تراثنا ـ العدد [ 138 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 138 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1019-4030
الصفحات: ٣١٧

له»(١) ، كدلالة لفظ (الإنسان) على الضاحك ، فالضاحك ليس جزءاً من معنى الإنسان ، وإنما لازمٌ له يستتبعه استتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته ، وكدلالة لفظ (البيت) على ساكنيه.

وقد قيّد الدلالتَيْن الأخيرتَيْن ، أي التضمّن والالتزام بقوله : (من حيث هو جزؤه) و (من حيث هو لازم له) احترازاً من دلالة اللفظ على جزء المعنى أو لازمه بطريق المطابقة على سبيل الاشتراك اللفظي(٢) ، أي إذا كان اللفظ مشتركاً بين الكلّ والجزء أو بين الكلّ واللازم ، ذلك أنّه إذا جاز وضع اللفظ الواحد للمعنى ولجزئه ، فإنّ إطلاق اللفظ سيدلّ على أمرين ؛ تمام معنى اللفظ ، أي الدلالة التطابقية ، وعلى جزء المعنى ، أي الدلالة التضمّنية ، كما أنّه إذا جاز وضع اللفظ الواحد للمعنى وللازمه ، فإنّ إطلاق اللفظ سيدلّ على أمرَيْن ، تمام معنى اللفظ ، أي الدلالة التطابقية ، ولازم المعنى ، أي الدلالة الالتزامية.

ومثّل الشيخ مَيْثَم للأوّل ـ أي دلالة اللفظ على تمام معناه وجزئه ـ بلفظ (الإمكان) ، «فإنّه موضوعٌ للإمكان العامّ والخاصّ ، والعامّ جزء الخاصّ كما تقرّر في المنطق(٣) من أنّ الممكن العام في مقابل الممتنع ، فلذلك يطلق على الواجب وعلى ما ليس بممتنع ولا واجب الذي هو الممكن الخاصّ ، فهو

__________________

(١) الإشارات والتنبيهات لابن سينا ١/١٣٩.

(٢) عرّفه الشيخ مَيْثَم في مقدّمته بقوله : (هو اللفظ الواحد الموضوع لحقيقتَيْن مختلفتَيْن أو أكثر وضعاً أوّلاً من حيث هو كذلك) [شرح نهج البلاغة : ١٥].

(٣) المقرّر للحيدري ٢/٢٤٩.

 

٢٤١

حينئذ موضوع للكلّ والجزء»(١) ، وهو مثالٌ عقليّ آخر مقرّر في كتب المنطق والفلسفة يورده الشيخ مَيْثَم ، فهو إذْ يعرض مسألةً لغويةً يطرح مثالاً أقرب ما يكون إلى الفلسفة ، وهو مفهوم (الممكن) وتقسيمه إلى (عامّ وخاصّ) ، فالبحراني لا يستطيع التحرّر من (العقل المكوِّن) ، أي المرتكز الفكري والعقلية المسيطرة عليه ، وهي العقلية الفلسفية التي طالما امتُدِح بها.

وقد مثّل بعضهم بمثال آخر أكثر أُلفة ، وهو لفظ (الحرف) ، «فإنّه موضوعٌ لكلّ حروف المعاني ولجزئه ، فإنّ (ليْت) مثلاً حرف ، ولكلّ واحد من اللام والياء والتاء يُقال له : حرف»(٢).

أمّا الثاني ، أي دلالة اللفظ على تمام معناه ولازمه ، فقد أفاد بعضهم أنّ التمثيل له «عسر مع إمكانه»(٣) ، فكأنّهم حكموا بإمكان وجوده نظريّاً أو عقليّاً واستصعبوه فعليّاً ، ومع ذلك فقد مثّل الشيخ له بلفظ (الشمس) ، فهو يطلق على ذلك الجرم السماوي المعروف كما يطلق على النور اللازم له ، وبهذا التقييد لا تنتقض الدلالة ؛ لأنّ هذه الدلالة ـ وإنْ كانت على ما وضع له ـ «ليست من حيث هو موضوع له ، بل من حيث هو لازمه»(٤).

من هنا نفهم أنّ الشيخ مَيْثَم قد أضاف هذين القيدين (من حيث هو جزؤه) و (من حيث هو لازم له) ، احترازاً من كلّ سابق ، متميّزاً في ذلك عن

__________________

(١) البحر المحيط في أصول الفقه ٢/٣٨.

(٢) نفس المصدر ، نقلاً عن بعض الفضلاء.

(٣) نفس المصدر.

(٤) شرح المطالع للرازي ١/١١١.

 

٢٤٢

كثير ممّن تناول هذه الدلالات ، وربّما مقتدياً بالإمام فخر الدين الرازي ، فقد أورد أكثر من واحد أنّ هذا القيد «لم يذكره أحدٌ ممّن تقدّم الإمام»(١).

وقد اكتفى الشيخ مَيْثَم بتقييد دلالتَيْ التضمّن والالتزام دون المطابقة ـ كما هو الحال مع الإمام الرازي(٢) ـ ؛ «لأنّ دلالتَيْ التضمّن والالتزام لا يمكن معرفتهما إلا بعد معرفة المطابقة ؛ لكونهما تابعين لها ، فلو جعل القيد المذكور (من حيث هو كذلك) جزءاً من معرفة المطابقة للاحتراز منهما لزم أنْ يكونا معلومَيْن قبل المطابقة ، فيلزم أنْ يكون الشيء معلوماً قبل كونه معلوماً وهو محال»(٣) ، أي أنّ معرفة دلالتَيْ التضمّن والالتزام متوقّف على معرفة دلالة المطابقة ، فهما متأخرتان وجوداً عن دلالة المطابقة ، فلا يرد على الشيخ ـ ومَن لم يقيّد تعريف دلالة المطابقة ـ ما يرد على مَن لم يقيّد دلالتَيْ التضمّن والالتزام ، وإلاّ فمفهوم هذا الإشكال إنّ دلالتَيْ التضمّن والالتزام معروفتان قبل دلالة المطابقة ، أي قبل كوْنهما معروفتَيْن ، ويمتنع عقلاً أنْ تكون الدلالتان (معروفتَيْن) و (مجهولتَيْن) في الوقت نفسه.

* ثانياً : الدلالات اللفظية بَيْن الوضع والعقل

لا خلاف بين العلماء في كون دلالة المطابقة دلالةٌ وضعية صِرفة ، أي لا

__________________

(١) نفس المصدر : ٣٩ نقلاً عن القرافي ، وانظر : نهاية الوصول في دراية الأصول : ١٢٣.

(٢) انظر : المحصول في علم أصول الفقه للرازي ١/٢٩٩.

(٣) نهاية الوصول للهندي : ١٢٣ ، وقد علّق المؤلّف على ذلك بقوله : «ولا يخفى عليك ما فيه».

 

٢٤٣

تدخّل للعقل فيها ، وإنّما تحدث نتيجة وضع اللفظ بإزاء المعنى فقط ، دون الحاجة إلى تدخّل العقل في الوصول إلى المعنى ، بخلاف دلالتَيْ التضمّن والالتزام ، فقد وقع الخلاف في حقيقتهما على ثلاثة مذاهب(١) :

أحدها : أنّهما عقليّان ؛ لأنّ دلالة المعنى عليهما بالواسطة ، ونُسب هذا الرأي إلى الغزالي(٢) (ت ٥٠٥ هـ) وقاله صاحب المحصول(٣) واختاره أثير الدين الأبهري(٤) (ت ٦٦٣ هـ) في كشف الحقائق والصفيّ الهندي(٥) (ت ٧١٥ هـ).

والثاني : أنّهما لفظيّان ، ونسبه بعضهم إلى الأكثرين ، واختاره ابن واصل في شرح الجمل الخونجي.

__________________

(١) راجع : البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي ٢/٤٣.

(٢) لم أجد رأي الإمام الغزالي في المستصفى من علم الأصول.

وهو الإمام محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي الطوسي ، أبو حامد ، فيلسوف ومتصوّف ، له نحو مائتي مصنّف ، منها : (تهافت الفلاسفة) و (محكّ النظر) و (المستصفى من علم الأصول). الأعلام ٧/٢٢.

(٣) المحصول في علم أصول الفقه للرازي ١/ ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

(٤) هو المفضّل بن عمر بن المفضّل الأبهري السمرقندي ، أثير الدين. منطقي اشتغل بالحكمة والطبَعيات والفلك. من مصنّفاته : (هداية الحكمة) و (مختصر في علم الهيئة) و (جامع الدقائق في كشف الحقائق). الأعلام للزركلي ٧/٢٧٩.

(٥) نهاية الوصول للهندي : ١٢٤ ، وهو محمّد بن عبدالرحيم بن محمّد الأرمَوي ، أبو عبد الله ، صفيّ الدين الهندي ، فقيه أصولي ، له : (الفائق) و (الزبدة) و (نهاية الوصول إلى علم الأصول). الأعلام للزركلي ٦/٢٠٠.

 

٢٤٤

والثالث : أنّ دلالة التضمّن لفظية والالتزام عقلية ، وبه قال الآمدي(١)(ت ٦٣١ هـ) وابن الحاجب(٢) (ت ٦٤٦ هـ) ؛ لأنّ الجزء داخل فيما وضع له اللفظ بخلاف اللازم فإنّه خارج عنه.

والشيخ مَيْثَم البحراني لا يورد مذهبه بادئ الأمر ، غير أنّه ينازع الإمام الرازي(٣) (ت ٦٠٦ هـ) صراحةً بذكر اسمه ، ومَن حذوا حذوه ووافقوه في مذهبه ، ثمّ يصرّح في ضمن مناقشته لرأي الإمام بما يؤيّده ، وهو رأىٌ جديرٌ بالنظر ، على أنّه قبل البتّ في المناقشة وعرض رأي الشيخ تجدر الإشارة إلى أنّ الشيخ ـ في تلك المنازعة ـ يلجأ إلى التصريح بلقب الإمام (الإمام فخر الدين) ثمّ يُردفه الآخرين الذين حذوا حذوه بوصفهم (جماعة من الفضلاء) في تعظيم صريح للإمام إذْ يُفرده بالذكر ويُجمِل ذكر الآخرين مع حفظ

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ١/ ٣٢ ، هو علي بن محمّد بن سالم التغلبي ، أبو الحسن ، سيف الدين الآمدي ، أصولي ، من مصنفاته: (أبكار الأفكار) و (دقائق الحقائق) و (الإحكام في أصول الأحكام). الأعلام للزركلي ٤/٣٣٢.

(٢) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب ١/٢٢١.

وهو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس ، أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب ، فقيه مالكي. من مصنّفاته : (الكافية) و (الشافية) و (مختصر الفقه). الأعلام للزركلي ٤/٢١١.

(٣) هو محمّد بن عمر بن الحسن ، أبو عبد الله ، فخر الدين الرازي ، الإمام المفسّر ، أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل ، له العديد من المصنّفات ، منها : (مفاتيح الغيب) و (المسائل الخمسون في أصول الكلام) و (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز). الأعلام للزركلي ٦/٣١٢.

 

٢٤٥

مكانتهم العلمية.

والإمام الرازي في محصوله(١) يقرّر أنّ دلالة المطابقة دلالةٌ وضعية ، أمّا دلالتَيْ التضمّن والالتزام فعقليتان ؛ لأنّ اللفظ إذا وضع للمسمّى انتقل الذهن من المسمّى إلى لازمه. ولازمه إنْ كان داخلاً في المسمّى فهو (التضمّن) ، وإنْ كان خارجاً فهو (الالتزام).

والشيخ مَيْثَم بعد أنْ يصرّح أنّ دلالة المطابقة هي الدلالة الوضعية الصِرفة ، يأخذ في مناقشة رأي الإمام ، فإنّهم ـ أي أصحاب هذا الرأي ـ إنْ أرادوا أنّ هاتَيْن الدلالتَيْن حاصلتان بالعقل الصرف من غير مشاركة الوضع فهو واضح البطلان ، فهاتان الدلالتان معتمدتان في أصل وجودهما على دلالة المطابقة ، وهي دلالة وضعية صرفة دون نزاع ، ولولا ارتسام المعنى في الذهن الناتج عن وضع اللفظ بإزاء المعنى لما كانت هاتان الدلالتان حاصلتَيْن ، فحصول هاتَيْن الدلالتَيْن متوقّف على ارتسام المعنى المطابقي في الذهن.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يصرّح هؤلاء الفضلاء أنّ هاتَيْن الدلالتَيْن من دلالات الألفاظ ، هذه الألفاظ التي يحرصون على التنبيه إلى كونها (الموضوعة) دون سواها من الألفاظ ، أي دون الألفاظ الناتجة من الدلالتَيْن العقلية والطَبَعية ، وهذا يعود بنا إلى ما أسلفناه عن تبعية الدلالتَيْن

__________________

(١) المحصول في علم أصول الفقه للرازي ١/٢٩٩ ـ ٣٠٠.

٢٤٦

التضمّنية والالتزامية للمطابقية ، وهو تسليمٌ منهم بتدخّل الوضع في هذه الدلالات بغضّ النظر عن مقدار هذا التدخّل.

أمّا إذا أرادوا من قولهم إنّهما دلالتان عقليّتان أنّ العقل عند تصوّر معنى اللفظ الموضوع له ينتقل منه إلى جزئه أو إلى لازمه ، فهو الحقّ ، وخلاف حينها بين الشيخ مَيْثَم وهؤلاء ، فلا تكون هاتان الدلالتان ـ والحال كذلك ـ عقليتان بالصرف ، بل يشترك فيهما الوضع والعقل ، فالأصل فيهما الوضع (في دلالة المطابقة) ،يأتي دور العقل في الانتقال من ذلك الوضع إلى المعنى الآخر الجزئي أو اللازم.

بناءً على ما تقدّم ، يمكننا الآن اقتراح مذهب رابع في الخلاف حول دلالتَيْ التضمّن والالتزام ، وهو أنّ هاتَيْن الدلالتَيْن (بالاشتراك بين الوضع والعقل) ، وممّن قال به الشيخ مَيْثَم البحراني ونصير الدين الطوسي في شرح الإشارات(١).

وبالنظر في رأي الإمام الرازي الذي ناقشه الشيخ مَيْثَم ، نجد الإمام مسلّماً بتدخّل الوضع في هاتَيْن الدلالتَيْن ، أعني التضمّنية والالتزامية ، إذْ يعلّل كونهما (عقليّتَيْن) أنّ «اللفظ إذا وضع للمسمّى انتقل الذهن من المسمّى إلى لازمه ...»(٢) ، وهذا ما يتوافق مع كلام الشيخ مَيْثَم في الشركة بين الوضع

__________________

(١) الإشارات والتنبيهات لابن سينا ، الحاشية ١/١٣٩.

(٢) المحصول في علم أصول الفقه للرازي ١/٣٠٠.

٢٤٧

والعقل ، ولعلّ الإمام قد نظر إلى انتقال العقل في هاتَيْن الدلالتَيْن وهو الجزء المميّز لهما من دلالة المطابقة فأطلقه من دون منع تدخّل الوضع ، وهو حينئذ من باب تسمية الشيء باسم بعضه.

إذا صحّ ما نذهب إليه ، فيمكننا إضافة الإمام الرازي إلى قائمة القائلين بهذا المذهب الرابع ، وربّما غيره ، فهو مع تصريحه بكونهما عقليّتَيْن إلاّ أنّ مضمون كلامه يخالف ذلك كما بيّنّا.

بعد ذلك ينتقل الشيخ مَيْثَم البحراني لبيان النسب بين الدلالات الثلاث ، ويبدأ باستلزام دلالتَيْ التضمّن والالتزام لدلالة المطابقة ، أي أنّ هاتَيْن الدلالتَيْن متوقّفتان على دلالة المطابقة ومتفرّعتان منها ، وهو ما ذكرناه مِن أنّ حصول هاتَيْن الدلالتَيْن متوقّف على ارتسام المعنى المطابقي في الذهن ، أو يمكن أنْ يقال كما ذكر بعضهم : «أنّهما مستلزمتان للوضع وهو مستلزم للمطابقة فيستلزمانها»(١).

ولا تنعكس هذه النسبة ، أي أنّ دلالة المطابقة لا تتوقّف على هاتَيْن الدلالتَيْن أو على إحديهما ، وهو واضح ممّا ذكرناه ، فالأصل لا يتوقّف على الفرع ، «والتابع مع حيث إنّه تابع لا يوجد بدون المتبوع»(٢) ، وإلا لزم الدور ،

__________________

(١) شرح المطالع للرازي ١/١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) شرح المطالع للرازي ١/١٣٠ ، هكذا ، والصحيح أنْ يقول : (دون) أو (من دون).

٢٤٨

وهو باطل ، وبيانه أنّ دلالتَيْ التضمّن والالتزام يتوقّف وجودهما على وجود دلالة المطابقة ، فهما متأخّرتان عنها ، ودلالة المطابقة يتوقّف وجودها عليهما ، فهما متقدّمتان عليها أيضاً! وهو واضح البطلان.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لجواز انفكاك دلالة المطابقة عنهما. أمّا انفكاكها عن دلالة التضمّن فذلك إذا كان مدلول اللفظ بسيطاً لا جزء له ، أي أنّه غير مركّب من أجزاء حتّى يدلّ ذكر اللفظ على جزء معناه ، وقد مثّل بعضهم بـ : (النقطة)(١).

وأمّا انفكاك دلالة المطابقة عن دلالة التضمّن فذلك إذا لم يكن لمدلول اللفظ (لازمٌ بيّن) ، واللازم البيّن هو «الذي يكفي تصوّره مع تصوّر ملزومه في جزم العقل باللزوم بينهما»(٢) ، أي «أنّ إدراك اللازم لا يحتاج لأكثر من تصوّر الملزوم»(٣).

فاللازم البيّن إذن شرطٌ لتحقّق دلالة الالتزام ، وهو ما سنجده فيما بعد ، وبانتفائه تنتفي الدلالة الالتزامية. هذا ما ذهب إليه الشيخ مَيْثَم البحراني ، وقد

__________________

(١) نفس المصدر ١/١٣٤.

(٢) تحرير القواعد المنطقية للرازي : ١٥٦.

(٣) المعجم الأصولي : ٨٥٢ هكذا ، والحقّ أنّ الفعل (احتاج) يتعدى بـ : (إلى) لا بـ : (اللام).

ويقابله (اللازم غير البيّن) وهو الذي يفتقر في جزم الذهن باللزوم بينهما إلى واسطة ومقدّمة خارجة عن إطار تصوّر اللازم والملزوم والنسبة بينهما. راجع : تحرير القواعد المنطقية للرازي : ١٥٦ ـ ١٥٧ والمعجم الأصولي لصنقور : ٨٥٣.

 

٢٤٩

وقع الخلاف بين العلماء في انفكاك دلالة المطابقة عن دلالة الالتزام ، فقد منعه بعضهم ، وهو ما عليه (الأكثرون) كما يقول الهندي(١).

ويبدو أنّ حقيقة الخلاف هو في جعل (اللازم البيّن) شرطاً لتحقّق دلالة الالتزام ، فمَن منع انفكاك دلالة المطابقة عن دلالة الالتزام لم يشترط أنْ يكون

اللازم بيّناً(٢) ، بل اكتفى بعموم اللزوم ، بيّناً كان أو غير بيّن ، أي سواءٌ أكان تصوّر الملزوم كافياً لتصوّر اللازم من غير الحاجة إلى تصوّر شيء آخر خارج إطار اللازم والملزوم والنسبة بين بينهما ، أو كان ذلك مفتقرٌ إلى برهان أو مقدمة خارج ذلك الإطار.

وعلى ذلك ، فإنّ النسبة بين دلالة المطابقة ودلالتَيْ التضمّن والالتزام هي (عموم وخصوص مطلق) ، كما هو لفظ أهل المنطق(٣) ، فكلّ دلالة تضمّن ودلالة التزام تستلزم دلالة المطابقة ، وبعض دلالة المطابقة يستلزم دلالتَيْ التضمّن والالتزام.

هذا وينبغي لنا الالتفات إلى أنّ الشيخ مَيْثَم لم يمثّل لانفكاك دلالة المطابقة عن دلالتَيْ التضمّن والالتزام ، ولم أجد فيما وقعت عليه أي تمثيل

__________________

(١) نهاية الوصول للهندي : ١٢٣.

(٢) يقول الهندي في نهاية الوصول : ١٢٣ : «ومنهم من جوّزوا الانفكاك زاعماً أن شرط دلالة الالتزام أن يكون اللازم بحيث يكون تصوّره لازما لتصوّر الملزوم. وهو ممنوع فيما ذكر من اللازم ...».

(٣) راجع : تحرير القواعد المنطقية للرازي : ١٧١ وبعدها ، والمقرّر للحيدري ١/ ١٠٧ وبعدها.

٢٥٠

لانفكاك دلالة المطابقة عن دلالة الالتزام ، وهو فيما يبدو ممّا يعسر التمثيل له مع إمكانه عقلاً ، أي ربّما وجدوه ممكناً نظريّاً أو عقليّاً (بحسب القسمة العقلية) ، مستصعباً في الواقع ، وأمّا انفكاك دلالة المطابقة عن دلالة التضمّن فإنْ لم يمثّل له الشيخ بمثال فإنّ غيره فعل ذلك ، كقطب الدين الرازي في شرح المطالع(١) إذْ مثّل له بـ : (الوحدة) و (النقطة).

كما أنّ الشيخ عبّر عن دلالة المطابقة بالدلالة (الوضعية)(٢) فقط من دون ذكر (دلالة المطابقة) أو حتّى (اللفظية) ؛ وذلك لدلالة المقام ، لا سيّما وأنّه قد ذكر سابقاً أنّ دلالة المطابقة هي (الوضعية صرفة) ، وسواها بشركة من الوضع والعقل.

إذا عرفنا نسبة دلالة المطابقة إلى دلالتَيْ التضمّن والالتزام ، ونسبة الأخيرتَيْن إلى الأولى ، بقي أنْ نعرف نسبة كلّ واحدة منهما إلى الأخرى ، وهذا ما يقرره الشيخ بإيجاز شديد ، فلا يجب أنْ تلزم كلّ واحدة منهما الأخرى ، بل قد تنفكّان وقد تجتمعان ، فقد يكون من المعاني المركّبة ما لا لازم لها ، فتوجد دلالة تضمّن من غير دلالة التزام ، كما قد يكون للمعنى البسيط لازماً ، وهنا دلالة التزام من غير دلالة تضمّن ، فانفكّت دلالتا التضمّن

__________________

(١) شرح المطالع للرازي ١/ ١٣٤.

(٢) يقول الشيخ مَيْثَم : «ثمّ أنّهما مستلزمتان للدلالة الوضعية من غير عكس» شرح نهج البلاغة ١/٦.

٢٥١

والالتزام عن بعضهما بعضاً في هذَيْن الاحتمالَيْن ، كما أنّ اجتماعهما واضح في المعاني المركّبة التي يلزمها معنىً (أو أكثر) خارج عنها ، فإذا كان الحال كذلك فإنّ النسبة بينهما هي ما يسمّيها أهل المنطق (عموم وخصوص من وجه) ، وقد أهمل الشيخ التفصيل في عدم استلزام دلالتَيْ التضمّن والالتزام لبعضهما ؛ لظهور ذلك مما تقدّم من الكلام عن المطابقة.

وللبحث صلة ...

٢٥٢

بحور الشعر وتفعيلاته

 (الإعجاز الأدبي في القرآن)

السيّد محمّد علي راضي الحكيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم ، ثمّ الصلاة والسلام على خير البريّة محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

أمّا بعد :

إنّ تراث مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام لا زال حافلا بأبحاثه الثرّة في شتّى مجالات العلوم من أدب وأصول وفقه ومنطق وفلسفة وكلام وما إلى ذلك من التراث العلمي من مدارس وشخصيّات ومصنّفات و ... ، فإنّ السجال العلمي لا زال مشعله وقّاداً لمن أراد أن يملي بحثاً أو يزجي انتقاداً ، ولا زال العطاء العلمي لهذه المدرسة بين ترغيب وتنقيب ونقد وتصويب ، ويعدّ الأدب العربي من تلكم الأبحاث الثرّة والعلوم الغرّة التي لابدّ لروّاد العلم من التوجّه إليه بشكل جادّ لإحياء هذا التراث الذي طالما اعتنى به السلف الصالح من علمائنا الأبرار ، وذلك ما نرى أعلامه لائحةً في مصنّفاتهم وبحوثهم وأسلوبهم

٢٥٣

البياني وحسن تعبيرهم في كافّة مجالات الأدب من نثر وشعر وسجع ، فإنّ للأدب العربي من الظرافة والملاحة والدقّة ما يبهر الألباب ، ويأنس به من ارتاده بكلّ إعجاب ، وخاض إليه سُبُلَ الطلاّب.

تمهيد :

لقد جاءت مقالتي هذه بعد أمد طويل وشوط وسبيل طويته في دراسة الأدب العربي ، تلك الدراسة التي تعرّفت عليها في الحوزة العلمية من صرف ونحو وعلم البيان فكانت تبهرني تلك العبارات والجمل وقد أعجبت بها كلّ إعجاب حيث كنت أرى بها جمال اللغة العربية وأدبها الثرّ ، وممّا أدهشني رغبةً وزادني شوقاً لمعرفة تلكم الفنون هو كتاب البهجة المرضية لجلال الدين السيوطي في شرح ألفية ابن مالك التي كان لها الأثر الكبير لأن أخوض غمار الأدب من بين تلكم المسالك ، وبعد دراستي تلك الألفية وتطلّعي عليها ازدادت رغبتي في معرفة الشعر وأوزانه ، فعكفت همّتي على دراسة أطواره وفنون بيانه ، كما كان للشواهد الشعرية في النحو وعلم البيان الوقع والأثر الكبير في مثابرتي إلى جانب الشعر والأدب.

فكلّما ازدادت ملكتي الشعرية قوّة ازداد إعجابي بآيات الذكر الحكيم وبالمأثور من أدعية أهل البيت عليهم‌السلام وخطبهم وكلامهم ، كما كنت أرى به من الوقع الجميل في البيان والتعبير والنغم الخاصّ بها والذي لم أرَ لهما مثيلا في بيان العرب من نثر وسجع وذلك دون الشعر الذي يمتاز بالأوزان الشعرية وهي البحور التي يتكوّن منها الشعر العربي وما في تلك البحور من تفعيلات

٢٥٤

منحت الشعر العربي وقعاً ونغماً خاصّاً به.

القرآن الكريم وبحور الشعر :

لطالما تعرّفت على وجود بحور الشعر العربي في آيات الذكر الحكيم ، فكنت أحاول أن أدخلها في نظم بنفس ذلك البحر الذي هي عليه ، فكانت تنجح محاولتي فأزداد فيها بهجة واندهاشاً ، وكان يدخلني من السرور ما لا يعلمه إلاّ الله تبارك وتعالى ، ومن أوّل ما نظمته من آيات الذكر الحكيم بادئ الأمر من معرفتي الأوزان الشعرية والتطلّع على آثارها في القرآن الكريم هو نظمي لقوله تعالى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) حيث جاءت الأبيات آنذاك على هذا المنوال :

يا كعبةً بالعزّ ما أسماها

ولها من الآيات ما أجلاها

هي غايةٌ هي آيةٌ هي رايةٌ

من حولها الملأ العظيم حواها

والله أسّسها بوادي بكّة

وإلى العبادة والدعاء ذراها

وبإذنه قام الخليل مطهّراً

أركانها للناس من يهواها

للطائفين العاكفين وركّع

أو سجّد لله كان هداها

ما كان هذا العزُّ من أحجارها

من نوره الرحمن جلّ حباها

إذ جاء إبراهيم يرفع وابنه

تلك القواعد فاستتمّ بُناها

وسرت بها الأيّام حتّى أصبحت

علماً بهذا الكون عمّ صداها

لمّا تقلّب وجه أحمد في السما

ورمت له السفهاء جمرَ لضاها

نزلت تبشّر هادياً آياته

(لَنُولّينّك قبلةً ترضاها)

٢٥٥

وهكذا صرت آنس كلّما نظمت شعراً وضمّنت فيه شيئاً من آيات الكتاب ، أو اقتبست معنىً من معاني الآيات القرآنية في الشعر ، وهكذا صرت أستشعر وأزداد يقيناً يوماً بعد يوم أنّ هناك نوع ارتباط بين القرآن الكريم وبين المأثور من أدعية وخطب المعصومين عليهم‌السلام ، ولابدّ من أن يكون هذا الارتباط هو نوع ارتباط بعلوم الأدب العربي وذلك لما كنت أدركه من وقع وإيقاع ونغم من كلا الجانبين ـ وإنّما أعني بالنّغَم هو الإيقاع الذي يشعر به المستمع أو الشاعر من الشعر ـ فكان التفكّر والتدبّر بهما والعمل عليهما بشكل دؤوب هو الطريق الوحيد لمعرفة السبب فيها وذلك ما سيأتي خلال البحث في إماطة الستار عن ضرب من ضروب إعجاز القرآن الكريم وسرّ فصاحة وبلاغة أئمّة الهدى وسادة البيان.

وطالما كانت تطرق سمعي أبحاث أو أطّلع عليها بين الفينة والأخرى أنّ آيات القرآن الكريم تحتوي على أوزان الشعر العربي ، واطّلعت على العديد منها حيث أضحى القرآن بين منازع ومدافع ، ولكن كلّما يقال في الدفاع عن كتاب الله هو أنّ القرآن ليس بشعر ؛ لأنّ آيات القرآن لم يكن لها وزن وقافية وإن كانت تحتمل بعضها للأوزان الشعرية وذلك أنّ الشعر يتكوّن من صدر وعجز وقافية تعرف بها أبياته أو القصيدة الشعرية ، وهو جواب مقنع ولا بأس به إلى حدٍّ ما ، ولكن الأمر لا يقتصر على هذا فحسب ؛ بل إنّ للقرآن فنّاً وهندسةً ونسيجاً يحيّر الفِكَرْ وتضطرب لديه العِبَرْ ويطأطي إليه كلّ لبيب من الجنّ والبَشَرْ ، وهو الكتاب الذي لا زال يدعو الهِمَمَ أن يأتوا بمثله

٢٥٦

أو بعشر سور من مثله أو حتّى بسورة من مثل سور الكتاب الحكيم ، ولكن كيف لنا أن نتعرّف على ذلك السرّ لنعلم وتتمّ لنا الحجّة أنّ القرآن الكريم لا يمكن لأحد أن يباريه ويجاريه وأنّه هو الإعجاز الخالد مدى العصور والدهور والآية الناصعة والرسالة الساطعة التي لو جاز السجود لغير الله لكان من الجدير أن نسجد لكلّ آية وكلّ كلمة وحرف من آيات الذكر الحكيم؟

فما هو ذلك الفنّ وتلكم الهندسة وذاك النسيج القرآني التي ترتبط بأسرها بفنٍّ من فنون الأدب العربي والذي تعجز الألباب والأوهام أن تأتي بمثله؟

ولماذا كانت تَنْشَدّ إليه العرب آنذاك كلّما قرعت أسماعهم آيات الذكر الحكيم التي كان يتلوها عليهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) من لدن عزيز حكيم؟

ولماذا كانوا يتّهمون رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأنّه شاعرٌ ومعلّمٌ مجنون؟

فهذه الأسئلة ما سنتوصّل إلى الإجابة عليها من خلال بحثنا هذا بحوله وقوّته ، فعليه أتوكّل وبه أستعين وهو نعم المولى ونعم النصير المعين.

البيان العربي والقرآن الكريم :

نعلم أنّ البيان العربي يتألّف من ثلاث مكوّنات وهي : النثر والسجع والشعر ، وكلّ من هذه العناوين الثلاثة لها مباحثها العلمية في كتب علم البيان ، وإنّ الشعر هو الوحيد من بين هذه المكوّنات الثلاثة الذي له خصوصية الوزن والقافية من دون قسيميه ـ النثر والسجع ـ فلا يمكن لمستمع

٢٥٧

النثر والسجع أن يقول فيهما أنّه استمع شعراً كما لا يمكن أن تطلق صفة شاعر على المتكلّم والناطق بهما قطّ.

إذن علينا أن نتعرّف على أمرين : الأوّل منهما هو أنّه ما الذي كان يدركه المستمع لآيات القرآن؟ وما الذي كان يطرق سمعه عند إنصاته للآيات القرآنية ممّا كان يدعوه أن يطلق صفة شاعر على رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ والثاني منهما وهو أنّه ماذا قال أهل الخبرة من علماء وأدباء في القرآن الكريم وأبدوا به رأيهم بعد تطلّعهم وتضلّعهم في أمر الأدب العربي وفنونه في شأن القرآن الكريم؟

فلنبادر أوّلا للإجابة على السؤال الثاني في معرفة ما قيل في القرآن الكريم.

فهذا ما قاله الدكتورطه حسين في كتابه (مرآة الإسلام) :

«أمّا القرآن فهو المعجزة الكبرى ، التي آتاها الله رسوله (صلّى الله عليه وسلّم) ، على صدقه فيما يبلّغ عن ربّه سبحانه وتعالى. والقول في إعجاز القرآن الكريم يكثر ويطول ، وتختلف وجوهه ، وتختلف فنونه أيضاً ، فالقرآن : كلام لم تسمع العرب مثله قبل أن يتلوه النبيّ ؛ فهو في صورته الظاهرة ليس شعراً ، لأنّه لم يجر في الأوزان والقوافي والخيال على ما جرى عليه الشعر ، ثمّ هو لم يشارك الشعر في قليل أو كثير من موضوعاته ومعانيه ؛ فهو لا يصف الأطلال والربوع ، ولا يصف الحنين إلى الأحبّة ، ولا يصف الإبل في أسفارها الطوال والقصار ... وليس فيه غزل ، ولا فخر ، ولا مدح ،

٢٥٨

ولا هجاء ، ولا رثاء ، وهو لا يصف الحرب ... لا يعرض من هذا كلّه لشيء ، وإنّما يتحدّث إلى الناس عن أشياء لم يتحدّث إليهم بها أحد من قبله ، يتحدّث عن التوحيد فيحمده ويدعو إليه ، ويتحدّث عن الشرك فيذمّه وينهى عنه ، ويتحدّث عن الله فيعظّمه ويصف قدرته التي لا حدّ لها»(١).

«وكان حكماء قريش والمنصفون منهم يسمعون القرآن حين يتلى عليهم فيبهرهم بألفاظه ونظمه ورقّته حين يرقّ ، وشدّته حين يشتدّ»(٢).

«وكان النبيّ على هذا كلّه لا يدّعي لنفسه معجزة إلاّ القرآن ـ وقد صدق النبيّ وبرّ في ذلك ـ فقد كان القرآن معجزة أيّ معجزة. كان معجزاً بألفاظه ومعانيه ونظمه ، لم يستطع أحد من العرب أن يحاكيه أيسر المحاكاة و ...»(٣).

ونقلا عن كتاب التمهيد لآية الله الشيخ محمّد هادي معرفة رحمه‌الله نذكر بعض ما قاله العلماء في هذا الشأن ، فقد قال الراغب الإصفهاني بعد أن ساق الكلام إلى أنّ الإعجاز المختصّ بالقرآن متعلّق بالنظم المخصوص ، وبعد أن بيّن المراتب الخمسة التي يتألّف منها نظم الكلام قال : «والقرآن حاو لمحاسن جميعه [أي الكلام ؛ من نثر وسجع وشعر] بنظم ليس هو نظم شيء منها لأنّه لا يصحّ أن يقال : القرآن رسالة ، أو خطابة ، أو شعر ، كما يصحّ أن يقال : هو كلامٌ ، ومن قرع سمعه فصّل بينه وبين سائر النظم»(٤).

__________________

(١) مرآة الإسلام : ١٢٥.

(٢) مرآة الإسلام : ٤٠.

(٣) مرآة الإسلام : ١٠٧.

(٤) التمهيد ٤ / ٥٦.

٢٥٩

وقال الشيخ الطوسي بعد أن أعرب عن رأيه حيث ذهب إلى أنّ وجه الإعجاز في القرآن إنّما هو لاختصاصه بالفصاحة المفرطة :

«والذي يدلّ على ما قلناه واخترناه أنّ التحدّي معروف بين العرب بعضهم بعضاً ويعتبرون في التحدّي معارضة الكلام بمثله في نظمه ووصفه ، لأنّهم لا يعارضون الخطب بالشعر ولا الشعر بالخطب ، والشعر لا يعارضه أيضاً إلاّ بما كان يوافقه في الوزن والرويّ والقافية ، فلا يعارضون الطويل بالرجز ، ولا الرجز بالكامل ، ولا السريع بالمتقارب ، وإنّما يعارضون جميع أوصافه ، ثمّ ذكر قول الوليد بن المغيرة لمّا تحيّر حين سمع القرآن ، فقال : سمعت الشعر وليس بشعر ، والرجز وليس برجز ، والخطب وليس بخُطَب ...»(١).

فحاصل ما ذكرناه من الأقوال أنّ القرآن ليس بشعر وأنّه ذو نظم ووزن خاصّ به ، وأنّه ذا فصاحة مفرطة وخارقة.

والمراد بالشعر إنّما هو الشعر العمودي الذي اعتمدته العرب في الجاهلية ، وصار يتداوله الأدب العربي ويتوارثه مرّ الحِقب والعصور ، وهو الشعر الموزون الذي يتألّف من وزن وقافية وهي البحور الستّة عشر بجميع مشتقّاتها التي كانت عليه العرب آنذاك.

فكلّ ما صدرت من أقوال ترمي القرآن بكونه شعراً لا غير ، أو أنّه صار ينقض نفسه بنفسه لأنّ القرآن يدّعي قائلا : (مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ) و (مَا هُوَ

__________________

(١) التمهيد ٤ / ٦٩.

٢٦٠