نواسخ القرآن

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

نواسخ القرآن

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: الداني بن منير آل زهوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

للزوج المطلق ثلاثا ، فلا يكون هذا ناسخا ، لاختلاف حالة التحريم والتحليل.

والشرط الثاني : أن يكون الحكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ فذلك يقع بطريقين :

أحدهما : من جهة النطق كقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) [البقرة : ١٨٧] ومثل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها» (١).

والثاني : أن يعلم بطريق التاريخ ، وهو أن ينقل بالرواية بأن يكون الحكم الأول ثبوته متقدما على الآخر ، فمتى ورد الحكمان مختلفين على وجه لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك الآخر ، ولم يثبت تقديم أحدهما على صاحبه بأحد الطريقين ؛ امتنع ادّعاء النسخ في أحدهما.

والشرط الثالث : أن يكون الحكم المنسوخ مشروعا ؛ أعني أنه ثبت بخطاب الشرع ، فأما إن كان ثابتا بالعادة والتعارف لم يكن رافعه ناسخا ، بل يكون ابتداء شرع ، وهذا شيء ذكر عند المفسرين ، فإنهم قالوا : كان الطلاق في الجاهلية لا إلى غاية ، فنسخه قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) [البقرة : ٢٢٩] وهذا لا يصدر ممن يفقه ، لأن الفقيه يفهم أن هذا ابتداء شرع لا نسخ.

والشرط الرابع : أن يكون ثبوت الحكم الناسخ مشروعا كثبوت المنسوخ فأما ما ليس بمشروع بطريق النقل ، فلا يجوز أن يكون ناسخا للمنقول ، ولهذا إذا ثبت حكم منقول لم يجز نسخه بإجماع ولا بقياس.

والشرط الخامس : أن يكون الطريق الذي ثبت به الناسخ مثل الطريق الذي ثبت به المنسوخ أو أقوى منه ، فأما إن كان دونه فلا يجوز أن يكون الأضعف ناسخا للأقوى.

الباب الخامس

باب ذكر ما اختلف فيه هل هو شرط في النسخ أم لا؟

اتفق العلماء على جواز نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة ، فأما نسخ القرآن بالسنة ، فالسنة تنقسم قسمين :

__________________

(١) أخرجه مسلم (٩٧٧ ، ١٩٧٧). من حديث بريدة بن الحصيب.

٢١

القسم الأول : ما ثبت بنقل متواتر ، كنقل القرآن ، فهل يجوز أن ينسخ القرآن بمثل هذا؟ حكى فيه شيخنا علي بن عبيد الله روايتين عن أحمد ، قال : والمشهور أنه لا يجوز (١) ، وهو مذهب الثوري والشافعي.

والرواية الثانية يجوز ؛ وهو قول أبي حنيفة ، ومالك (٢) قال : ووجه الأولى ؛ قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [البقرة : ١٠٦] والسنة ليست مثلا للقرآن ، وروى الدار قطني من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلامي لا ينسخ القرآن ، ينسخ بعضه بعضا» (٣).

ومن جهة المعنى ؛ فإن السنة تنقص عن درجة القرآن فلا تقدم عليه.

ووجه الرواية الثانية ؛ قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] والنسخ في الحقيقة بيان مدة المنسوخ ، فاقتضت هذه الآية قبول هذا البيان ، قال : وقد نسخت (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠] بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصية لوارث» (٤). ونسخ قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) [البقرة : ١٩١] بأمره عليه الصلاة والسلام ، أن يقتل ابن خطل ، وهو متعلّق بأستار الكعبة (٥).

ومن جهة المعنى ؛ أن السنة مفسرة للقرآن ، وكاشفة لما يغمض من معناه ، فجاز أن ينسخ بها.

والقول الأول هو الصحيح ، لأن هذه الأشياء تجري مجرى البيان للقرآن ، لا

__________________

(١) انظر «الواضح في أصول الفقه» (١ / ٢٨٨) و (٤ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩) و «العدة» لأبي يعلى (٣ / ٧٨٨) و «التمهيد في أصول الفقه» للكلوذاني (٢ / ٣٨٢) و «المحصول» (٣ / ٣٤٧) و «الإحكام» للآمدي (٣ / ١٥٣).

(٢) «الواضح في أصول الفقه» (٤ / ٢٥٩) و «أصول السرخسي» (٢ / ٢٦٧).

(٣) أخرجه الدارقطني (٤ / ١٤٥) وابن عدي في «الكامل» (٢ / ١٨٠) من طريق : جبرون بن واقد ، نا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله به مرفوعا.

قال الذهبي في «ميزان الاعتدال» في ترجمة جبرون بن واقد رقم (١٤٣٧) : «متهم ، فإنه روى بقلّة حياء عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا : «كلام الله ينسخ كلامي». وهذا الحديث موضوع».

وحكم عليه بالوضع المحدث الألباني في «المشكاة» (١ / ٦٨ / ١٩٥).

(٤) أخرجه أحمد (٥ / ٢٦٧) وأبو داود (٢٨٧٠) و (٣٥٦٥) والترمذي (٢١٢٠) وابن ماجة (٢٧١٣) وغيرهم ، من حديث أبي أمامة الباهلي. وهو حديث صحيح ، وفي الباب عن غيره من الصحابة تخريجها في «نصب الراية» (٤ / ٤٠٣).

(٥) انظر «صحيح البخاري» (١٨٤٦ ، ٣٠٤٤ ، ٤٢٨٦ ، ٥٨٠٨) و «صحيح مسلم» (١٣٥٧).

٢٢

النسخ ، وقد روى أبو داود السجستاني قال : سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول : السنة تفسر القرآن ، ولا ينسخ القرآن إلا القرآن. وكذلك قال الشافعي : إنما ينسخ الكتاب الكتاب ، والسنة ليست ناسخة له (١).

والقسم الثاني : الأخبار المنقولة بنقل الآحاد ؛ فهذه لا يجوز بها نسخ القرآن (٢) ، لأنها لا توجب العلم ، بل تفيد الظن ، والقرآن يوجب العلم ، فلا يجوز ترك المقطوع به لأجل مظنون ، وقد احتجّ من رأى جواز نسخ التواتر بخبر الواحد بقصة أهل قباء لما استداروا بقول واحد ، فأجيب بأن قبلة بيت المقدس لم تثبت بالقرآن ، فجاز أن تنسخ بخبر الواحد.

فصل

واتفق العلماء على جواز نسخ نطق الخطاب ، واختلفوا في نسخ ما ثبت بدليل الخطاب وتنبيه وفحواه ، فذهب عامة العلماء إلى جواز ذلك ، واستدلوا بشيئين :

أحدهما : أن دليل الخطاب دليل شرعي يجري مجرى النطق في وجوب العمل به فجرى مجراه في النسخ.

والثاني : أنه قد وجد ذلك ، فروى جماعة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «الماء من الماء» (٣). وعملوا بدليل خطابه ، فكانوا لا يغتسلون من التقاء الختانين ، ثم نسخ ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا التقى الختان بالختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل» (٤). وقد حكي عن جماعة من أهل الظاهر أنه لا يجوز نسخ ما ثبت بدليل الخطاب وفحواه ، قالوا : لأن ذلك معلوم بطريق القياس ، والقياس لا يكون ناسخا ولا منسوخا ، وليس الأمر على ما ذكر ، بل هو مفهوم من معنى النطق وتنبيهه.

فصل

واتفق العلماء على أن الحكم المأمور به إذا عمل به ثم نسخ بعد ذلك ؛ أن النسخ يقع صحيحا جائزا.

__________________

(١) انظر «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (٢ / ١١٩٤ ـ ١١٩٥ / ٢٣٥٥) ط. ابن الجوزي.

(٢) ونقل ابن عقيل في «الواضح» (٤ / ٢٩٠) رواية عن الإمام أحمد في جواز ذلك.

(٣) أخرجه مسلم (٣٤٣) وأحمد (٣ / ٢٩ ، ٣٦) وأبو داود (٢١٧) وغيرهم ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفي الباب عن غيره من الصحابة.

(٤) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (٢ / ٢٤٧ ، ٤٧٠) وأصله عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها. انظر تخريجه في «إرواء الغليل» رقم (٨٠).

٢٣

واختلفوا ؛ هل يجوز نسخ الحكم قبل العمل به؟

فظاهر كلام أحمد : جواز ذلك ، وهو اختيار عامة أصحابنا ، وكان أبو الحسن التميمي يقول : لا يجوز ذلك ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة. واحتجّ الأولون بأن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده ، ثم نسخ ذلك بالفداء قبل فعله. وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرض عليه وعلى أمته ليلة المعراج خمسون صلاة ثم نسخ ذلك بخمس صلوات.

ومن جهة المعنى : فإن الأمر بالشيء يقع فيه تكليف الإيمان به والاعتقاد له ، ثم تكليف العزم على فعله في الزمان الذي عين له ، ثم إذا فعل على الوجه المأمور به ، فجاز أن ينسخ قبل الأداء ، لأنه لم يفقد من لوازمه غير الفعل ، والنية نائبة عنه.

واحتج من منع من ذلك ؛ بأن الله تعالى إنما يأمر عباده بالعبادة لكونها حسنة ، فإذا أسقطها قبل فعلها خرجت عن كونها حسنة ، وخروجه قبل الفعل يؤدي إلى البداء.

وهذا كلام مردود بما بينا من الإيمان والامتثال ، والعزم يكفي في تحصيل المقصود من التكليف بالعبادة.

الباب السادس

باب فضيلة علم الناسخ والمنسوخ والأمر بتعلّمه

[٣] (١) ـ أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي قال : أخبرنا عبد الله بن محمد الصريفيني قال : أخبرنا عمر بن إبراهيم الكتاني ، قال : حدّثنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال : بنا زهير بن حرب ، قال حدّثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن ، أن عليا عليه‌السلام مرّ بقاصّ ، فقال : أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا. قال : «هلكت وأهلكت».

__________________

(١) أثر صحيح.

أخرجه أبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص ٧) ـ طبعة الكتب الثقافية ـ وأبو خيثمة في «العلم» رقم (١٣٠) وأبو بكر الهمداني في «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ» (ص ٦ ط حمص) ورقم (٣) بتحقيقي ، وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (١) والبيهقي في «السنن الكبرى» (١٠ / ١١٧) والزهري في «الناسخ والمنسوخ» ص (١٣). من طريق : سفيان الثوري ، عن أبي حصين به.

قال الشيخ الألباني في تحقيقه لكتاب «العلم» (ص ٣١) : «إسناده صحيح على شرط الشيخين».

٢٤

[٤] (١) ـ أخبرنا محمد بن ناصر قال : أخبرنا علي بن الحسين بن أيوب ، قال : أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان ، قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد ، قال : حدّثنا أبو داود السجستاني ، قال : حدّثنا حفص بن عمر ، قال : حدّثنا شعبة ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : مرّ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على قاصّ يقص فقال : تعلّمت الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا. قال : «هلكت وأهلكت».

[٥] (٢) ـ أخبرنا عبد الله بن علي المقري قال : أخبرنا أحمد بن ندار البقال ، قال : أخبرنا محمد بن عمر بن بكير النجاب ، قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : بنا إبراهيم بن عبد الله البصري ، قال : حدّثنا أبو عمر حفص بن عمر الضرير قال : أبنا حماد بن سلمة ؛ أن عطاء بن السائب أخبرهم ، عن أبي البختري الطائي ، قال : أتى علي عليه‌السلام على رجل في مسجد الكوفة وهو يقص ، فقال : من هذا؟ قالوا : رجل يحدث ، ثم أتى عليه يوما آخر فإذا هو يقص ، فقال : من هذا؟ قالوا : رجل يحدث. فقال : اسألوه ؛ يعرف الناسخ من المنسوخ. فسألوه ؛ فقال : لا. فقال : إن هذا يقول : اعرفوني اعرفوني ، أنا فلان ثم قال : لا تحدّث.

[٦] ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي ، قال : أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال قال : أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، قال : أخبرنا إسحاق بن أحمد الكاذي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا عبد الملك بن عمرو ، قال : حدّثنا يزيد ـ يعني ابن إبراهيم بن العلاء الغنوي ـ ، أن سعيد بن أبي الحسن لقي أبا يحيى فقال : يا أبا يحيى : من الذي قال له علي عليه‌السلام اعرفوني اعرفوني؟ فقال : إني أظنك عرفت أني أنا هو. قال : قال : ما عرفت أنك هو ، قال : فإني أنا هو ، مرّ بي وأنا قص بالكوفة ، فقال : من أنت؟

__________________

(١) أخرجه الخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (١ / ٢٤٤ / ٢٣٩) وأبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص ٧) والزهري في «الناسخ والمنسوخ» (ص ١٤). من طريق : شعبة ، عن أبي حصين به. وإسناده صحيح ، وانظر الذي قبله.

(٢) إسناده ضعيف.

عطاء بن السائب ؛ «صدوق اختلط».

وأبو البختري ؛ هو : سعيد بن فيروز ؛ ثقة لكنه يرسل ، وهو لم يسمع من علي عليه‌السلام كما قال ابن معين وغيره ؛ انظر «تهذيب الكمال» (١١ / ٣٣). والخبر أخرجه أبو جعفر النحاس (ص ٨) والزهري في «الناسخ والمنسوخ» (ص ١٤) من طريق : حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب به.

وأخرجه (ص ٧) من طريق : أبي إسحاق ، عن عطاء به.

٢٥

فقلت : أنا أبو يحيى ، قال : لست بأبي يحيى ولكنك اعرفوني ، هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ قلت : لا. قال : هلكت وأهلكت ، قال : فلم أعد بعد ذلك أقصّ على أحد.

ـ قال أحمد : وبنا عبد الصمد ، قال : أخبرنا القاسم بن الفضل ، قال حدّثنا علي بن زيد ، عن أبي يحيى قال : أتاني علي عليه‌السلام وأنا أقص ، قال : فذهبت أوسع له فقال : إني لم آتك لأجلس إليك ، هل تعلم الناسخ من المنسوخ؟ قلت : لا. قال : «هلكت وأهلكت» ، ما اسمك؟ قلت : أبو يحيى. قال : أنت أبو اعرفوني.

[٧] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن العباس الوراق قال : أخبرنا أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني ، قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، قال : حدّثنا حجاج ، قال : حدّثنا يزيد بن إبراهيم ، قال : بنا إبراهيم بن العلاء الغنوي أبو هارون ، عن سعيد بن أبي الحسن أنه لقي أبا يحيى المعرقب فقال له : من الذي قال له : اعرفوني اعرفوني؟ قال : يا سعيد ؛ إني أنا هو. قال : ما عرفت أنك هو ، قال : فإني أنا هو ؛ مرّ بي عليّ رضي الله عنه وأنا أقص بالكوفة ، فقال لي : من أنت؟ فقلت : أنا أبو يحيى. فقال : لست بأبي يحيى ، ولكنك اعرفوني اعرفوني ، ثم قال : هل علمت الناسخ من المنسوخ؟ قلت : لا. قال : «هلكت وأهلكت». قال : فما عدت بعدها أقص على أحد.

ـ قال ابن أبي داود : وحدّثنا محمد بن عثمان العجلي ، قال : حدّثنا أبو أسامة ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي عبيدة بن حذيفة قال : قال حذيفة : إنما يفتي الناس أحد ثلاثة ، رجل قد علم ناسخ القرآن من منسوخه ، وأمير لا يجد في ذلك بدا أو أحمق متكلف.

[٨] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : أخبرنا عمر بن عبيد الله قال : أخبرنا علي بن محمد بن بشران ، قال : أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي قال : حدّثنا

__________________

(١) أخرجه أبو بكر الهمداني في «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ» (ص ٦ ـ حمص) أو رقم (٤) بتحقيقي ـ من طريق : أبي بكر بن أبي داود به.

(٢) أخرجه أبو جعفر النحاس (ص ٨) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (٢) وأبو بكر الهمداني في «الاعتبار» (ص ٧) أو رقم (٦) والزهري ص (١٤). من طريق : سلمة بن نبيط به. وإسناده صحيح.

٢٦

عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا وكيع ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك قال : مرّ ابن عباس على قاص ، قال : تعرف الناسخ من المنسوخ ، قال : لا. قال : هلكت وأهلكت.

ـ قال أحمد : وحدّثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : أخبرني سليم ، عن ابن عون ، عن محمد قال : جهدت أن أعلم الناسخ من المنسوخ فلم أعلمه.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] قال : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدمه ، ومؤخره وحرامه وحلاله ، وأمثاله (١).

الباب السابع

باب أقسام المنسوخ

المنسوخ من القرآن على ثلاثة أقسام :

فالقسم الأول : ما نسخ رسمه وحكمه

[٩] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال : أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، قال : أخبرنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا أبو اليمان ، قال : أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن رهطا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبروه ؛ أنه قام رجل منهم من جوف الليل يريد أن

__________________

(١) أخرجه النحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص (٧ ـ ٨) قال : حدثنا بكر بن سهل الدمياطي ، قال : حدّثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس به.

وأخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٢ / ٥٣١ / ٢٨٢٢) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٧٦ / ٦١٧٧ و ٦ / ١٩٩ / ٦٦٢٣) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (٣ ، ٤). من طريق : معاوية بن صالح به.

وإسناده ضعيف مرسل ، علي بن أبي طلحة لم ير ابن عباس ، قال الحافظ في «التقريب» (٤٧٨٨) : «أرسل عن ابن عباس ولم يره ، صدوق قد يخطئ».

(٢) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (١٧) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ٤١٧) ـ ط.

الهند ـ من طريق : الزهري به.

قال الطحاوي : «هكذا حدثنا يونس بهذا الحديث ، فلم يتجاوز به أبا أمامة. وأصحاب الحديث يدخلون هذا في المسند ، لأن أبا أمامة ممن ولد في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٢٧

يفتتح سورة كان قد وعاها ، فلم يقدر منها على شيء إلا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فأتى باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أصبح يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وجاء آخر وآخر حتى اجتمعوا ، فسأل بعضهم بعضا ما جمعهم ، فأخبر بعضهم بعضا بشأن تلك السورة ، ثم أذن لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبروه خبرهم ، وسألوه عن السورة. فسكت ساعة ، لا يرجع إليهم شيئا ، ثم قال : «نسخت البارحة ، فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه».

[١٠] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، أخبرنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : أبنا أبو بكر محمد بن إسماعيل الوراق ، قال : حدّثنا أبو بكر عبد الله بن أبي داود ، قال : حدّثنا سليمان بن داود بن حماد قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كانت معه سورة فقام من الليل يقرؤها ، فلم يقدر عليها قال : فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاجتمعوا عنده ، فقال بعضهم : يا رسول الله ؛ قمت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها ، وقال الآخر : ما جئت يا رسول الله إلا لذلك ، وقال الآخر : وأنا رسول الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها نسخت البارحة».

ـ قال أبو بكر بن أبي داود : وحدّثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي ، قال : أبنا عوان ، قال : بنا حماد ، قال : بنا علي بن زيد ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن أبيه ، عن أبي موسى قال : نزلت سورة مثل براءة ، ثم رفعت ، فحفظ منها : «إن الله يؤيد الدين بأقوام لا خلاق لهم ، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب» (٢).

__________________

(١) انظر الذي قبله.

(٢) أخرجه مسلم (١٠٥٠) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص ٣٢٣) وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

تنبيه : اتّكأ البعض على هذا الحديث بنسبة القول بالتحريف لأهل السنة! وهذا يشبه قول القائل : «رمتني بدائها وانسلّت».

وممن ذكر هذا الحديث الخوئي في «البيان في تفسير القرآن» (ص ٢٠٤) وجعفر مرتضى العاملي في «حقائق هامة حول القرآن» (ص ٣٢٥ ـ وما بعدها).

والحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب الزكاة ، باب : لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا.

ففقه الحديث في تبويبه كما ترى.

والحديث مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس بن مالك وأبي بن كعب وأبي واقد الليثي وغيرهم. منهم من ذكر قول أبي موسى في أنه ظنها من القرآن ، ومنهم من ذكر الحديث من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٨

قال ابن أبي داود : وحدّثنا محمد بن عثمان العجلي قال : حدّثنا أبو نعيم ، قال : حدّثنا سيف ، عن مجاهد قال : «إن الأحزاب كانت مثل البقرة أو أطول».

قال ابن داود : وحدّثنا عباد بن يعقوب قال : أخبرنا شريك ، عن عاصم ، عن زر ، قال : قال أبي بن كعب : كيف تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت : سبعين أو إحدى وسبعين آية. قال : والذي أحلف به لقد نزلت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنها لتعادل البقرة أو تزيد عليها (١).

__________________

فالعجيب من تناقض صاحب «حقائق هامة»! كيف ادّعى ص ٣٢٨ من الكتاب أن أبا موسى الأشعري هو الذي انفرد بهذه الرواية ، مع أنه ذكر ص ٣٢٦ من روى هذا الحديث.

وجوابا على هذا أقول :

هذا الحديث يندرج تحت باب النسخ كما هو هنا في هذا الكتاب ، وكما قال علماء أهل السنة قاطبة. انظر «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» للقرطبي (٣ / ٩٣ ـ ٩٤). حيث قال رحمه‌الله : «وهذا ضرب من النسخ ؛ فإن النسخ على ما نقله علماؤنا على ثلاثة أضرب : أحدها :

نسخ الحكم وبقاء التلاوة.

والثاني : عكسه ؛ وهو : نسخ التلاوة وبقاء الحكم.

والثالث : نسخ الحكم والتلاوة ؛ وهو كرفع هاتين السورتين اللتين ذكرهما أبو موسى ، فإنهما رفع حكمهما وتلاوتهما. وهذا النحو من النسخ هو الذي ذكر الله تعالى حيث قال : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) [البقرة : ١٠٦] على قراءة من قرأ بضم النون وكسر السين. وكذلك قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦ ، ٧]. وهاتان السورتان مما قد شاء الله تعالى أن ينسيه بعد أن أنزله وهذا لأن الله تعالى فعّال لما يريد ، قادر على ما يشاء ، إذ كل ذلك ممكن. ولا يتوهّم متوهّم من هذا وشبهه أن القرآن قد ضاع منه شيء ؛ فإن ذلك باطل ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد على أن القرآن الذي تعبّدنا بتلاوته وبأحكامه هو ما ثبت بين دفّتي المصحف من غير زيادة ولا نقصان ، كما قرّرناه في أصول الفقه» اه.

وانظر «فتح الباري» للحافظ ابن حجر العسقلاني (١١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣) و «البرهان في علوم القرآن» للزركشي (٢ / ١٦٨).

قلت : وممن قال بأن هذه الآية ـ أو هذا الحديث ـ يدخل في باب الناسخ والمنسوخ :

١ ـ أبو علي الطبرسي صاحب «مجمع البيان» حيث قال : «وقد جاءت أخبار كثيرة بأن أشياء كانت في القرآن ، فنسخ تلاوتها ، فمنها ما روي عن أبي موسى أنهم كانوا يقرءون : لو أن لابن آدم واديين من مال ...» «مجمع البيان» (١ / ٢٣٠) ـ ط. دار إحياء التراث ـ.

٢ ـ أبو جعفر الطوسي في تفسيره المسمى ب «التبيان في تفسير القرآن» حيث قال : «كانت أشياء من القرآن ، ونسخت تلاوتها ، ومنها : «لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» اه. «التبيان» (١ / ٣٩٤) ـ مكتب الإعلام الإسلامي ـ إيران.

٣ ـ كمال الدين العتائقي الحلي في «الناسخ والمنسوخ» ص ٣٤ ـ ط. مؤسسة آل البيت ـ بيروت ـ حيث قال : «ما نسخ خطه وحكمه ، وهي : «لو أن لابن آدم واديين من فضة ...» اه.

(١) إسناده ضعيف. والخبر صحيح بالشواهد.

٢٩

وقد روي عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه قال : أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية فكتبتها في مصحفي فأصبحت ليلة فإذا الورقة بيضاء ، فأخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «أما علمت أن تلك رفعت البارحة».

القسم الثاني : ما نسخ رسمه وبقي حكمه

[١١] (١) ـ أخبرنا ابن الحصين قال : أخبرنا ابن المذهب ، قال : أخبرنا أحمد بن

__________________

أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد «المسند» (٥ / ١٣٢) والنسائي في «الكبرى» (٤ / رقم : ٧١٥٠) والحاكم (٢ / ٤١٥ و ٤ / ٣٥٩) وابن حبان (١٠ / رقم : ٤٤٢٨ ، ٤٤٢٩) والطيالسي (٥٤٠) والبيهقي (٨ / ٢١١) وغيرهم. من طرق ؛ عن عاصم به.

(١) أخرجه البخاري (٦٨٢٩ ، ٦٨٣٠) ومسلم (١٦٩١) ومالك في «الموطأ» (٢ / ٢٦٨) ـ ٤١ ـ كتاب الحدود. ـ مختصرا ـ وأحمد في «المسند» (١ / ٢٣ ، ٢٩ ، ٣٦ ، ٤٠ ، ٤٣ ، ٤٧ ، ٥٠ ، ٥٥ ، ٥٦) وأبو داود (٤٤١٨) والترمذي (١٤٣١) والنسائي في «الكبرى» رقم (٧١٥١ ، ٧٥١٤ ، ٧١٥٧ ، ٧١٥٨ ، ٧١٥٩ ، ٧١٦٠) وابن ماجة (٢٥٥٣) وغيرهم.

قال جعفر مرتضى في كتابه «حقائق هامة حول القرآن الكريم» (ص ٣٤٧) : «وكلام عمر الآنف الذكر يدل على أن كتابتها في المصحف جائزة ، ومعنى ذلك : هو أنها مما لم تنسخ تلاوته بنظره!! «ولو صحّ القول بنسخ التلاوة!! وقد أثبتنا عدم صحته ، وعدم ثبوته ...» اه.

أقول : قول عمر رضي الله تعالى عنه لا يدلّ البتة على جواز كتابتها على أنها من المصحف ، وفي قوله : «كنا نقرؤها ...» دلالة واضحة على نسخها ، فتأمل.

أما إنكاره للنسخ ؛ فهذا مخالفة صريحة لصريح القرآن ، وقد صرّح بوقوع النسخ كبار علماء الشيعة ، ولم ينكره إلا المتقدمين. وقد ألّف الحلي ؛ كمال الدين عبد الرحمن العتائقي كتابا في ذلك هو «الناسخ والمنسوخ».

وممن قال بالنسخ ؛ الطوسي صاحب «التبيان» وأبو علي الطبرسي في «مجمع البيان» بل قال : «والصحيح أن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة المقطوع عليها» «مجمع البيان» (١ / ٢٣٢). والفيض الكاشاني في «تفسير الصافي» (١ / ١٧٨ ـ ١٧٩) وغيرهم كثير.

والعجيب من الرجل أنه ذكر أنه قد رويت رواية في آية الرجم عن الإمام الصادق عليه‌السلام.

ثم قال بعد ذلك : «ولأجل ذلك فقد حمل بعض العلماء ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام على التقية»!! أقول : وهكذا كذب على الإمام ، فقد روى الكليني في «الكافي» ـ الفروع ـ (٧ / ١٧٦) عن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام قوله : «الرجم في القرآن ، قول الله عزوجل : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة».

وقد أحسن المعلق على الكتاب بقوله : «وقيل : إنها منسوخة التلاوة». ورواه أيضا ابن بابويه القمي في «من لا يحضره الفقيه» (٤ / ٢٤ / ٤٩٩٨).

وصحّح هذه الرواية المجلسي في «مرآة العقول» (٢٣ / ٢٦٧) وقال : «وعدّت هذه الآية مما نسخت تلاوتها دون حكمها».

وممن قال بهذا الطبرسي صاحب «مجمع البيان» (١ / ٢٣٠) والطوسي في «التبيان» (١ / ٢٩٤) والحلّي في «الناسخ والمنسوخ» (ص ٣٥) وصاحب كتاب «لمحات من تاريخ القرآن» (ص ٢٢٢) ـ الأعلمي ـ.

٣٠

جعفر قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثني إسحاق بن عيسى الطباع ، قال : حدّثنا مالك بن أنس ، قال : حدّثني ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، أن ابن عباس أخبره ، قال : جلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذّن قام ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ؛ أيها الناس فإني قائل مقالة قد قدّر لي أن أقولها ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي ، فمن وعاها وعقلها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن لم يعها ؛ فلا أحل له أن يكذب عليّ. إن الله عزوجل بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها ووعيناها وعقلناها ، ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق ، على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف ، ألا وإنا قد كنا نقرأ : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم». أخرجاه في الصحيحين.

وفي رواية ابن عيينة عن الزهري : وأيم الله لو لا أن يقول قائل : زاد عمر في كتاب الله ، لكتبتها في القرآن.

[١٢] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي قال : أخبرنا أبو العباس بن قريش قال : أخبرنا أبو إسحاق البرمكي ، قال : أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق ، قال : حدّثنا ابن أبي داود ، قال : حدّثنا عيسى بن حماد قال : أخبرنا الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب قال : «أيها الناس ؛ قد سننت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتكم على الواضحة ، أن لا تضلوا بالناس يمينا وشمالا ، وآية الرجم لا تضلوا عنها ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رجم ورجمنا ، وأنها قد أنزلت ، وقرأناها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، ولو لا أن يقال : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي».

ـ قال ابن أبي داود : وحدّثنا موسى بن سفيان ، قال : حدّثنا عبد الله يعني ابن الجهم ، قال : حدّثنا عمرو بن أبي قيس ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر ؛ أن أبي بن كعب سأله : كم تقرأ هذه السورة؟ يعني الأحزاب. قال : إما ثلاثا

__________________

فهل هؤلاء كلهم قالوا ذلك تقية؟!!

فالحمد لله الذي هدانا للحق وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله.

(١) أثر صحيح.

أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٢٦٨) ـ ٤١ ـ كتاب الحدود. عن يحيى بن سعيد به.

وإسناده صحيح كما قال ابن عبد البر في «التمهيد» (٢٣ / ٩٣).

وقد صحّ سماع سعيد بن المسيب من عمر رضي الله عنه على الصحيح.

٣١

وسبعين وإما أربعا وسبعين ، قال : «إن كنا لنقرأها كما نقرأ سورة البقرة ، وإن كنا لنقرأ فيها : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» (١).

ـ قال ابن أبي داود : وحدّثنا يعقوب بن سفيان ، قال : حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال : أخبرنا نافع بن عمر ، قال : حدّثني أن ابن أبي مليكة ، عن المسور بن مخرمة قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما أنزله الله علينا : «أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة» ، فإنا لا نجدها. قال : سقطت فيما أسقط من القرآن (٢).

ـ قال : وحدّثنا محمد بن معمر ، قال : حدّثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، قال : حدّثني ابن أبي حميدة قال : أخبرتني حميدة ، قال : أوصت لنا عائشة رضي الله عنها بمتاعها فكان في مصحفها : «إن الله وملائكته يصلّون على النّبي ، والذين يصلون الصّفوف الأولى» (٣).

[١٣] (٤) ـ أخبرنا ابن الحصين قال : أخبرنا ابن المذهب ، قال : وأخبرنا أحمد بن جعفر ، قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي قال : بنا

__________________

(١) تقدم قبل قليل.

(٢) أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص ٣٢٥) من طريق : سعيد بن أبي مريم به. وإسناده صحيح.

(٣) أخرجه أبو داود في «المصاحف» (٨٥) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص ٣٢٤). من طريق : حجاج به.

وإسناده ضعيف ؛ ابن أبي حميد ؛ هو : عبد الملك بن عبد الرحمن بن خالد بن أسيد ، ترجمه البخاري في «التاريخ الكبير» (٥ / ٣٥٥ / ١٦٨٣) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (٥ / ٤٢١ / ١٣٦٩) وابن حبان في «الثقات» (٧ / ١٠٦) وقالوا : يروي عن أمه عن عائشة. وقال العقيلي في «الضعفاء» (٣ / ٢٧) : «حديثه غير محفوظ». وأمه لم أقف لها على ترجمة فيما بين يديّ من مصادر. فالخبر لا يصح.

لكن جملة «إن الله وملائكته يصلون على النبيّ ...» صحّت عن عائشة مرفوعا. أخرجه أحمد (٦ / ٦٧ ، ٨٩ ، ١٦٠) وابن ماجة (٩٩٥) وابن خزيمة في «صحيحه» (١٥٥٠) والحاكم (١ / ٢١٤) وابن حبان (٥ / رقم : ٢١٦٣ ، ٢١٦٤) والبيهقي في «السنن» (١ / ١٠١) و (٣ / ١٠٣) وغيرهم. من طرق ؛ عن عروة بن الزبير ، عن عائشة مرفوعا. وصححه الحاكم والذهبي ، وكذا الألباني في «الصحيحة» (٢٥٣٢).

(٤) أخرجه البخاري (٤٠٩٠ ، ٤٠٩١) وغيره.

وما ذكره صاحب «الحقائق»! (ص ٣٥٤) شنشنة فارغة. فقد حكم بنسخ ذلك الطبرسي والطوسي ، وقالا : بأن هذا النسخ هو من نسخ التلاوة. انظر «مجمع البيان» (١ / ٢٣٠) و «التبيان» (١ / ٢٩٤).

٣٢

عبد الصمد ، قال : حدّثنا همام قال : حدّثنا إسحاق ، عن أنس رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث حراما خاله في سبعين رجلا ، فقتلوا يوم بئر معونة. فأنزل علينا فكان مما نقرأ ، فنسخ ؛ «أن بلغوا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا». انفرد بإخراجه البخاري.

فصل

ومما نسخ رسمه واختلف في بقاء حكمه.

[١٤] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي قال : أخبرنا أبو العباس بن قريش ، قال : أخبرنا أبو إسحاق البرمكي ، قال : أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق قال : أبنا ابن أبي داود ، قال : حدّثنا عبد الله بن سعد قال : حدّثني عمر ، قال : حدّثني أبي ، عن محمد بن إسحاق قال : حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : «لقد نزلت آية الرّجم ورضعات الكبير عشرا ، وكانت في ورقة تحت سرير في بيتي ، فلما اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشاغلنا بأمره ، فدخلت دويبة لنا فأكلتها» تعني الشاة.

قال ابن أبي داود : حدّثنا أبو الطاهر ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخت بخمس رضعات معلومات ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي مما يقرأ من القرآن (٢).

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٢٦٩) وابن ماجة (١٩٤٤) والدارقطني (٤ / ١٧٩) من طريق : محمد بن إسحاق به.

وإسناده حسن ، صرّح ابن إسحاق فيه بالتحديث.

والخبر حسّنه المحدث الألباني في «صحيح سنن ابن ماجة» (١٥٨٠).

وقد أنكر هذا الخبر السرخسي في «أصوله» (٢ / ٧٩ ـ ٨٠) فقال : «وحديث عائشة لا يكاد يصح ..».

وكذا القرطبي في تفسيره (١٤ / ١١٣) حيث قال : «وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة ، فأكلتها الداجن ؛ فمن تأليف الملاحدة والروافض»!.

وما ادّعاه صاحب «الحقائق» ونقله عن القزويني! أن ذلك لم يرد في كتب الشيعة ، ولا رواه أحد من علمائهم ، أو رد عليه .. منقوض بما ذكره الطوسي في «التبيان» في مقدمته (١ / ١٣) وقال : إن هذا من باب نسخ التلاوة والحكم معا.

وانظر «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (ص ٣٧٢ ـ وما بعدها) ـ طبع المكتب الإسلامي ـ و «حاشية السندي على سنن ابن ماجة» (١ / ٥٩٩) وتأمل في الحديث الذي بعده.

(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ١١٦) ـ ٣٠ ـ كتاب الرضاع (٣) باب جامع ما جاء في الرضاعة.

٣٣

قلت : أما مقدار ما يحرم من الرضاع فعن أحمد بن حنبل رحمه‌الله فيه ثلاث روايات :

الأولى : رضعة واحدة ، وبه قال أبو حنيفة ومالك أخذا بظاهر القرآن في قوله : (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) [النساء : ٢٣] ، وتركا لذلك الحديث.

والثانية : ثلاث ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحرم المصة والمصتان» (١).

والثالثة : خمس لما روينا في حديث عائشة. وتأولوا قوله : «وهي مما يقرأ من القرآن» أن الإشارة إلى قوله : (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وقالوا : لو كان يقرأ بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لنقل إلينا نقل المصحف ، ولو كان بقي من القرآن شيء لم ينقل لجاز أن يكون ما لم ينقل ناسخا لما نقل ، فذلك محال (٢).

ومما نسخ خطّه واختلف في حكمه ؛ ما روى مسلم في أفراده عن عائشة رضي الله عنها ؛ أنها أملت على كاتبها : «حافظوا على الصلوات ، والصلاة الوسطى ، وصلاة العصر ، وقوموا لله قانتين» وقالت : سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وقد اختلف الناس في الصلاة الوسطى على خمسة أقوال بعدد الصلوات الخمس ، وقد شرحنا ذلك في التفسير.

__________________

ومسلم (١٤٥٢) وأبو داود (٢٠٦٢) والنسائي (٦ / ١٠٠) والترمذي (٣ / ٤٥٦) ـ ١٠ ـ كتاب الرضاع. وابن ماجة (١٩٤٢) وابن حبان (١٠ / رقم : ٤٢٢١ ، ٤٢٢٢) والبيهقي (٧ / ٤٥٤) والدارمي (٢ / ١٥٧) وغيرهم.

(١) أخرجه مسلم (١٤٥٠) وغيره.

(٢) انظر تفصيل هذه المسألة في : «المغني» لابن قدامة (٩ / ١٩٢ ـ ١٩٤) و «المحلى» لابن حزم (١١ / ٨٨) مسألة : (١٨٧٢) و «سبل السلام» للصنعاني (٦ / ٣٢٩ ـ بتحقيق الحلاق ـ) و «التمهيد» لابن عبد البر (٨ / ٢٦٣ ـ ٢٧١) و «فتح الباري» (٩ / ١٤٧) و «شرح صحيح مسلم» للنووي (١٠ / ٢١) و «نيل الأوطار» (٦ / ٢٥٠) و «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ» (ص ١٨٨) و «رسوخ الأخبار في منسوخ الأخبار» (ص ٤٦٢ ـ ٤٦٣) و «أحكام الرضاع في الفقه الإسلامي» للدكتور محمد عمر الغروي (ص ٨١ ـ وما بعدها).

(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» (١ / ٨٨) ـ ٨ ـ كتاب صلاة الجماعة (٨) باب الصلاة الوسطى.

ومسلم (٦٢٩) وأحمد (٦ / ٧٣ ، ١٧٨) وأبو داود (٤١٠) والنسائي (١ / ٢٣٦) والترمذي (٢٩٨٢) وغيرهم.

وهي منسوخة التلاوة ، وتعتبر من القراءات الشاذة. وقد اتكأ عليها صاحب كتاب «أكذوبة تحريف القرآن» ص ٤٣. ولم يعلم هذا المسكين ـ أو أنه تجاهل ـ بأن كبار علمائه يقولون بأنها من القراءات الواردة ويثبتونها في تفاسيرهم.

انظر «تفسير القمي» (١ / ١٠٦) ط. دار السرور. و «تفسير العياشي» (١ / ١٤٦) و «البرهان» للبحراني (١ / ٢٣٠) و «تفسير الصافي» (١ / ٢٦٩) و «بحار الأنوار» للمجلسي (١٨ / ٧٢).

٣٤

القسم الثالث : ما نسخ حكمه وبقي رسمه ؛ وله وضعنا هذا الكتاب ، ونحن نذكره على ترتيب الآيات والسور ، ونذكر ما قيل ، ونبين صحة الصحيح وفساد الفاسد ، إن شاء الله تعالى ، وهو الموفّق بفضله.

الباب الثامن

باب ذكر السور التي تضمن الناسخ

والمنسوخ ، أو أحدهما ، أو خلت عنهما

زعم جماعة من المفسرين : أن السور التي تضمنت الناسخ والمنسوخ خمس وعشرون : سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، وإبراهيم ، والنحل ، ومريم ، والأنبياء ، والحج ، والنور ، والفرقان ، والشعراء ، والأحزاب ، وسبأ ، والمؤمن ، والشورى ، والذاريات ، والطور ، والواقعة ، والمجادلة ، والمزمل ، والتكوير ، والعصر.

قالوا : والسور التي دخلها المنسوخ دون الناسخ أربعون : الأنعام ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، والرعد ، والحجر ، وسبحان ، والكهف ، وطه ، والمؤمنون ، والنمل ، والقصص ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والسجدة ، والملائكة ، والصافات ، وص ، والزمر ، والمصابيح (١) ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف ، وسورة محمد ، وق ، والنجم ، والقمر ، والممتحنة ، ون (٢) ، والمعارج ، والمدثر ، والقيامة ، والإنسان ، وعبس ، والطارق ، والغاشية ، والتين ، والكافرون.

وقالوا : والسور التي اشتملت على الناسخ دون المنسوخ ست : الفتح ، والحشر ، والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، والأعلى.

والسور الخاليات عن ناسخ ومنسوخ ثلاث وأربعون : سورة الفاتحة ، ويوسف ، ويس ، والحجرات ، والرحمن ، والحديد ، والصف ، والجمعة ، والتحريم ، والملك ، والحاقة ، ونوح ، والجن ، والمرسلات ، والنبأ ، والنازعات ، والانفطار ، والمطففين ، والانشقاق ، والبروج ، والفجر ، والبلد ، والشمس ، والليل ، والضحى ، وأ لم نشرح ، والقلم ، والقدر ، والانفكاك [البينة] ، والزلزلة ، والعاديات ، والقارعة ، والتكاثر ، والهمزة ، والفيل ، وقريش ، والدين ، والماعون ، والكوثر ، والنصر ، وتبت ، والإخلاص ، والفلق ، والناس.

__________________

(١) أي سورة فصلت.

(٢) يعني : سورة القلم.

٣٥

قلت : واضح بأن التحقيق في الناسخ والمنسوخ يظهر أن هذا الحصر تخريف من الذين حصروه ، والله الموفق.

الباب التاسع

باب ذكر الآيات اللواتي

ادّعي عليهنّ النسخ في سورة البقرة

ذكر الآية الأولى :

قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] اختلف المفسرون في المراد بهذه النفقة على أربعة أقوال :

الأول : أنها النفقة على الأهل والعيال ، قاله ابن مسعود وحذيفة.

والثاني : الزكاة المفروضة ، قاله ابن عباس ، وقتادة.

والثالث : الصدقات النوافل ، قاله مجاهد والضحاك.

والرابع : أن الإشارة بها إلى نفقة كانت واجبة قبل الزكاة.

ذكره بعض ناقلي التفسير ، وزعموا : أنه كان فرض على الإنسان أن يمسك مما في يده قدر كفايته يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء ، ثم نسخ بآية الزكاة (١).

وهذا قوله ليس بصحيح لأن لفظ الآية لا يتضمن ما ذكروا وإنما يتضمن مدح المنفق ، والظاهر أنها تشير إلى الزكاة لأنها قرنت مع الإيمان بالصلاة.

وعلى هذا ؛ لا وجه للنسخ ، وإن كانت تشير إلى الصدقات النوافل والحث عليها باق ، والذي أرى ما بها مدح لهم على جميع نفقاتهم في الواجب والنفل ، وقد قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع : نسخت آية الزكاة كل صدقة كانت قبلها ، ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله. والمراد بهذا كل صدقة وجبت بوجود المال مرسلا كهذه الآية.

ذكر الآية الثانية :

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [البقرة : ٦٢] اختلف المفسرون في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال :

الأول : أن المعنى : إن الذين آمنوا من هذه الأمة ، والذين هادوا ، وهم أتباع

__________________

(١) انظر «صفوة الراسخ في علم المنسوخ والناسخ» لشمس الدين الموصلي (ص ٤٠).

٣٦

موسى ، والنصارى ؛ وهم أتباع عيسى ، والصابئون ؛ الخارجون من الكفر إلى الإسلام ، من آمن ، أي : من دام منهم على الإيمان.

والثاني : إن الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون ، والذين هادوا ؛ وهم اليهود ، والنصارى والصابئون ؛ وهم كفار أيضا ، من آمن ؛ أي : من دخل في الإيمان بنية صادقة.

والثالث : إن المعنى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٦٢] ومن آمن من الذين هادوا ، فيكون قوله بعد هذا : من آمن راجعا إلى المذكورين مع الذين آمنوا ، ومعناه : من يؤمن منهم. وعلى هذه الأقوال الثلاثة لا وجه لادّعاء نسخ هذه الآية.

وقد قيل : إنها منسوخة بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥].

[١٥] (١) ـ فأخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال : أخبرنا أحمد بن الحسن بن قريش ، قال : أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق ، قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : حدّثنا يعقوب بن سفيان قال : حدّثنا أبو صالح ، قال : حدّثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) الآية. قال : فأنزل الله تعالى بعد هذه الآية (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

قلت : فكأنه أشار بهذا إلى النسخ وهذا القول لا يصح لوجهين (٢) :

الأول : أنه إن أشير بقوله : (وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى) إلى من كان تابعا لنبيه قبل أن يبعث النبي الآخر ، فأولئك على الصواب. وإن أشير إلى من كان في زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن من ضرورة من لم يبدل دينه ولم يحرف أن يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتبعه.

والثاني : أن هذه الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ.

ذكر الآية الثالثة:

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) [البقرة : ٨١].

__________________

(١) إسناده ضعيف.

تقدم أن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.

(٢) انظر «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» لمكي بن أبي طالب (ص ١٢٣ ـ ١٢٤) و «صفوة الراسخ» (ص ٤١).

٣٧

جمهور المفسرين على أن المراد بالسيئة الشرك (١) ، ولا يتوجه على هذا القول نسخ أصلا ، وقد روى السّدّي عن أشياخه : أن المراد بالسيئة الذنب من الذنوب التي وعد الله تعالى عليها النار (٢). فعلى هذا يتوجه النسخ بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] على أنه يجوز أن يحمل ذلك ، على من أتى السيئة مستحلا فلا يكون نسخا (٣).

ذكر الآية الرابعة :

قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة : ٨٣] اختلف المفسرون في المخاطبين بهذا على قولين :

الأول : أنهم اليهود ، والتقدير : من سألكم عن شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وابن جريج ، ومقاتل (٤).

والثاني : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم اختلف أرباب هذا القول ، فقال الحسن : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر (٥). وقال أبو العالية : وقولوا للناس معروفا (٦). وقال محمد بن علي بن الحسين : كلّموهم بما تحبون أن يقولوا لكم ، فعلى هذا الآية محكمة.

وذهب قوم إلى أن المراد بذلك : مساهلة المشركين في دعائهم إلى الإسلام ، فالآية عند هؤلاء منسوخة بآية السيف. وهذا قول بعيد ؛ لأن لفظ الناس عام فتخصيصه بالكفار يفتقر إلى دليل ، ولا دليل هاهنا ، ثم إن إنذار الكفار من الحسنى (٧).

ذكر الآية الخامسة :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة : ١٠٤] قال

__________________

(١) انظر «تفسير ابن كثير» بتحقيق الشيخ الحويني (٢ / ٥٦٢).

(٢) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (١ / ٣٠٥ / ١٤٢٦).

(٣) انظر «صفوة الراسخ» (ص ٤٢).

(٤) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (١ / ١٦١ / ٨٤٥).

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (١ / ١٦١ / ٨٤٦) وضعّفه الشيخ أبو إسحاق الحويني ـ حفظه الله ـ في تحقيقه على «تفسير ابن كثير» (٢ / ٥٧١).

(٦) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (١ / ١٦١ / ٨٤٣).

(٧) انظر «صفوة الراسخ» (ص ٤٢ ـ ٤٣) و «الإيضاح لناسخ القرآن» (ص ١٢٤) و «تفسير القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن ـ» (٢ / ١٧).

٣٨

المفسرون : كانت هذه الكلمة لغة في الأنصار ، وهي من راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله ، ومنه قولهم : أرعني سمعك. وكانت الأنصار تقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي بلغة اليهود سبّ بالرعونة ، وكانوا يقولونها له وينوون بها السب ، فنهى الله سبحانه المؤمنين عن قولها لئلا يقولها اليهود ، وأمرهم أن يجعلوا مكانها أنظرنا (١). وقرأ الحسن والأعمش وابن المحيصن (راعنا) بالتنوين فجعلوه مصدرا ، أي : لا تقولوا رعونة (٢).

وقرأ ابن مسعود : (لا تقولوا راعونا) على الأمر بالجماعة ، كأنه نهاهم أن يقولوا ذلك فيما بينهم ، والنهي في مخاطبة النبي بذلك أولى. وهذه الآية قد ذكروها في المنسوخ ، ولا وجه لذلك بحال ، ولو لا إيثاري ذكر ما ادّعي عليه النسخ لم أذكرها. قال أبو جعفر النحاس : هي ناسخة لما كان مباحا قبله.

قلت : وهذا تحريف في القول ، لأنه إذا نهى عن شيء لم تكن الشريعة أتت به لم يسم النهي نسخا.

ذكر الآية السادسة :

قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩] قال المفسرون : أمر الله بالعفو والصفح عن أهل الكتاب قبل أن يؤمر بقتالهم ، ثم نسخ العفو والصفح بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [التوبة : ٢٩] هذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما (٣).

[١٦] (٤) ـ أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري قال : أخبرنا علي بن الفضل ، قال : أخبرنا عبد الصمد ، قال : أخبرنا ابن حموية ، قال : أخبرنا إبراهيم بن حريم ، قال ابن عبد الحميد ، قال : بنا مسلم بن إبراهيم ؛ وأخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : أخبرنا أبو الفضل البقال ، قال : ابنا ابن بشران قال : أخبرنا إسحاق الكاذي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا عبد الصمد ، كلاهما عن همام بن يحيى ، عن قتادة قال : أمر الله نبيه أن يعفو

__________________

(١) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (١ / ١٩٦ ـ ١٩٧) و «تفسير ابن كثير» (١ / ١٩٨) و «الجامع لأحكام القرآن» (٢ / ٥٧) و «فتح القدير» للشوكاني (١ / ٢٤٧ ـ ٢٤٩) و «الإيضاح لناسخ القرآن» (ص ١٢٥).

(٢) انظر «فتح القدير» (١ / ٢٤٨).

(٣) انظر تفسير المصنف «زاد المسير» (١ / ١٣٢) و «الجامع لأحكام القرآن» (٢ / ٧١) و «الإيضاح» (ص ١٢٥ ـ ١٢٦).

(٤) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (٢ / ٥٠٣).

٣٩

عنهم ويصفح ، حتى يأتي الله بأمره ، فأنزل في براءة (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] فنسخها بهذه الآية ، وأمره فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا ، أو يقروا بالجزية.

قال أحمد : وحدّثنا عبد الرزاق ، قال : حدّثنا معمر ، عن قتادة (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) [البقرة : ١٠٩] نسختها : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

[١٧] (١) ـ أخبرنا ابن ناصر ، قال : أخبرنا علي بن أيوب قال : أخبرنا ابن شاذان ، قال : أخبرنا أبو بكر النجاد ، قال : أخبرنا أبو داود السجستاني ، قال : بنا أحمد بن محمد المروزي ، قال أخبرنا آدم بن أبي إياس ، قال : حدّثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) قال : نسخ بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية.

فصل

واعلم أن تحقيق الكلام دون التحريف فيه أن يقال : إن هذه الآية ليست بمنسوخة ، لأنه لم يأمر بالعفو مطلقا ، وإنما أمر به إلى غاية ، وبيّن الغاية بقوله : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩] وما بعد الغاية يكون حكمه مخالفا لما قبلها ، وما هذا سبيله لا يكون أحدهما ناسخا للآخر ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته والآخر محتاجا إلى حكم آخر ، وقد ذهب إلى ما قالته جماعة من فقهاء المفسرين وهو الصحيح ، وهذا إذا قلنا : إن المراد العفو عن قتالهم ، وقد قال الحسن : هذا فيما بينكم وبينهم دون ترك حق الله تعالى حتى يأتي الله بالقيامة.

وقال غيره : بالعقوبة ، فعلى هذا يكون الأمر بالعفو محكما لا منسوخا.

ذكر الآية السابعة :

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥]. اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على ثمانية أقوال :

القول الأول : أنها نزلت في اشتباه القبلة

__________________

(١) إسناده ضعيف.

أبو جعفر الرازي ؛ هو عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان ؛ «صدوق سيئ الحفظ».

«تقريب» (٨٠٧٧).

والربيع بن أنس ؛ «صدوق له أوهام».

والخبر أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (١ / ٢٠٦ / ١٠٩٠) من طريق : أبي جعفر به.

٤٠