تراثنا ـ العدد [ 138 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 138 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1019-4030
الصفحات: ٣١٧

البلاغة ، خطبه ورسائله وكلماته القصار ، بشكل جليّ ، وتتجلّى مظاهر هذا التناصّ في عدّة أمور ؛ منها التناص في الموضوعات ، والتناص في بناء الجمل ، والتناص في مطالع الخطب ، والتناص في الألفاظ ، وهذه هي الأنواع المعنية بالدراسة في هذا المبحث من هذا الفصل ؛ وسيقع الاختيار في دراسة التناص في هذه الخطب على الخطبة الأولى المسمّاة بالخطبة اليونسية ، وخطبة عيد الفطر ، والخطبة العنكبوتية ، والسبب في اختيار هذه الخطب الثلاث هو وضوح التناص بينها وبين نهج البلاغة في أكثر من موضع ، ولحصر الأمثلة في البحث.

١ ـ التناص في الموضوعات :

ورد في الفصل الثاني من هذا البحث موضوعات الخطب الموجودة في المخطوط ، والفاحص يرى تشابهاً في بعض موضوعات هذه الخطب والموضوعات الموجودة في نهج البلاغة ، ولعلّ أوّل عنوان يمكن أن ترى فيه هذه الظاهرة هو عنوان الخطبة العنكبوتية(١) ، هذه الخطبة التي يصف فيها بديع خلقة العنكبوت ، ولا بدّ من إيراد بعض الشواهد من هذه الخطبة ، إذ يبتدئ الخطبة بوصف الحيوان ؛ فيقول : «الحمد لله الذي جعل جنس الحيوان أنواعا ، وفرّق بين كلّ نوع فصولاً وطباعا ، وفرّق بينهما عوارض وأوضاعا ، وخلق لها أفئدة وشقّ لها أبصاراً وأسماعاً ... وخالف ما بين نغماتها فمنها

__________________

(١) المخطوط : من ص٢٨ إلى ص٣٢.

١٤١

ناطق مشقْشِق ، وصاهل وناهق منكَر مطبق ، ومفرد بالألحان المهيّجة مزقزق ، وحاد في البيد القاعة مصفِّق ...»(١).

وهكذا يواصل في وصف الحيوانات وأحوالهم العامّة إلى أن يصِل إلى قوله : «... أفما ترون العنكبوت المكنية بأمّ قَشْعَم ، وما أودع فيها من سرائر الصنعة وأسرار الحكم ، كثيرة الأرجل والعيون قصيرة القدم ، قد تكون لها ستّ عيون وثمان أرجل وهي صموتٌ وليس بها صمم ، وتلقي نفسها للفريسة كالسباع ، وتفترس كما يفترسون ..»(٢).

ثمّ يشرع ـ بعد وصف العنكبوت ـ بالوعظ كما هي الحال عند الخطباء ، مستنداً إلى ما قاله في وصف العنكبوت وبديع خلقته.

هنا ، يتناص الشيخ في الموضوع مع خطبتين للإمام عليّ عليه‌السلام ؛ الأولى خطبة يصف فيها بديع خلقة الخفّاش(٣) ، والثانية خطبة يصف فيها عجيب خلقة الطاووس(٤) ، ومع جزء من خطبة يصف خلق أصناف من الحيوان ،

__________________

(١) المصدر السّابق : ٢٨.

(٢) المخطوط : ٢٩.

(٣) نهج البلاغة : شرح : الشّيخ محمّد عبده ٢/٢٧٤ ـ ٢٧٦.

(٤) المصدر السّابق ٢/٢٩٢ ـ ٢٩٨.

١٤٢

وبالخصوص النملة والجرادة(١) ويسير الشيخ على الأثر الذي رسمه الإمام عليه‌السلام في هاتين الخطبتين ؛ فالإمام عليه‌السلام يبدأ في الخطبتين بمقدّمة قصيرة عن خلق الله للمخلوقات باختلافها ، وتفضله (جل وعلا) بآلائه ونعمه ، ثمّ يذكر موصوفه ، إلى أن ينتهي بالوعظ.

ولا بأس من إيراد بعض المقاطع من خطبة الإمام عليّ عليه‌السلام التي يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس ؛ يقول : «ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات ، وساكن وذي حركات ، فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به ومسلمة له ، ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته ، وما ذرأ من مختلف صور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها ، ورواسي أعلامِها ، من ذات أجنحة مختلفة ، وهيئات متباينة ، مصرّفة في زمام التسخير ، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجوّ المنفسح ، والفضاء المنفرج ، كوّنها بعد أنْ لم تكن في عجائب صور ظاهرة ، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة ، ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السماء خفوقا ، وجعله يدفّ دفيفاً ، ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته ودقيق صنعته ، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غُمس فيه ، ومنها مغموس قد طوّق بخلاف ما صُبغ به ، ومن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل ، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد ،

__________________

(١) المصدر السّابق ٢/٣٢٨ ـ ٣٣٠.

١٤٣

بجناح أشْرَج قَصبَه ، وذنب أطال مَسْحَبَه ..»(١).

وتوجد في المخطوط خطبتان يتناصّ في موضوعهما مع خطبة للإمام عليّ عليه‌السلام وهي الخطبة التي يذكر فيها آل محمّد عليهم‌السلام (٢) ، والخطبتان هما : الخطبة الاثني عشرية الأولى(٣) ، والخطبة الاثني عشرية الثانية(٤) ، ويكتفى بما ورد في الخطبة العنكبوتية في معرض الحديث عن التناص في الموضوعات.

٢ ـ التناص في بناء الجملة (التركيب والأساليب) :

يحتاج الحديث عن بناء الجملة في اللغة العربية بحثاً متكاملاً ، ولا يسع هذا البحث لهذا المقام ، وقد تنوّعت البحوث والمصنفات النظرية والتطبيقية التي تحدّثت عن الجملة قديماً وحديثاً ، وليس من غرض هذا البحث الإسهاب في هذا الجانب ، وإنّما ستنصبّ الدراسة ـ تطبيقاً ـ على جزء صغى من الخطبة اليونسية التي يحاول الشيخ أحمد فيها ـ كما في غيرها ـ مجاراة الأساليب والتراكيب الواردة في نهج البلاغة ، ويمكن جرّ ما في هذا المقطع من تناصّ مع تراكيب وأساليب نهج البلاغة على كلّ خطبة ، وستكون النتيجة أنّ بناء الجملة في خطب الشيخ مشابه لحدّ كبير بناء الجملة في نهج البلاغة.

__________________

(١) نهج البلاغة ٢/٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٢) المصدر السّابق ٢/٤١٧ ـ ٤١٨.

(٣) المخطوط : ٣٢.

(٤) المصدر السّابق : ٣٨.

١٤٤

يقول الشيخ في الخطبة اليونسية : «... عباد الله! لا تكونوا في الإعراض عن التذكرة ، كالحمر المستنفرة ، التي فرّت من قسورة(١) ، فتُشغَلوا بأوهامكم عن إنفاذ سهام أفهامكم ، وتعرضوا بأعزامكم عن بلوغ غايات مرامكم ، وتعتمدوا على تقاعدكم عن نهوضكم وقيامكم ... ألا وإنّكم أصبحتم داراً متتابعة الطوارق ، متلاحقة البوائق ، متلامعة البوارق ، مختلفة المغارب والمشارق ، متغايرة السبل والطرائق ، لا تُميز بين الصحيح والعليل ، ولا تفرق بين العزيز والذليل ، فلا تتغاور عليكم حوادثها ، وتتلاحق بينكم هنابثها ، وأنتم في قيد الطاعة بحسب الجهد والاستطاعة ، خير من أن تكونوا في سعة التقصير والإضاعة ، ولا تشربوا أكؤسها ، وتلبسوا لبوس بؤسها ...»(٢).

تتنوع الأساليب في هذا المقطع القصير ، فيبتدئ بأسلوب النداء ، ثمّ بالنهي ، ثمّ يتحوّل الخطاب من الإنشاء إلى الخبر ، ويرجع بعدها إلى الإنشاء وخاصّة النهي ، هكذا يلتفت الخطيب من أسلوب إلى آخر ، ومن تركيب إلى غيره ؛ فالجمل تتنوّع بين الاسمية والفعلية ، والجمل الاسمية نفسها قد تلقى من دون توكيد ، وقد تلقى مؤكّدة بمؤكّد أو أكثر ، ولا يمكن التفصيل في هذا

__________________

(١) يتَنَاصُّ في هاتين العبارَتَين مع الآيتين ٥٠ و٥١ من سورة المدَّثِّر ، وهذا التَّناصّ من النّوع الثَّالث المذكور في هذا البحث ، والَّذي يعمد إلى التّحوير في نصِّ الآية بما يتَناسَب والسَّياق.

(٢) المخطوط : ٣.

١٤٥

الجانب لضيق المقام ، ولكن لا بدّ من إيراد مقطع من خطبة للإمام عليّ عليه‌السلام تتنوّع فيها الأساليب والتراكيب ، ويُنتقل فيها من الإنشاء إلى الخبر ، وتكون فيها التراكيب متنوعة ؛ فتستخدم الجمل الفعلية والجمل الاسمية من غير توكيد أو مؤكّدة بمؤكّد واحد أو أكثر ، وتصب في الغرض نفسه وهو التحذير من الدنيا ؛ يقول عليه‌السلام في الخطبة الغرّاء : «... أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب الأمثال ، ووقّت لكم الآجال ، وألبسكم الرياش ، وأرفغ لكم المعاش ، وأحاط بكم الإحصاء ، وأرصد لكم الجزاء ، وآثركم بالنعم السوابغ ، والرفد الروافغ ، وأنذركم بالحجج البوالغ ، فأحصاكم عدداً ، ووظّف لكم مدداً ، في قرار خبرة ، ودار عبرة ، أنتم مختبرون فيها ، ومحاسبون عليها ، فإنّ الدنيا رنق مشربها ، ردغ مشرعها ، يونق منظرها ، ويوبق مخبرها ، غرور حائل ، وضوء آفل ، وظلّ زائل ، وسناد مائل ، حتى إذا أنس نافرها ، واطمأنّ ناكرها ، قمصت بأرجلها ، وقنصت بأحبلها ، وأقصدت بأسهمها ، وأعلقت المرء أوهاق المنية قائدة له إلى ضنك المضجع ، ووحشة المرجع ، ومعاينة المحلّ ، وثواب العمل ، وكذلك الخلف بعقب السلف ، لا تقلع المنية اختراماً ، ولا يرعوي الباقون اجتراماً ، يحتذون مثالاً ، ويمضون أرسالاً ، إلى غاية الانتهاء ، وصيُّور الفناء ، حتّى إذا تصرّمت الأمور ، وتقضت الدهور ، وأزف النشور ، أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطيور ، وأوجرة السباع ، ومطارح المهالك ، سراعاً إلى أمره ، مهطعين إلى معاده ، رعيلاً صموتاً ، قياماً صفوفاً ، ينفذهم البصر ، ويسمعهم الدّاعي ، عليهم لبوس الاستكانة ، وضرع الاستسلام والذلّة ، قد

١٤٦

ضلّت الحيل ، وانقطع الأمل ، وهوت الأفئدة كاظمةً ، وخشعت الأصوات مهينمةً ، وألجم العرق ، وعظم الشفق ، وأرعدت الأسماع لزبرة الدّاعي إلى فصل الخطاب ، ومقايضة الجزاء ، ونكال العقاب ، ونوال الثواب ...»(١).

٣ ـ التناص في مطالع الخطب :

لأنّ هذه الدراسة ركّزت على ثلاث خطب هي الخطبة اليونسية ، وخطبة عيد الفطر ، والخطبة العنكبوتية ، فلا بدّ من إيراد مطالع هذه الخطب لدراسة تناصّها مع نهج البلاغة.

أ ـ مطلع الخُطبة اليونسية :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الذي كبس الأرض على الماء العجّاج ، وحمل الماء على متون الهواء المتّسع السبل والفجاج ، وسمك الهواء بالسماء ذات النور المتوقّد الوهّاج ، وعلّق في سطوح تلك القباب مصابيح الإضاءة وذبالات الإسراج ، وهداكم بها في ظلمات البر والبحر لعلكم تهتدون ...»(٢).

ب ـ مطلع خطبة عيد الفطر :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الذي له الملك المتأبّد خلوده ،

__________________

(١) نهج البلاغة ١/١٥٢ ـ ١٥٥ ، وتَتَناصُّ كذلك مع خُطْبة قصيرة له في ذمِّ الدّنيا : ج١ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

(٢) المخطوط : ١.

١٤٧

والسلطان الغالبة أعوانه وجنوده ، والعزّ المتساوي صدوره ووروده ، (أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيءْ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ)(١) ، ادّخر لكم من خزائن الأيّام هذا اليوم ذخراً وعيدا ، وانتخب لكم من بين الأوقات هذا الوقت بركةً ومزيدا ...»(٢).

ج ـ مطلع الخطبة العنكبوتية :

«بسم الله الرَّحمن الرَّحيم ، الحمد لله الذي جعل جنس الحيوان أنواعا ، وفرق بين كلّ نوع فصولاً وطباعا ، وفرّق بينهما عوارض وأوضاعا ، وخلق لها أفئدةً وشقّ لها أبصاراً وأسماعاً ، (أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَات فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ)(٣) ، خلق من كل نوع أمثالاً وأزواجا ، وأخرج من بين الزوجين نطفاً أمشاجا ، وأقرها في أرحام الإناث ماءً ثجّاجا ، وأنتج فيما بينها المواليد المسترسلة إنتاجا ، (فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَع ...)(٤) أفلا تذكّرون ...»(٥).

إنّ هذه المطالع تتناصّ مع عدد من مطالع الخطب في نهجِ البلاغة ،

__________________

(١) سورة النّحل : ٤٨ ، تناص مع القرآن بإيراد الآية كاملة.

(٢) المخطوط : ٥.

(٣) سورة النّحل : ٧٩ ، تناص مع القرآن بإيراد الآية كاملة.

(٤) سورة النّور : ٤٥.

(٥) المخطوط : ٢٨.

١٤٨

وسنورد مطالع بعض الخطب التي يتناصّ معها ما ورد سابقاً ، والتناص فيها يكمن في براعة الاستهلال :

أ ـ الخطبة التي يذكر فيها عليه‌السلام ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم ؛ يقول : «الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعماءه العادون ولا يؤدِّي حقّه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس لصفته حدّ محدود ولا نعْت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممْدود ، فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته ووتد بالصخور ميدان أرضه ...»(١).

ب ـ مطلع الخطبة الغرّاء : «الحمد لله الذي علا بحوله ، ودنا بطوله ، مانح كلّ غنيمة وفضل ، وكاشف كلّ عظيمة وأزْل ، أحمده على عواطف كرمه ، وسوابغ نعمه ، وأومن به أولاً بادياً ، وأستهديه قريباً هادياً ، وأستعينه قاهراً قادراً ، وأتوكّل عليه كافياً ناصراً ...»(٢).

ج ـ مطلع خطبة له عليه‌السلام يقول فيها : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر ، الدالّ على قدمه

__________________

(١) نهج البلاغة ١/٥٥.

(٢) نهج البلاغة : ١/١٥٢.

١٤٩

بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على وجوده ، وباشْتباههم على أن لا شبه له ، الذي صدق في ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليْه من الفناء على دوامه ، واحد لا بعدد ، ودائم لا بأمد ، وقائم لا بعمد ، تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة ، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة ، لم تحط به الأوهام ، بل تجلى لها بها ، وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها ، ليس بذي كبر امتدّت به النهايات فكبّرته تجسيماً ، ولا بذي عِظَم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيداً ، بل كبر شأناً وعظم سلطاناً ...»(١).

وتكثر مطالع الخطب في نهج البلاغة التي يتناصّ معها الشيخ أحمد بن عبد السلام في خطبه ، ويمكن الرجوع إليها في نهج البلاغة(٢).

٤ ـ التناص في الألفاظ :

لعلّ الكلام على التناص في الموضوعات والتراكيب ومطالع الخطب يحتاج إلى بحوث متخصّصة ، ولكنّ الحديث عن التناصّ في الألفاظ قد يحتاج إلى إعداد معجم للمصطلحات ، ويحتاج إلى مجلّدات لحصر هذا النوع

__________________

(١) نهج البلاغة ٢/٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٢) انظر مثَلاً : الخطبة الّتي يذكر فيها بديع خِلقَة الخفَّاش ٢/٢٧٤ ، خُطْبَة لَه غير معنوَنة ٢/٢٧٠ ، خُطْبَة أخرى ٢/٣٤١.

١٥٠

من التناص ، ولهذا الغرض اقتصرت الدراسة في هذا البحث على خطب ثلاث من خطب الشيخ أحمد بن عبد السلام ، وسيقتصر هذا المبحث على القول إنّ الألفاظ التي استخدمها الشيخ أحمد بن عبد السلام الجدحفصي تكاد تكون مشابهة للألفاظ التي وردت عن الإمام عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة ، إلاّ أنّ التعامل مع الألفاظ في نهج البلاغة يختلف عن التعامل معها في خطب الشيخ ؛ ذلك أنّ الإمام عليه‌السلام تنثال عليه الألفاظ انثيالاً ، وينطقها سليقة ، ولكنّ الشيخ أحمد تظهر الصّنعة في خطبه بشكل جلي ، ومن الألفاظ التي تتناص مع نهج البلاغة :

١ ـ «الحمد لله الذي كبس الأرض على الماء العجّاج ، وحمل الماء على متون الهواء المتّسع السبل والفجاج»(١) ، يتناصّ في ألفاظه مع قول الإمام عليه‌السلام : «... كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ، ولجج بحار زاخرة ...»(٢).

٢ ـ في أبياته :

تُرِيكَ بَهِيجَ مَنْظَرِها

وسُمُّ المَوتِ في فيها

تَرَى المَكْروهَ إنْ سَرَّحــْ

ــتَ عَيْنَكَ في معانيها

__________________

(١) المخطوط : ١.

(٢) نهج البلاغة ١/١٨٤.

١٥١

تَجولُ بِها كواشِرُها

فتنفُثُها أفاعِيها(١)

يتناصّ في ألفاظه مع كتاب الإمام عليه‌السلام إلى سلمان الفارسي قبل أيّام خلافته ؛ إذ يقول : «أمّا بعد فإنّما مثل الدنيا مثل الحيّة ليّن مسُّها قاتل سمها فأعرض عمّا يعجبك فيها لقلّة ما يصحبك منها وضع عنك همومها لما أيقنت به من فراقها وتصرف حالاتها وكن آنس ما تكون بها أحذَرَ ما تكون منها فإنّ صاحبها كلّما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته عنه إلى مجذور»(٢).

وسيُكتفى بهذين المثالين للتناصّ مع ألفاظ نهج البلاغة.

خامساً : انفراده بالجديد في تناصِّه مع النهج :

السؤال المطروح هنا : هل ينفرد الشيخ أحمد بن عبد السلام بجديد في تناصه مع نهج البلاغة؟ والجواب عن هذا السؤال يمكن أن يرى في تضاعيف هذا البحث ؛ إذ إنّ التناصّ في خطب الشيخ لم يخرج عن موضوعات التناص في كثير من النصوص(٣) ، ولكنّ الشيخ أحمد يبدو واعياً(٤) إلى هذا التناص وخاصة في اختياره موضوعاته وألفاظه وكيفية تعامله

__________________

(١) المخطوط: ٩ ـ ١٠.

(٢) نهج البلاغة ٣/٥٢٧.

(٣) انظر مثلاً : المقامات : البنية والنَّسَقُ الثّقافيّ ، (مقامات الحريري) نموذجاً : ٢٢٦٤ ـ ٢٨٨.

(٤) التّناصّ في النّقد العربيّ القديم : ٦٤.

١٥٢

مع ألفاظ النهج ، وهذا يفسّر لنا بروز الصّنعة في خطب الشيخ.

الخاتمة

لقد حاول هذا البحث قدر الإمكان الوقوف على ظاهرة التناص ـ خصوصاً ـ مع نهج البلاغة في خطب الشيخ أحمد بن عبد السلام الجدحفصي ، وعُني البحث ـ قبل الدراسة التطبيقية ـ بوضع ترجمة مختصرة عن الشيخ أحمد ، ودراسة عن الملامح النظرية للتناص.

وقد توصّل البحث إلى نتائج مهمّة :

أوّلها :

إنّ تراث البحرين العلمي والأدبي ـ نثراً وشعرا ـ جدير بالدراسة والتحليل على ضوء النظريات الحديثة ، وما نظرية التناص إلاّ واحدة من هذه النظريات.

وثانيها :

إنّ التناص مع نهج البلاغة في هذه الخطب لم يقتصر على خطب الإمام عليه‌السلام ، بل اشتمل على التناص مع مجمل كلام الإمام عليه‌السلام من خطب وكتب ورسائل وكلمات قصار ، وتعدى ذلك إلى تناصه مع ما يستشهد به الإمام عليّ عليه‌السلام من أبيات.

١٥٣

وثالثها :

إنّ الشيخ أحمد بن عبد السلام كان واعياً في تناصِّه مع القرآن والشعر والأمثال ، وأكثر وعياً في تناصِّهِ مع كلام الإمام عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة ؛ ويردف هذه النتيجة ما ورد في تضاعيف البحث من أنواع التناص مع نهج البلاغة.

هذا ، وأدعو الله أن ينفع بما في هذه الأوراق

وأرجو أن يتقبّلها بقبول حسَن

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين

وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين

١٥٤

المصادر

القرآن الكريم

١ ـ استراتيجية التناص في الخطاب الشعري العربي الحديث : عبّاس ، محمود جابر : علامات في النقد ، النادي الأدبي الثقافي ، جدّة ، الجزء : ٤٦ ، المجلّد : ١٢ ، شوّال١٤٢٣ هـ.

٢ ـ الأمالي الأسدية : الأسد ، ناصر الدين بن محمّد بن أحمد بن جميل : جمع وتحقيق : إسماعيل محمود القيّام ، المؤسّسة العربية الدولية للنشر ، عمان ، ٢٠٠٦م.

٣ ـ أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين خلال ١٤ قرناً : النويدري ، سالم : مؤسّسة المعارف ، بيروت ، ١٩٩٢م.

٤ ـ أمثال العرب : الضبّي ، المفضل بن محمد : تقديم : إحسان عبّاس ، دار الرائد العربي ، بيروت ، ١٩٨٣م.

٥ ـ أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين : البلادي البحراني ، علي ابن الشيخ حسن : تحقيق : عبد الكريم محمّد علي البلادي ، مؤسّسة الهداية ، بيروت ، ٢٠٠٣م.

٦ ـ بعض فقهاء البحرَين في الماضي والحاضر : العصفور ، علي محمّد محسن : دار العصفور للطباعة والنشر ، بيروت ، ١٩٩٣م.

١٥٥

٧ ـ التطور والتجديد في الشعر الأموي : ضيف ، شوقي : دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة الثامنة ، دون تاريخ.

٨ ـ التناص ذاكرة الأدب : ساميول : تيفين : ترجمة : نجيب غزّاوي ، منشورات اتحاد الكتّاب العرب ، دمشق ٢٠٠٧م.

٩ ـ التناص في النقد العربي القديم : البريكي ، فاطمة عبد الرحمن : رسالة دكتوراه ، الجامعة الأردنية ، إشراف : ناصر الدين الأسد ، ٢٠٠٣.

١٠ ـ التناص وإشاريات العمل الأدبي : حافظ ، صبري : مجلّة ألف ، الجامعة الأمريكية ، القاهرة ، العدد٤ ، ١٩٨٤م ، (عدد خاص عن التناص).

١١ ـ ثقافة الأسئلة (مقالات في النقد والنظرية) : الغذّامي ، عبد الله محمّد : دار سعاد الصباح ، الكويت ، ١٩٩٣م.

١٢ ـ جمهرة الأمثال : العسكري ، أبو هلال : تحقيق : محمّد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطايش ، المكتبة العصرية ، بيروت ، ٢٠٠٣م.

١٣ ـ حلية المحاضرة في صناعة الشعر : الحاتمي ، محمّد بن الحسن بن المظفّر : تحقيق : جعفر الكتّاني ، وزارة الثقافة والإعلام ، دار الرشيد للنشر ، بغداد ، ١٩٧٩م.

١٤ ـ الدُّرَر النجفية من الملتَقَطات اليوسفية : البحراني : يوسف بن أحمد : تحقيق ونشر : شركة دار المصطفى لإحياء التراث ، الطبعة الأولى ، ٢٠٠٢م.

١٥ ـ ديوان الإمام عليّ عليه‌السلام المعروف بـ : أنوار العقول من أشعار وصي الرسول (صلى الله عليه وآله) : البيهقي الكيدري ، قطب الدين محمّد بن الحسين : تحقيق : كامل سلمان الجبوري ، دار المحجة البيضاء ، بيروت ، ١٩٩٩م.

١٥٦

١٦ ـ ديوان امرئ القيس : امرؤ القيس ، تحقيق : محمّد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، القاهرة ، ١٩٦٩م.

١٧ ـ ديوان أبي البحر : الخطّي ، جعفر (أبو البحر) : تحقيق : أنيسة أحمد خليل المنصور وعبد الجليل منصور العريض ، مؤسّسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري ، الكويت ، ٢٠٠٢م.

١٨ ـ ديوان سَقْطُ الزّند : المعرّي ، أبو العلاء : دار بيروت ، دار صادر ، بيروت ، ١٩٥٧م.

١٩ ـ ديوان طرفة بن العبد : ابن العبد ، طرفة : شرح : محمّد مهدي ناصر الدين ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ٢٠٠٢م.

٢٠ ـ الذخائر في جغرافيا البنادر والجزائر : آل عصفور البحراني ، محمّد علي بن محمّد تقي : تحقيق : محمّد عيسى آل مكباس ، آل مكباس للطباعة والنشر ، قم ، ١٤٢٢ هـ.

٢١ ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : الطهراني ، آقا بزرگ : دار الأضواء ، بيروت ، ١٤٠٣ هـ.

٢٢ ـ شذا العَرف في فنِّ الصَّرف : الحمَلاوي ، أحمد : تحقيق : عادل عبد المنعم أبو العبّاس ، مكتبة ابن سينا ، القاهرة ، ٢٠١٠م.

٢٣ ـ علم النصّ : كريستيفا ، جوليا : ترجمة : فريد الزاهي ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، الطبعة الثانية ، ١٩٩٧م.

٢٤ ـ فهرست آل بابويه وعلماء البحرين : إعداد : السيّد أحمد الحسيني ، الناشر : مكتبة آية الله المرعشي ، قم ، ١٤٠٤ هـ.

١٥٧

٢٥ ـ فهرست علماء البحرين : الماحوزي البحراني ، سليمان بن عبد الله ، تحقيق : فاضل الزاكي البحراني ، الناشر : المحقق ، البحرين ، ٢٠٠١م.

٢٦ ـ في الشعر الإسلامي والأموي : القط ، عبد القادر : دار النهضة العربية ، بيروت ، ١٩٨٧م.

٢٨ ـ الكامل في اللغة والأدب : المبرِّد ، أبو العبّاس محمّد بن يزيد : تحقيق : أحمد محمّد كنعان ، دار الفكر العربي ، بيروت ، ١٩٩٩م.

٢٩ ـ لسان العرب : ابن منظور ، جمال الدين محمّد بن مكرم بن علي : تحقيق : علي شيري ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ١٩٨٨م.

٣٠ ـ مجمع الأمثال : الميداني ، أبو الفضل أحمد بن محمّد بن أحمد بن أحمد : تحقيق : محمّد محيي الدين عبد الحميد ، المكتبة العصرية ، بيروت ، ١٩٥٥م.

٣١ ـ مجموع الخُطَب : الجدحفصي ، أحمد بن عبد السّلام ، مخطوط يحتفظ الباحث بنسخة منه.

٣٢ ـ مدخل إلى التناصّ : بييقي ، ناتالي ـ غروس : ترجمة : عبد الحميد بورايو ، دار نينوى ، دمشق ، ٢٠١٢م.

٣٣ ـ المعجم الوسيط : النجّار ، محمّد علي وآخرون : من إصدارات مجمع اللغة العربية ، المكتبة الإسلامية ، الطبعة الثانية.

٣٤ ـ المقامات : البنية والنسق الثقافي (مقامات الحريري) نموذجاً ، رسالة دكتوراه : محمّد ، علي عبد النبي إبراهيم : جامعة عين شمس ، القاهرة ، إشراف : محمّد يونس عبد العال وعبد الناصر حسن محمّد ، ٢٠٠٩م.

١٥٨

٣٥ ـ مقدّمة ابن خلدون : ابن خلدون ، وليّ الدين عبد الرحمن بن محمّد : تحقيق : عبد الله محمّد الدرويش ، دار يعرب ، دمشق ، ٢٠٠٤م.

٣٦ ـ منتظم الدرّين في تراجم علماء وأدباء الأحساء والقطيف والبحرين : التاجر البحراني ، محمّد علي بن أحمد بن عبّاس : تحقيق : ضياء بدر آل سنبل ، مؤسّسة طيبة لإحياء التراث ، بيروت ، ١٤٣٠ هـ.

٣٧ ـ نظرية التناص ، علامات في النقد : حسني ، المختار : النادي الأدبي الثقافي ، جدّة ، الجزء : ٣٤ ، المجلّد : ٩ ، ديسمبر ١٩٩٩م.

٣٨ ـ نهج البلاغة : شرح : الشّيخ محمّد عبده : ابن أبي طالب ، الإمام عليّ عليه‌السلام : دار الفجر للتراث ، القاهرة ، ٢٠٠٥م.

١٥٩

نسخ لم تر النور

في خزانة الروضة العبَّاسية المقدَّسة

 (القسم الأوّل)

مصطفى طارق عبد الأمير الشبلي

الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وسيَّد رسله محمَّد ، وعلى الأئمَّة السادة المعصومين من آله الطيّبين الطاهرين.

وبعد ؛ فكلُّ علم من العلوم يحتاج الشادي فيه إلى مرشد يعنيه على اكتشاف خباياه في زواياه ، وحتّى المتمكّن في ذلك العلم قد يخفى عليه من دقائقه ما هو واضح عند غيره(١). ويقول الرسول الأكرم محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : «من أعان طالب العلم فقد أحبَّ الأنبياء وكان معهم ..»(٢)

وجاء في كتاب تحقيق الصفا لمحب الدين الطبري (ت٦٩٤هـ) : «أنّ من ورَّخ مؤمناً فضلاً عن عالم عامل فكأنَّما أحياه ، ومن أحيى مؤمناً فكأنَّما

__________________

(١) مجلّة تراثنا ، العدد الرابع : ١٥٧.

(٢) السراج الوهّاج : ٢٤.

١٦٠