نواسخ القرآن

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

نواسخ القرآن

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: الداني بن منير آل زهوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

الحال ، ولذلك علّق القرآن جوازه مخافة تركهما القيام بالحدود ، وهذا أمر ثابت والآية محكمة عند عامة العلماء.

[٦١] ـ إلا أنه قد أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله البقال قال : ابنا أبو الحسين بن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال : بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : بنا حماد بن خالد الخياط ، قال : بنا عقبة بن أبي الصهباء ، قال : سألت بكر بن عبد الله عن رجل سألته امرأته الخلع؟ فقال : لا يحل له أن يأخذ منها شيئا ، قلت له : يقول الله عزوجل : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] قال : نسخت ، قلت : فأين جعلت؟ قال : في سورة النساء : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [النساء : ٢٠].

قلت : وهذا قول بعيد من وجهين :

الأول : أن المفسرين قالوا في قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) نزلت في الرجل يريد أن يفارق امرأته ويكره أن يصل إليها ما فرض لها من المهر فلا يزال يتبعها بالأذى حتى ترد عليه ما أعطاها لتخلص منه. فنهى الله تعالى عن ذلك ، فأما آية الخلع فلا تعلق لها بشيء من ذلك.

والثاني : أن قوله : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) إذا كان النشوز من قبله ، وأراد استبدال غيرها ، وقوله : (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) إذا كان النشوز من قبلها فلا وجه للنسخ.

وقد ذكر السّدّي في هذه الآية نسخا من وجه آخر فقال : قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) منسوخ بالاستثناء وهو قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا).

قلت وهذا من أرذل الأقوال ، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ وليس بنسخ.

ذكر الآية الثانية والثلاثين :

قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣].

عامة أهل العلم على أن هذا الكلام محكم ، والمقصود منه بيان مدة الرضاع ، ويتعلق بهذه المدة أحكام الرضاع.

وذهب قوم من القراء إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) [البقرة : ٢٣٣] قالوا فنسخ تمام الحولين باتفاقهما على ما دون ذلك وهذا ليس بشيء ، لأن الله تعالى قال : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] ، فلما قال : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً). خيّر بين الإرادتين فلا تعارض.

٨١

وفي الآية موضع آخر : وهو قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) [البقرة : ٢٣٣].

اختلفوا في الوارث :

فقال بعضهم : هو وارث المولود.

وقال بعضهم : هو وارث الوالد.

وقال بعضهم : المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر.

وقيل : المراد بالوارث الصبي نفسه ، عليه لأمه مثل ما كان على أبيه لها من الكسوة والنفقة.

وقيل : بل على الوارث أن لا يضار.

واعلم : أن قول من قال : الوارث الصبي والنفقة عليه لا ينافي قول من قال : المراد بالوارث وارث الصبي لأن النفقة إنما تجب على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه.

وقال مالك بن أنس : لا يلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ، ولا ذي رحم منه ، قال : وقول الله عزوجل : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) منسوخ ولم يبين مالك ما الناسخ.

قال أبو جعفر النحاس : ويشبه أن يكون الناسخ عنده أنه لما أوجب الله عزوجل للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى نفقة حول والسكنى ، ثم نسخ ذلك ورفعه نسخ ذلك أيضا عن الوارث (١).

ذكر الآية الثالثة والثلاثين :

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) [البقرة : ٢٤٠].

قال المفسرون : كان أهل الجاهلية إذا مات أحدهم مكثت زوجته في بيته حولا ينفق عليها من ميراثه ، فإذا تم الحول خرجت إلى باب بيتها ومعها بعرة فرمت بها كلبا ، وخرجت بذلك من عدتها وكان معنى رميها بالبعرة ؛ أنها تقول : مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية ، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية (٢). وهي قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه وهذا مجموع قول الجماعة.

__________________

(١) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص ٦٨ ، ٦٩).

(٢) «صفوة الراسخ» (ص ٦٥).

٨٢

[٦٢] (١) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا أبو الفضل عمر بن عبيد الله البقال : قال ، ابنا أبو الحسن بن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال : بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال حدّثني أبي ، قال : بنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فكان للمتوفى زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة ، فنسخها آية الميراث فجعل لهن الربع والثمن مما ترك الزوج.

وقال أحمد : وحدّثنا عبد الصمد ، عن همام ، عن قتادة (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) فنسختها (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فنسخت ما كان قبلها من أمر النفقة في الحول ونسخت الفريضة الثمن والربع ما كان قبلها من نفقة في الحول (٢).

قال أحمد : وحدّثنا محمد بن جعفر الوركاني ، قال : بنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) قال : نسختها (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

قال أحمد : وحدّثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) قال : كانت المرأة في الجاهلية تعطى سكنى سنة من يوم توفي زوجها فنسختها (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

وعن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت إبراهيم قال : هي منسوخة.

قال أحمد : وحدّثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) قال : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا من ماله ما لم تخرج من بيته ، ثم نسخ ذلك بقوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

ذكر الآية الرابعة والثلاثين :

قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة : ٢٥٦].

اختلف العلماء هل هذا القدر من الآية محكم أو منسوخ.

__________________

(١) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٢٣٣) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٢ / ٤٥١ / ٢٣٩٠) وغيرهما.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٥٢ / ٢٣٩٢) من طريق : سعيد بن عامر ، عن همام به.

٨٣

فذهب قوم إلى أنه محكم ، ثم اختلفوا في وجه إحكامه على قولين :

الأول : أنه من العام المخصوص وأنه خصّ منه أهل الكتاب فإنهم لا يكرهون على الإسلام ، بل يخيّرون بينه وبين أداء الجزية ، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة.

وكان السبب في نزول هذه الآية :

[٦٣] (١) ـ ما أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق الكاذي ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : بنا علي بن عاصم ، قال : بنا داود بن أبي هند ، عن عامر ، قال : كانت المرأة في الأنصار إذا كانت لا يعيش لها ولد تدعى المقلاة ، فكانت المرأة إذا كانت كذلك نذرت إن هي أعاشت ولدا تصبغه يهوديا ، فأدرك الإسلام طوائف من أولاد الأنصار ـ وهم كذلك ـ فقالوا إنما صبغناهم يهودا ونحن نرى أن اليهود خير من عباد الأوثان ، فأما إذ جاء الله بالإسلام فإنا نكرههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

قال أحمد ، وحدّثنا حسين ، قال : بنا أبو هلال ، قال : بنا داود ، قال : قال عامر : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) كانت تكون المرأة مقلاة في الجاهلية لا يعيش لها ولد ، فكانت تنذر لله عليها ؛ إن عاش لها ولد لتسلّمنه في خير دين تعلمه ، ولم يكن في الجاهلية دين أفضل من اليهودية فتسلّمه في اليهودية ، فلما جاء الله بالإسلام قالوا : يا نبي الله كنا لا نعلم أو لا نرى أن دينا أفضل من اليهودية ، فلما جاء الله بالإسلام نرتجعهم ، فأنزل الله عزوجل : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) لا تكرهوهم ولا ترتجعوهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٥ / ٤٠٨ / ٥٨١٤) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٥١٦). من طريق : داود بن هند به.

وأخرجه أبو داود (٢٦٨٢) والنسائي في التفسير من «الكبرى» (٦ / ٣٠٤ / ١١٠٤٨) والطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٠٨ / ٥٨١٣) وابن حبان (١ / ٣٥٢ / ١٤٠) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص ٧٦) وفي «معاني القرآن» (١ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٢ / ٤٩٣ / ٢٦٠٩) والواحدي في «أسباب النزول» (ص ٨٣) والبيهقي في «سننه» (٩ / ١٨٦) والخطابي في «غريب الحديث» (٣ / ٨٠ ـ ٨١).

من طرق ؛ عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس به.

وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.

وصحّحه العلامة الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٢٣٣٣).

وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي ـ عافاه الله من كل سوء ـ في «الصحيح المسند من أسباب النزول» (ص ٤٧) : «رجاله رجال الصحيح».

٨٤

قال أحمد : وبنا وكيع ، قال : بنا سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : كان ناس مسترضعون في بني قريظة فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (١).

[٦٤] (٢) ـ أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال : ابنا ابن جبرون ، وأبو طاهر الباقلاوي ، قالا : ابنا ابن شاذان ، قال : ابنا ابن كامل قال : بنا محمد بن سعد قال : أخبرني أبي ، قال : حدّثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قال : وذلك لما دخل الناس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية.

والثاني : أن المراد به ليس الدين ما يدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه ولم يشهد به القلب وينطوي عليه الضمائر ، وإنما الدين هو المعتقد بالقلب ، وهذا قول أبي بكر بن الأنباري.

والقول الثاني : أنه منسوخ : لأن هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال ثم نسخت بآية السيف ، وهذا قول الضحاك والسّدّي وابن زيد.

[٦٥] (٣) ـ أخبرنا ابن ناصر ، قال : ابنا ابن أيوب ، قال : بنا ابن شاذان ، قال : ابنا أبو بكر النجاد ، قال : ابنا أبو داود ، قال : بنا جعفر بن محمد ، قال : بنا عمرو بن طلحة القناد ، قال : بنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السّدّي فأسنده إلى من فوقه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قال : نسخ وأمر بقتال أهل الكتاب في براءة.

[٦٦] ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسن بن قريش ، قال : ابنا أبو إسحاق البرمكي قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا حمر بن نوح ، قال : بنا أبو معاذ قال : بنا أبو مصلح ، عن الضحاك (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قال : نزلت هذه الآية قبل أن يؤمر بالقتال.

قال أبو بكر : وذكر المسيب بن واضح ، عن بقية بن الوليد ، عن عتبة بن أبي حكيم ، عن سليمان بن موسى قال : هذه الآية منسوخة (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) نسختها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣].

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٩٣ / ٢٦١١).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٩٥ / ٢٦١٧).

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ٤١٠ / ٥٨١٩) وإسماعيل القاضي في «أحكام القرآن» وأبو داود في «الناسخ والمنسوخ» كما في «العجاب في بيان الأسباب» للحافظ ابن حجر العسقلاني (١ / ٦١١ ـ ٦١٢).

٨٥

ذكر الآية الخامسة والثلاثين :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة : ٢٨٢].

هذه الآية تتضمن الأمر بإثبات الدين في كتاب ، وإثبات الشهادة في البيع والدين ، واختلف العلماء هل هذا أمر وجوب أم استحباب ، فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب (١).

[٦٧] (٢) ـ أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر ، قال : ابنا أبو محمد الجوهري ، قال : ابنا محمد بن المظفر ، قال : ابنا علي بن إسماعيل ، قال : ابنا أبو حفص عمرو بن علي قال : بنا معمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يقول : سألت الحسن عن الرجل يبيع ولا يشهد فقال : أليس ما قال الله عزوجل : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [البقرة : ٢٨٣].

قال أبو حفص : وحدّثنا يزيد بن زريع قال : بنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : إن شاء أشهد (٣).

[٦٨] ـ وأخبرنا ابن الحصين ، قال : ابنا أبو طالب بن غيلان ، قال : ابنا أبو بكر الشافعي ، قال : ابنا إسحاق بن ميمون ، قال : بنا موسى بن مسعود ، قال : بنا الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ثم قرأ : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

فعلى هذا القول الآية محكمة ، وذهب آخرون إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان ، وهو مرويّ عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهد وعطاء وابن سيرين والضحاك وأبي قلابة والحكم وابن زيد في آخرين.

ثم اختلف أرباب هذا القول هل نسخ أم لا؟ فذهب قوم منهم عطاء وإبراهيم إلى أنه لم ينسخ ، وذهب آخرون منهم أبو سعيد الخدري والشعبي وابن زيد إلى أنه نسخ بقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

[٦٩] ـ أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال : ابنا أبو محمد الجوهري ، قال : ابنا محمد بن المظفر ، قال : بنا علي بن إسماعيل بن حماد ، قال : ابنا أبو حفص عمرو بن علي قال : بنا محمد بن مروان ، قال : بنا عبد الملك بن أبي

__________________

(١) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (٣ / ٤٠٢ ـ ٤٠٥).

(٢) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٢٦٨).

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٥٠ / ٦٣٣٥) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٢٦٦).

٨٦

نضرة ، عن أبيه ، عن أبي سعيد ، أنه قرأ هذه الآية : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) حتى بلغ : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) قال : هذه نسخت ما قبلها.

[٧٠] ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال : ابنا بن بشران ، قال : ابنا إسحاق الكاذي ، قال : بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثني أبي قال : بنا عفان ، قال : بنا عبد الوارث.

[٧١] ـ وأخبرنا محمد بن أبي القاسم ، قال : ابن أحمد بن أحمد ، قال : بنا أبو نعيم الحافظ ، قال : ابنا أحمد بن إسحاق قال : بنا أبو يحيى الرازي ، قال : بنا عبد الرحمن بن عمر قال : بنا عبد الرحمن بن مهدي قال : بنا محمد بن دينار ، كلاهما عن يونس ، عن الحسن ؛ (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢] قال : نسختها : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

قلت : وهذا ليس بنسخ ، لأن الناسخ ينافي المنسوخ ولم يقل هاهنا فلا تكتبوا ، ولا تشهدوا ، وإنما بين التسهيل في ذلك. ولو كان مثل هذا ناسخا لكان قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) [المائدة : ٦] ناسخا للوضوء بالماء ، وقوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) [النساء : ٩٢] ناسخا قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [النساء : ٩٢] والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ وأنه أمر ندب.

وقد اشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفرس الذي شهد فيه خزيمة بلا إشهاد (١).

[٧٢] (٢) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ،

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٢١٥ ـ ٢١٦) وأبو داود (٣٦٠٧) والنسائي (٧ / ٣٠١) من حديث عمارة بن خزيمة بن ثابت ، أن عمّه حدّثه ـ وهو من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتاع فرسا من أعرابي ، فاستتبعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشي وأبطأ الأعرابي ، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ، ولا يشعرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتاعه ، فنادى الأعرابي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال : «أو ليس قد ابتعته منك»؟ فقال الأعرابي : لا ؛ والله ما بعتكه! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلى قد ابتعته منك» فطفق الأعرابي يقول : هلمّ شهيدا. فقال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خزيمة فقال : «بم تشهد»؟ فقال : بتصديقك يا رسول الله.

فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. والحديث صحيح ، صحّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٣٠٧٣).

وانظر أخي القارئ الكريم في هذه القصة كيف كانت سيرة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناصعة نقية ؛ كيف صدّق هذا الصحابي نبيّه وشهد على البيع مع أنه لم يره ، ما دفعه إلا أنه متيقّن من صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «بتصديقك يا رسول الله». هكذا كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرضي عنهم وأرضاهم وأرضى من أحبهم ووالاهم ، وسخط الله على من تنقّص منهم وأبغضهم وعاداهم ، اللهم آمين.

(٢) إسناده صحيح موقوفا.

٨٧

قال : ابنا أبو إسحاق البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا محمد بن بشار ، قال : بنا محمد ، قال : بنا شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : «ثلاثة يدعون الله فلا

__________________

وأخرجه الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» رقم (٦) من طريق : عمرو بن مرزوق ، ثنا شعبة به.

والحديث روي مرفوعا :

أخرجه الحاكم (٢ / ٣٠٢) والبيهقي في «السنن» (١٠ / ١٤٦) وفي «شعب الإيمان» (٦ / ٢٤٩ / ٨٠٤١) وابن شاذان في «المشيخة الصغرى» كما في «الصحيحة» (٤ / ٤٢٠).

من طريق : أبي المثنى معاذ بن المثنى بن معاذ بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، ثنا أبي ، ثنا شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى مرفوعا.

ووقع عند الحاكم : «أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري ، ثنا أبي ، ثنا شعبة به».

وقد أشار الطحاوي إلى هذه الرواية في «مشكل الآثار» (٣ / ٢١٦ / ٢١١).

قال الحاكم : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى».

قال الذهبي في «التلخيص» : «ولم يخرجاه لأن الجمهور رووه عن شعبة موقوفا ، ورفعه معاذ بن معاذ عنه».

وقال في «المهذب» ـ أي : تهذيب السنن للبيهقي ـ كما نقله عنه المناوي في «فيض القدير» (٦ / ٢٨٤٨ ـ ط الباز) : «هو مع نكارته إسناده نظيف».

وتابع معاذ بن معاذ عليه ؛ داود بن إبراهيم الواسطي ، عن شعبة به عند أبي نعيم في «مسانيد أبي يحيى فراس الهمداني» (ص ٩٤ رقم : ٢٩).

قال الشيخ الألباني : «وداود هذا ثقة كما قال في «الجرح» (١ / ٢ / ٤٠٧)».

قلت : داود بن إبراهيم الواسطي «متروك الحديث كان يكذب».

أما الذي وثقه أبو حاتم هو داود بن إبراهيم الواسطي ، لكنه ليس راوي هذا الخبر ؛ إنما هو آخر الذي يروي عن حبيب بن سالم.

فاختلط الأمر على الشيخ الألباني ـ رحمه‌الله ـ فظن أن الموثق هو راوي هذا الحديث والصواب أنه «متروك الحديث».

وسبب هذا الوهم أن أبا حاتم ترجم للرجلين معا ، وقد ذكر أن الأول يروي عن حبيب بن سالم ، وهو ثقة.

والثاني يروي عن شعبة ، وهو متروك الحديث ، وهو الراوي هنا.

وانظر «الجرح والتعديل» (٣ / ٤٠٧ / ١٨٦٦).

وتابعه أيضا عمرو بن حكام ، عن شعبة به. عند الطحاوي في «مشكل الآثار» (٣ / ٢١٦).

وعمرو بن حكام ؛ «ليس بالقوي» كما قال أبو زرعة ؛ انظر «الجرح والتعديل» (٦ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ / ١٢٦٥).

فالحديث مختلف في رفعه على شعبة والصواب فيه أنه موقوف.

وقد أعلّه الشيخ المحدث مقبل بن هادي الوادعي ـ سلّمه الله ـ فأودعه في كتابه الماتع «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» (ص ٢٧٠ رقم : ٢٩٣).

وأودعه الشيخ الألباني في «الصحيحة» (١٨٠٥). والله تعالى أعلم بالصواب.

٨٨

يستجاب لهم ... أحدهم : رجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه».

ذكر الآية السادسة والثلاثين :

قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤].

أما إبداء ما في النفس فإنه العمل بما أضمره العبد أو نطق به ، وهذا مما يحاسب عليه العبد ، ويؤاخذ به ، فأما ما يخفيه في نفسه فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين :

الأول : أنه عام في جميع المخفيات ، وهو قول الأكثرين ، ثم اختلفوا هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟ على قولين :

الأول : أنه منسوخ بقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] هذا قول علي بن مسعود في آخرين.

[٧٣] (١) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق الكاذي ، قال : بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : بنا عبد العزيز ـ يعني ابن أبان ـ قال : بنا إسرائيل ، عن السدّي ، عمن سمع عليا رضي الله عنه قال : نزلت : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] أحزنتنا وهمتنا فقلنا : يحدّث أحدنا نفسه فيحاسب به ، فلم ندر ما يغفر منه وما لم يغفر ، فنزلت بعدها فنسختها : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

[٧٤] ـ أخبرنا المبارك بن علي قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريض ، قال : ابنا إسحاق البرمكي قال ابنا : محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود قال : بنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، قال : بنا حجاج قال : بنا هشيم ، عن سيار أبي الحكم ، عن الشعبي ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال : نسختها الآية التي تليها (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦].

[٧٥] (٢) ـ أخبرنا أبو بكر العامري ، قال : ابنا أبو عبد الله الطوسي ، قال : ابنا

__________________

(١) إسناده ضعيف.

وأخرجه عبد بن حميد كما في «العجاب» (١ / ٦٥٢) والترمذي (٢٩٩٠) وضعّف إسناده الألباني في «ضعيف سنن الترمذي» رقم (٥٧٣).

(٢) أخرجه مسلم (١٢٥) وأحمد (٢ / ٤١٢) وأبو عوانة في «مسنده» (١ / ٧٥ ـ ٧٦ / ٢٢٢) وابن حبان (١ / ٢٥٠ ـ ٢٥١ / ١٣٩) والواحدي في «أسباب النزول» (ص ٩٤) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٢ / ٥٧٣ / ٣٠٦٠).

من طرق ؛ عن العلاء بن عبد الرحمن به.

٨٩

علي بن أحمد النيسابوري قال : ابنا عبد القاهر بن ظاهر ، قال : ابنا محمد بن عبد الله بن علي قال : ابنا محمد بن إبراهيم اليوشنجي ، قال : ابنا أمية بن بسطام ، قال : بنا يزيد بن زريع ، قال : بنا روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما أنزل الله عزوجل : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) اشتدّ ذلك على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : كلّفنا من الأعمال ما نطيق ؛ الصلاة والصيام والجهاد ، والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم» ـ أراه قال : سمعنا وعصينا ـ قولوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة : ٢٨٥] فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم ، فأنزل الله عزوجل في إثرها : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) [البقرة : ٢٨٥] كلها ، ونسخها الله تعالى فأنزل الله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الآية إلى آخرها.

[٧٦] ـ أخبرنا عبد الوهاب ، قال : ابنا أبو طاهر الباقلاوي ، قال : ابنا ابن شاذان ، قال : بنا عبد الرحمن بن الحسن ، قال : بنا إبراهيم بن الحسين ، قال : بنا آدم ، قال : بنا ورقاء ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) نسختها الآية التي بعدها : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١).

[٧٧] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله البقال قال : ابنا ابن بشران ، قال : بنا إسحاق الكاذي ، قال : بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثني أبي ، قال : بنا علي بن حفص ، قال : بنا ورقاء ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) قال : نسخت هذه الآية : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ).

قال أحمد : وحدّثنا محمد بن حميد ، عن سفيان ، عن آدم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) شق ذلك على المسلمين ، قال : فنزلت : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فنسختها.

__________________

(١) أخرجه مسلم (١٢٥) وأحمد (١ / ٢٣٣) والطبري في «تفسيره» (٦ / ١٠٤ / ٦٤٥٧) وأبو عوانة في «المسند» (١ / ٧٥ / ٢٢٠).

من طريق : آدم بن سليمان به.

(٢) انظر الذي قبله.

٩٠

[٧٨] ـ أخبرنا بن ناصر ، قال : بنا علي بن أيوب ، قال : ابنا علي بن شاذان ، قال : ابنا أبو بكر النجاد ، قال : بنا أبو داود السجستاني ، قال : بنا أحمد بن محمد بن ثابت ، قال : حدّثني علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال : نسخت ، فقال الله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

[٧٩] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : بنا أحمد بن الحسين ، قال : ابنا أبو إسحاق البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : بنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا علي بن سهل بن المغيرة ، قال : بنا عفان ، قال : بنا أبو عوانة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نسختها الآية التي بعدها (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

[٨٠] (٢) ـ أخبرنا عبد الوهاب ، قال : ابنا عاصم بن الحسن ، قال : ابنا أبو عمر بن مهدي ، قال : بنا الحسين بن إسماعيل المحاملي ، قال : بنا يعقوب الدورقي ، قال : بنا يزيد بن هارون ، قال : ابنا سفيان عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه تلا هذه الآية : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عباس رضي الله عنهما فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع ما صنع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزلت فنسختها (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

[٨١] (٣) ـ أخبرنا ابن الحصين ، قال : ابنا ابن المذهب ، قال : ابنا أحمد بن جعفر ، قال : بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : بنا عبد الرزاق ، قال : بنا معمر ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : دخلت على ابن عباس ، فقلت : يا ابن عباس كنت عند ابن عمر ، فقرأ هذه الآية ، فبكى قال : أية آية؟ قلت : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال ابن عباس : إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غما شديدا ، وغاظتهم غيظا شديدا يعني وقالوا : يا رسول الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا به وبما نعمل به ، فأما قلوبنا فليست بأيدينا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا سمعنا وأطعنا» قالوا :

__________________

(١) أخرجه أبو عوانة في «مسنده» (١ / ٧٥ / ٢٢١).

(٢) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (٥٠٧) والنحاس في «ناسخه» (ص ٨٢) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٠٨ / ٦٤٦٢) من طريق : سفيان به.

(٣) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» كما في «العجاب» (١ / ٦٤٩).

٩١

سمعنا وأطعنا ، قال : فنسختها هذه الآية (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٢٨٥] إلى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

[٨٢] ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : بنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي : قال بنا وكيع ، قال : بنا سفيان ؛ عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، وعن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم ، وعن جابر عن مجاهد ، قال : ونسخت هذه الآية (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) نسخت (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ).

قال أحمد : وحدّثنا معاوية بن عمرو ، قال : بنا زائدة عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ، نسخت : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ).

قال أحمد : وحدّثنا يونس قال : بنا حماد يعني ابن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال : نسختها (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

قال أحمد : وحدّثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة قال : نزلت هذه الآية فكبرت عليهم ، فأنزل الله تعالى بعدها آية فيها تيسير وعافية وتخفيف (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

[٨٣] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا أبو إسحاق البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل الوراق ، قال : بنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا زيادة بن أيوب ، قال : بنا هشيم ، عن يسار ، عن الشعبي قال : لما نزلت : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) كان فيها شدة حتى نزلت الآية التي بعدها (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) فنسخت ما قبلها.

قال أبو بكر : وحدّثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : بنا الأسود ، عن حماد ، عن يونس ، عن الحسن (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) قال نسختها (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

__________________

(١) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (٣ / ١٠١٧ / ٤٨٠) من طريق : هشيم به.

وأخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٧٨ / ٣٠٨٩) من طريق هشيم ، ثنا سيار أبو الحكم ، عن الشعبي ، عن أبي عبيدة بن عبد الله.

٩٢

وإلى هذا القول ذهبت عائشة رضي الله عنها ، وعلي بن الحسين ، وابن سيرين ، وعطاء الخراساني ، والسدي ، وابن زيد ، ومقاتل.

والقول الثاني : أنه لم تنسخ ، ثم اختلف أرباب هذا القول على ثلاثة أقوال :

الأول : أنه ثابت في المؤاخذة على العموم فيؤاخذ به من يشاء ويغفر لمن يشاء. وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وابن عمر ، والحسن واختاره أبو سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى.

والثاني : أن المؤاخذة به واقعة ، ولكن معناها اطلاع العبد على فعله السيّئ.

[٨٤] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا أبو إسحاق البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا يعقوب بن سفيان ، قال : بنا أبو صالح قال : ابنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال : هذه الآية لم تنسخ ، ولكن الله عزوجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لهم : إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم ، وهو قوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) يقول : يخبركم به الله. وفي رواية أخرى : وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٨٤].

وقال أبو بكر : وحدّثنا محمد بن أيوب ، قال : بنا أحمد بن عبد الرحمن ، قال : بنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : هي محكمة لم ينسخها شيء بقوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) يقول : يعرّفه يوم القيامة أنك أخفيت في صدرك كذا وكذا فلا يؤاخذه (٢).

والثالث : أن محاسبة العبد به نزول الغم والحزن والعقوبة والأذى به في الدنيا ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها.

والقول الثاني : أنه أمر به خاص في نوع من المخفيات. ثم لأرباب هذا القول فيه قولان :

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٧٢ / ٣٠٥٧) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٥١٢) والطبري في «تفسيره» (٦ / ١١٣ / ٦٤٨١) من طريق : أبي صالح به.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٧٢ / ٣٠٥٥) من طريق : أحمد بن عبد الرحمن به. ثم أخرجه (٢ / ٥٧٤ ـ ٥٧٥ / ٣٠٦٥).

٩٣

الأول : أنه في الشهادة ، والمعنى : إن تبدوا بها الشهود ما في أنفسكم من كتمان الشهادة أو تخفوه.

[٨٥] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إسحاق البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل ، قال : بنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا زياد بن أيوب.

وأخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال : ابنا عاصم بن الحسن ، قال : ابنا أبو عمر بن مهدي ، قال : ابنا أبو عبد الله المحاملي ، قال : بنا يعقوب الدورقي.

وأخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : بنا الكاذي ، قال : بنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : بنا هشيم ، قال : ابنا يزيد بن أبي زيادة ، عن مقسم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) قال : نزلت في كتمان الشهادة ، وإقامتها.

قال أحمد : وحدّثنا يونس ، قال : بنا حماد ، عن حميد ، عن عكرمة ، قال : هذه في الشهادة (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] وبهذا قال الشعبي.

والثاني : أنه الشك واليقين.

[٨٦] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال ابنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال : ابنا ابن بشران قال : بنا إسحاق الكاذي ، قال : بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي.

وأخبرنا المبارك بن علي قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا أبو إسحاق البرمكي قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا المؤمل بن هشام قال : بنا إسماعيل بن علية.

وأخبرنا عبد الوهاب ، قال : ابنا أبو طاهر الباقلاوي ، قال : ابنا ابن شاذان ، قال : ابنا عبد الرحمن بن الحسن ، قال : بنا إبراهيم بن الحسين ، قال : بنا آدم ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ١٠٢ ـ ١٠٣ / ٦٤٥٠ / ٦٤٥٤) وأبو عبيد في «ناسخه» (٥٠٢).

من طريق : يزيد بن أبي زياد به. وإسناده ضعيف لأجل يزيد بن أبي زياد.

وأخرجه ابن جرير الطبري (٦ / ١٠٢ / ٦٤٤٩) وابن أبي حاتم (٢ / ٥٧٢ / ٣٠٥٦) وسعيد بن منصور في «سننه» (٣ / ١٠٠٤ / ٤٧٣ ـ آل حميد).

من طريق يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس به.

(٢) أخرجه أبو عبيد (٥٠١) والنحاس (ص ٨٢).

٩٤

قال : بنا ورقاء ، كلاهما عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) من الشك واليقين.

فعلى هذا الآية محكمة.

قال ابن الأنباري : والذي نختاره أن تكون الآية محكمة لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي.

وقال أبو جعفر النحاس (١) : لا يجوز أن يقع في مثل هذه الآية نسخ ؛ لأنها خبر ، وإنما التأويل أنه لما أنزل الله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) اشتد عليهم ووقع في قلوبهم منه شيء عظيم ، فنسخ ذلك قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : نسخ ما وقع بقلوبهم ، أي : أزاله ورفعه.

ذكر الآية السابعة والثلاثين :

قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) اختلفوا في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة على قولين :

الأول : أنها محكمة وأن الله تعالى إنما يكلف العباد قدر طاقتهم فحسب وهذا مذهب الأكثرين.

والثاني : أنها اقتضت التكليف بمقدار الوسع بحيث لا ينقص منه ، فنزل قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة : ٢٨٥] وذلك ينقص عن مقدار الوسع فنسختها. والقول الأول أصح.

الباب العاشر

باب ذكر الآيات اللواتي

ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة آل عمران

ذكر الآية الأولى :

قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) [آل عمران : ٢٠] قد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الكلام اقتضى الاقتصار على التبليغ دون القتال ، ثم نسخ بآية السيف.

__________________

(١) في «الناسخ والمنسوخ» ص ٨٢.

٩٥

وقال بعضهم : لما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمانهم مزعجا نفسه في الاجتهاد في ذلك سكن جأشه بقوله : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) [هود : ١٢] و (نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ) والمعنى : لا تقدر على سوق قلوبهم إلى الصلاح فعلى هذا لا نسخ.

ذكر الآية الثانية :

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) [آل عمران : ٢٨] قد نسب قوم إلى أن المراد بالآية اتقاء المشركين أن يوقعوا فتنة أو ما يوجب القتل والفرقة ثم نسخ ذلك بآية السيف.

وليس هذا بشيء ، وإنما المراد من الآية جواز اتقائهم إذا أكرهوا المؤمن على الكفر بالقول الذي لا يعتقده ، وهذا الحكم باق غير منسوخ ، وهو المراد بقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].

[٨٧] (١) ـ أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال : ابنا ابن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي ، قالا : ابنا ابن شاذان قال : ابنا أحمد بن كامل ، قال : حدّثني محمد بن سعد العوفي قال : حدّثني أبي قال : حدّثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) والتقية باللسان : من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية الله ؛ فتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك لا يضره.

[٨٨] (٢) ـ وأخبرنا عبد الوهاب ، قال : ابنا أبو طاهر الباقلاوي قال : ابنا ابن شاذان ، قال : ابنا عبد الرحمن بن الحسن ، قال : ابنا إبراهيم بن الحسين ، قال : بنا آدم ، قال : بنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ؛ (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال : إلا مصانعة في الدين.

وقد زعم إسماعيل السّدي ، أن قوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) [آل عمران : ٢٨] منسوخة بقوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً). ومثل هذا ينبغي تنزيه الكتب عن ذكره فضلا عن رده ، فإنه قول من لا يفهم ما يقول!

ذكر الآية الثالثة والرابعة والخامسة :

قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) إلى قوله : (يُنْظَرُونَ) [آل عمران : ٨٦ ـ ٨٨] اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآيات على ثلاثة أقوال : الأول : أنها نزلت في الحارث بن سويد ؛ كان قد أسلم ثم ارتدّ ولحق

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٦٢٩ / ٣٣٨١).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٢ / ٦٣٠ / ٣٣٨٥).

٩٦

بقومه ، فنزلت فيه هذه الآيات ، فحملها إليه رجل من قومه فقرأهن عليه فرجع وأسلم ، قاله مجاهد (١).

والثاني : أنها نزلت في عشرة آمنوا ثم ارتدّوا ، ومنهم طعمة ووحوح والحارث بن سويد ، فندم منهم الحارث وعاد إلى الإسلام ، رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما (٢).

والثالث : أنها نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث ، ثم كفروا به. رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال الحسن.

وقوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا) [آل عمران : ٨٦] استفهام في معنى الجحد ، أي : لا يهديهم الله ، وفيه طرف من التوبيخ ، كما يقول الرجل لعبده : كيف أحسن إلى من لا يطيعني. أي : لست أفعل ذلك. والمعنى : أنه لا يهدي من عاند بعد أن بان له الصواب.

وهذا محكم لا وجه لدخول النسخ عليه ، وقد زعم قوم منهم السّدّي أن هذه الآيات منسوخات بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [آل عمران : ٨٩].

__________________

(١) أخرجه مسدّد كما في «العجاب» (٢ / ٧١٠) وعبد الرزاق في «مصنفه» (التفسير) (١ / ١٢٥) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٧٣ / ٧٣٦٣) والواحدي في «أسباب النزول» (ص ١١٤) وابن بشكوال في «الغوامض والمبهمات» (١ / ٣٩٩ / ٣٦٤). من طريق : جعفر بن سليمان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد به.

وإسناده إلى مجاهد صحيح ، لكنه مرسل. وسيأتي مرفوعا من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، فالخبر صحيح.

(٢) أخرجه النسائي في «المجتبى» (٧ / ١٠٧) وفي «الكبرى» كتاب التفسير (٦ / ٣١١ / ١١٠٦٥) وأحمد (١ / ٢٤٧) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٢ / ٦٩٩ ـ ٧٠٠ / ٣٧٨٩ ، ٣٧٩٥) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٧٢ ـ ٥٧٣ / ٧٣٦٠) والحاكم (٢ / ١٤٢ و ٤ / ٣٦٦) وابن حبان في «صحيحه» (١٠ / ٣٢٩ / ٤٤٧٧) والبيهقي في «السنن» (٨ / ١٩٧) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٦٤ و ٧ / ٣٧) والواحدي في «أسباب النزول» (ص ١١٤) وابن بشكوال في «الغوامض والمبهمات» (١ / ٣٩٨ / ٣٦٣).

من طرق ؛ عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا من الأنصار ـ هو الحارث بن سويد ـ ارتدّ عن الإسلام ولحق بالمشركين ، فأنزل الله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) إلى آخر الآية. فبعث بها قومه ؛ فرجع تائبا ، فقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منه ، وخلّى عنه.

وإسناده صحيح ؛ صحّحه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على «المسند» رقم (٢٢١٨) والعلامة الألباني في «صحيح سنن النسائي» رقم (٣٧٩٢) والعلامة مقبل بن هادي الوادعي ـ عافاه الله ـ في «الصحيح المسند من أسباب النزول» (ص ٥٤).

٩٧

[٨٩] ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا محمد بن الحسين ، قال : بنا أحمد بن الفضل ، قال : بنا أسباط ، عن السدي ، (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا) قال : نزلت في الحارث ثم أسلم فنسخها الله عزوجل فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا).

قلت : وقد بينا فيما تقدم أن الاستثناء ليس بنسخ وإنما هو مبين أن اللفظ الأول لم يرد به العموم وإنما المراد به من عاند ولم يرجع إلى الحق بعد وضوحه ، ويؤكد هذا أن الآيات خبر ، والنسخ لا يدخل على الأخبار بحال.

ذكر الآية السادسة :

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧].

قال السّدّي : هذا الكلام تضمّن وجوب الحجّ على جميع الخلق الغني والفقير والقادر والعاجز ، ثم نسخ في حق عادم الاستطاعة بقوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧].

قلت : وهذا قول قبيح ، وإقدام بالرأي الذي لا يستند إلى معرفة اللغة العربية التي نزل بها القرآن على الحكم بنسخ القرآن ، وإنما الصحيح ما قاله النحويون كافة في هذه الآية ؛ فإنهم قالوا : «من» بدل من «الناس» وهذا بدل البعض ، كما يقول : ضربت زيدا برأسه ، فيصير تقدير الآية : ولله على من استطاع من الناس الحج أن يحج.

ذكر الآية السابعة :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] اختلف العلماء هل هذا محكم أو منسوخ على قولين :

القول الأول : أنه منسوخ

[٩٠] ـ أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري ، قال : ابنا علي بن الفضل ، قال : ابنا ابن عبد الصمد ، قال : ابنا عبد الله بن حموية ، قال : ابنا إبراهيم بن حريم ، قال : ابنا عبد الحميد ، قال : بنا إبراهيم ، عن أبيه ، عن عكرمة (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال ابن عباس : فشق ذلك على المسلمين ، فأنزل الله عزوجل بعد ذلك (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦].

٩٨

قال عبد الحميد : وابنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال : نسختها (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

[٩١] (١) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال : بنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : بنا عبد الرزاق ، قال : بنا معمر ، عن قتادة في قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال : أن يطاع فلا يعصى ، ثم نسختها قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

[٩٢] (٢) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا أبو إسحاق البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا يعقوب بن سفيان ، قال : بنا ابن بكير ، قال : بنا ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) اشتدّ على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم ، فأنزل الله تخفيفا عن المسلمين (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فنسخت الآية الأولى.

وعن ابن لهيعة ، عن أبي صخر ، عن محمد بن كعب (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال : نسختها (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

قال أبو بكر : وحدّثنا محمد بن الحسين بن أبي حنيف ، قال : ابنا أحمد بن المفضل ، قال : ابنا أسباط عن السدي قال : أما (حَقَّ تُقاتِهِ) أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر. فلم يطق الناس هذا فنسخها الله عنهم فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، وإلى هنا ذهب الربيع بن أنس ، وابن زيد ، ومقاتل بن سليمان.

ومن نص هذا القول قال : (حَقَّ تُقاتِهِ) ؛ هو القيام له بجميع ما يستحقه من طاعة واجتناب معصية ، قالوا : هذا أمر تعجز الخلائق عنه ، فكيف بالواحد منهم؟ فوجب أن تكون منسوخة ، وإن تعلق الأمر بالاستطاعة ، ويوضح هذا.

[٩٣] (٣) ـ ما أخبرنا به يحيى بن علي المدبر قال : ابنا أبو الحسين بن المنصور

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٦٨ / ٧٥٥٧) من طريق أخرى عن قتادة به.

(٢) إسناده ضعيف.

أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٣ / ٧٢٢ / ٣٩١١).

(٣) أثر صحيح.

أخرجه الحاكم (٢ / ٢٩٤) وابن أبي حاتم (٣ / ٧٧٢ / ٣٩٠٨) وابن جرير الطبري في «تفسيره»

٩٩

قال : ابنا أحمد بن محمد الحرزي ، قال : ابنا البغوي ، قال : بنا محمد بن بكار ، قال : بنا محمد بن طلحة ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال : أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر.

والقول الثاني : أنها محكمة

[٩٤] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إسحاق البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : بنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا يعقوب بن سفيان ، قال : بنا أبو صالح ، قال : حدّثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال : لم تنسخ ، ولكن (حَقَّ تُقاتِهِ) : أن يجاهدوا في الله حق جهاده ، ولا يأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.

وهذا مذهب طاوس ، وهو الصحيح ؛ لأن التقوى : هو اجتناب ما نهى الله عنه. ولم ينه عن شيء ولا أمر به إلا وهو داخل تحت الطاقة ، كما قال عزوجل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] فالآيتان متوافقتان ، والتقدير : اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم ، فقد فهم الأولون من الآية تكليف ما لا يستطاع فحكموا بالنسخ ، وقد ردّ عليهم ذلك قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وإنما قوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) كقوله : «حق جهاده» الحق هاهنا بمعنى الحقيقة ، ثم إن

__________________

(٧ / ٦٥ / ٧٥٣٦) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٤٧٥) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص ٨٤ ـ ٨٥) والطبراني في «المعجم الكبير» (٨ / ٩٢ / ٨٥٠١ ، ٨٥٠٢).

من طريق : زبيد اليامي ، عن مرة بن شراحيل ، عن عبد الله بن مسعود موقوفا.

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣٢٦) : «رواه الطبراني بإسنادين ؛ رجال أحدهما رجال الصحيح ، والآخر ضعيف».

وقال ابن كثير في «تفسيره» : (١ / ٥٠٥) : «إسناده صحيح موقوف».

تنبيه : عزا الحافظ ابن كثير الأثر للحاكم ، وقال : «كذا رواه الحاكم من حديث مسعر ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود مرفوعا».

وقال الشيخ أحمد شاكر في «عمدة التفسير» (٢ / ١٤ ـ ١٥) : «إن الرواية عند الحاكم موقوفة ، وكذلك ثبتت في مخطوطة مختصره للذهبي ، إلا أن يكون الحاكم رواه في موضع آخر مرفوعا ، ولا أظنه».

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٣ / ٧٢٢ / ٣٩١٠) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٧ / ٧٥٥٢) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٤٧٤). والنحاس في «ناسخه» (ص ٨٥) من طريق : أبي صالح به.

١٠٠