه عدم مصاحبته لعدم التقيّد بأحكامه وإن كان معذوراً في ذلك فيقال فلان مثلاً افترق عن

__________________

(١) المراجعات / السيد عبدالحسين شرف الدين : ١٦ القاهرة ١٩٧٩ م ط ٢.

(٢) وكما في الدر المنثور ، ومسند أحمد ، والمستدرك وغيرها.

١٢٩

الكتاب وكان معذوراً في افتراقه عنه ) (١).

فهذا يثبت لاخبار الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدم افتراقهما مطلقاً ، وهذا يثبت عصمة أهل البيت عليهم‌السلام مطلقاً.

ولا يمكن ان يقع منهم ما يخالف الكتاب الذي هو معصوم لا غفلة ولا سهواً ولا اشتباه ولا نسياناً ، كما هو الظاهر للمتأمل المتمعن في هذا الكلام المقدس.

إذن مقتضىٰ عصمة أحدهما ، عصمة الآخر بلا شك ولا ريب.

و ـ وأخيراً لا آخراً يمكن أن نستفيد من هذا الحديث بالخصوص ، بقاء العترة ببقاء القرآن ، فما دام القرآن باقٍ فالعترة باقية ، وإلاّ لافترقا ، كما هو واضح للمتأمل.

وهذا له عمقه الدلالي لمن أراد الوصول إلىٰ الله تعالىٰ ، وألقىٰ السمع وهو شهيد.

ز ـ وبعدها ألا يعني قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثقل ما ذكر في حديث الثقلين ؟!

فتارةً ينفي الضلال باتّباعهما ، واُخرىٰ بالأمر بالأخذ بهما والتمسك بهما ، وثالثة بالسؤال من الاُمّة عن كيفية مراعاة ما خلّفه فيها تشجيعاً لهم ، وتشويقا للتمسك بهما مع تأكيده لهم بأنّهما لن يفترقا حتىٰ يردا عليه

__________________

(١) الاصول العامة للفقه المقارن / السيدمحمد تقي الحكيم : ٦٣.

١٣٠

الحوض.

فلنرجع لانفسنا ونتساءل بيننا عن مقدار تمسكنا بوصيّة حبيبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ح ـ ولعلَّ جملة « لن يفترقا حتىٰ يردا عليّ الحوض » اشارة إلىٰ انّ ما مرَّ علىٰ أحد هذين الاثنين بعد الوجود المقدّس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد مرَّ علىٰ الآخر.

ومهجورية كل واحد منهما ، مهجورية للآخر (١).

__________________

(١) صحيفة الثورة الاسلامية ، نص الوصية السياسية الالهية / السيد الخميني : ٨ ط وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي.

١٣١
١٣٢



تتمة في

عصمة فاطمة الزهراء عليها‌السلام

إنّ الفارق بين عالم الدنيا وعالم الآخرة ، وفق كلّ دقائق التعابير التي أطلقها أعيان المتألهين ، والحكماء المدققين ، والفقهاء الراسخين هو انّ هذا العالم تغلب فيه الصورة علىٰ السيرة ، فمن الممكن ان يكون أحدٌ ما ذئباً في باطنه ، ولكنّ صورته هي صورة انسان سويّ ، فلا تختلف الصور هنا أصلاً.

ولكنّ الوضع سينقلب في الآخرة ، فبعض يقول عنهم الباري عزّ وجلّ : ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ) وبعضٌ يقول فيهم : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ).

وهكذا سيظهر وجه من قال : ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ) عند الحشر بصورة ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ... ) ف‍ ( ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ.. ) و ( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ... ).

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تُحشر ابنتي فاطمة وعليها حلّة الكرامة قد عجنت بماء الحيوان ، فينظر اليها الخلائق فيتعجبون منها ، ثم تكسىٰ أيضاً من حلل الجنة ألف حُلّة ، مكتوب علىٰ كلِّ حلّة بخط أخضر : أدخِلوا بنت محمد الجنّة علىٰ أحسن

١٣٣

الصورة ، واحسن الكرامة ، وأحسن منظر.. (١) ».

من المستحيل ان يتخلّف قانون نظام العدالة في الوجود ، ذلك اليوم ، ولا يمكن ان تكون الصورة التي تعطى للبشر إلاّ انعكاسا لسيرهم في الدنيا ، فيحظىٰ بالصورة الأجمل والأكمل والأمثل من جاء بالسيرة الأجمل والأكمل والأمثل ، فان لم يكن المرء علىٰ الصعيد العلمي أفضل العلماء ، وعلىٰ الصعيد الخُلقي أفضل المتخلقين ، وعلىٰ الصعيد العملي أفضل العبّاد ، فمن المستحيل ان يرد يوم القيامة علىٰ أحسن صورة..

وليس هذا بكثير علىٰ من قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فاطمة بضعة منّي » (٢) « فاطمة روحي التي بين جنبيّ » (٣).

وحتىٰ عائشة قد التفتت إلىٰ هذا التشابه العجيب بين حبيب الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبضعته الزهراء عليها‌السلام ، إذ قالت : ( ما رأيت أحدا كان أشبه سمتاً ، وهدياً ودلاً.. وحديثاً وكلاماً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فاطمة كرّم الله وجهها ) (٤).

والتفتت إلىٰ كرامتها عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ روت : ( كانت إذا دخلت عليه قام إليها ، فأخذ بيدها ، وقبّلها ، وأجلسها في مجلسه... ) (٥).

__________________

(١) تاريخ دمشق / ابن عساكر ١٢ : ٨٦. مقتل الحسين / والخوارزمي ١ : ٥٢.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٥ و ٣٢٣ و ٣٢٨. وصحيح البخاري ٥ : ٩٢ و ١٥٠. وصحيح مسلم ٤ : ١٩٠٢. وسنن الترمذي ٥ : ٦٩٨. والمستدرك ٣ : ١٥٤ و ١٥٨.

(٣) بحار الأنوار ٢٧ : ٦٣ / ٢١ كتاب الإمامة و ٢٨ : ٣٨ / ١ كتاب الفتن والمحن.

(٤) البخاري ٥ : ٢٦ ، ٧ : ٤٧. ومسلم ٧ : ١٤١. ومسند أحمد ٤ : ٣٢٣ ، ٣٢٨ ، ٣٣٢.

(٥) سنن الترمذي ٥ : ٧٠٠. والمستدرك ٣ : ١٦٠.

١٣٤

فإذا كانت في كلِّ ذلك كذلك ، فحريٌّ بها أن تكون ممن لا يفارق الحق في شيء أبداً ، ولا يكون كذلك إلاّ المعصوم.

وثمّة أدلة اُخرىٰ تهتدي بها إلىٰ مثل هذه النتيجة ، منها :

١ ـ دلالة آية التطهير :

قال تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ).

وقد تقدم البرهان علىٰ أنّها تدلّ علىٰ عصمة من تشير إليه ، وقد اتّفق المؤرِّخون والرواة انّ من جملة أهل البيت الزهراء فاطمة عليها‌السلام بل كان يؤكد ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبظرف ستة أشهر محتوىٰ هذه الآية المباركة عند مروره للمسجد للصلاة.

٢ ـ دلالة حديث الثقلين :

فكما دلّت الآية المباركة السابقة علىٰ دخولها في جملة أهل البيت عليهم‌السلام نستدلّ بذلك علىٰ دخولها في هذه الرواية المباركة وقد تقدم البرهان في دلالتها علىٰ العصمة ، فتكون مشمولة بالدليل.

٣ ـ « إنّ الله ليغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك » (١).

__________________

(١) الشافي / السيد المرتضى : ٢٣٥ الطبعة الحجرية. وتلخيص الشافي / الشيخ الطوسي ٣ : ١٢٢ ط النجف الاشرف. وأمالي الشيخ الصدوق / الشيخ الصدوق : ٢٣٠ أول المجلس الحادي والستين. ومعاني الاخبار / باب معنىٰ الشجنة باسناده عن ابن عباس. ومجالس الشيخ المفيد / الشيخ المفيد

١٣٥

« من آذىٰ فاطمة فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذىٰ الله (١) ».

فتعليق غضب الله علىٰ غضبها ، والله هو الحق يقتضي ان يكون غضبها حقّاً ، دائماً وكذلك نقول في الرضا فيقتضي ذلك عصمتها.

وقد يرد في الأذهان السؤال : إنّ الله يرضىٰ لرضا المؤمن ويغضب لغضبه فهذه خصوصية ليست متعلقة بالزهراء عليها‌السلام فقط ، فإذن لا تكون دليلاً علىٰ العصمة.

ولكن هذا الاشكال يرتفع من أساسه بالتمعن في الحديثين ، لان الغضب الالهي والرضا الالهي متعلّقان بنفس الزهراء بما هي ، أي بذاتها ، لو رضيت علىٰ أي حال سيرضىٰ الله ، ولو غضبت غضب ، فبذا يكون غضبها ورضاها مطلقاً صرف الحق.

أما في حديث المؤمن فرضا الباري عزّ وجل متعلِّق برضاه ما دام مؤمناً ، وغضبه متعلّق بغضبه كذلك ، لأنّ المؤمن بما هو مؤمن لا يرضىٰ ولا يغضب إلاّ لله وما هو حق ، فلذا تعلّق غضب الباري ورضاه بغضبه ورضاه ، وأمّا هو ذاتاً فليس كذلك. أي لا يقتضي الاطلاق بالنسبة إلىٰ

__________________

باسناده عن الإمام الباقر عليه‌السلام في المجلس الحادي عشر عن أبي حمزة الثمالي. والمستدرك / الحاكم النيسابوري ٣ : ١٥٤ باب مناقب فاطمة ، وهو صحيح علىٰ شرط الشيخين. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٣ باب مناقب فاطمة عليها‌السلام. والذخائر / المحب الطبري في ترجمة فاطمة. وأُسد الغابة / ابن الاثير في ترجمة فاطمة. ومجمع البيان / الطبرسي ٢ : ٤٥٣ ورد ( إنّ الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها ).

(١) صحيح البخاري / كتاب بدء الخلق ، باب منقبة فاطمة أورده في محلين كتاب النكاح ، باب ذب الرجل عن ابنته. وصحيح مسلم / كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة مسند أحمد ٤ : ٣٢٨. وكتاب الترمذي / الجامع الصحيح ٥ : ٦٩٨ كتاب المناقب فضل فاطمة بنت محمد.

١٣٦

الذات ، بل إلىٰ المشتق. بينما في الأول هو متعلّق بالذات لا بالمشتق.

وهذا فرقٌ جوهري ، فما كان ذاتا لا يرتفع إلاّ بانعدام الذات ، وأمّا ما كان متعلّقاً بشيء عارض فيمكن ان يرتفع المتعلق لارتفاع العارض.

وهذا واضحٌ بحمد الله تعالىٰ.

وختاماً نقول : إنّ للعصمة ادلّتها المفصَّلة ، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يرفع يده عنها ، مهما أُوتي من جُرأةٍ علىٰ مخالفة العقل والكتاب والنّقل ، لوجود اخبار آحادٍ قد لا تفيد ذلك لعلل كثيرة ، أو لاستبعاد العقول القاصرة التي تقيس كلَّ شيء ، علىٰ ما يحيطها ، وعلىٰ من هي موجودة فيه.

إذ ليس هذا الاستبعاد إلاّ ظنٌ ، والظن لا يُغني من الحق شيئاً. والظن لا يقابل الحُجة الدامغة مهما أوتي من قوّةٍ. فحينئذ يجب ان نرفع اليد عن هذه الظهورات ، ونُسلِّم بما منح الله تعالىٰ قوماً مخصوصين ، لطفاً لهم ولنا ، وتفضيلاً وتفضّلاً ، وكرامة لهم ومزيدا.



والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله

وآخر دعوانا ، أن الحمد لله رب العالمين

١٣٧
١٣٨

Description: F:Book-LibraryENDQUEUEEsmahimagesimage003.gif

١٣٩

١٤٠