نواسخ القرآن

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

نواسخ القرآن

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: الداني بن منير آل زهوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

ابنا أبو بكر النجاد ، قال : ابنا أبو داود السجستاني ، قال : ابنا الحسن بن محمد ، قال : ابنا حجاج ، قال : قال ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) وقال : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) [الممتحنة : ١٠] وقال : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة : ٨] نسخ هذا : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١] (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

[١٢٣] ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا أحمد بن إسحاق الكاذي ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : ابنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ). قال : نسخ ذلك في براءة ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمر الله نبيه أن يقاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وقال : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

ذكر الآية الثالثة والعشرين :

قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) [النساء : ٩١] والمعنى : أنهم يظهرون الموافقة للفريقين ليأمنوهما ، فأمر الله تعالى بالكف عنهم ، إذا اعتزلوا وألقوا إلينا السلم ، وهو الصلح كما أمر بالكف عن الذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق ، ثم نسخ ذلك بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

ذكر الآية الرابعة والعشرين :

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [النساء : ٩٢]. جمهور أهل العلم على أن الإشارة بهذا إلى الذي يقتل خطأ فعلى قاتله الدية والكفارة ، وهذا قول ابن عباس والشعبي ، وقتادة والزهري ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وهو قول أصحابنا ، فالآية على هذا محكمة.

وقد ذهب بعض مفسري القرآن إلى أن المراد به من كان من المشركين بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدنة إلى أجل ، ثم نسخ ذلك بقوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وبقوله : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨].

ذكر الآية الخامسة والعشرين :

قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) [النساء : ٩٣].

اختلف العلماء هل هذه محكمة أم منسوخة على قولين :

١٢١

القول الأول : أنها منسوخة ؛ وهو قول جماعة من العلماء قالوا : بأنها حكمت بخلود القاتل في النار ، وذلك منسوخ بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وقال بعضهم : نسخها قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِلَّا مَنْ تابَ) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠]. وحكى أبو جعفر النحاس : أن بعض العلماء قال : معنى نسختها آية الفرقان أي : نزلت بنسخها (١).

والقول الثاني : أنها محكمة ؛ واختلف هؤلاء في طريق إحكامها على قولين :

القول الأول : أن قاتل المؤمن مخلّد في النار ، وأكّدوا هذا بأنها خبر ، والأخبار لا تنسخ.

[١٢٤] (٢) ـ أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار ، قال : ابنا أبي ، قال : ابنا أبو بكر البرقاني قال : ابنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، قال : أخبرني البغوي ، قال : ابنا علي بن الجعد ، قال : ابنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، قال : اختلف أهل الكوفة في هذه الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) قال : فرحلت فيها إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : لقد نزلت في آخر ما نزل وما نسخها شيء.

وعن شعبة ، عن منصور قال : سمعت سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) قال : لا توبة له.

[١٢٥] (٣) ـ أخبرنا ابن الحسين ، قال : ابنا غيلان ، قال : ابنا أبو بكر الشافعي ، قال : ابنا إسحاق بن الحسين ، قال : ابنا ابن حذيفة النهدي ، قال : ابنا سفيان الثوري ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) قال : ليس لقاتل مؤمن توبة ، ما نسختها آية منذ نزلت.

[١٢٦] (٤) ـ أخبرنا سعيد بن أحمد ، قال : ابنا ابن اليسري ، قال : ابنا

__________________

(١) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص ١٠٦) و «صفوة الراسخ» (ص ٨٢).

(٢) أخرجه علي بن الجعد في «مسنده» (٤٧١) عن شعبة به.

وأخرجه البخاري (٤٥٩٠) و (٤٧٦٣) ومسلم (٣٠٢٣) وأبو داود (٤٢٧٥) والنسائي (٧ / ٨٥) و (٨ / ٦٢) وفي «الكبرى» التفسير (٦ / ٣٢٦ ، ٤٢١ / ١١١١٥ ، ١١٣٧١).

(٣) أخرجه الطبري (٩ / ٦٦ / ١٠١٩٥) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٤٩١) وأبو داود (٤٢٧٥). من طريق : عن سفيان به.

(٤) إسناده فيه ضعف ، والحديث صحيح.

يحيى الجابر ؛ هو : ابن عبد الله بن الحارث ، قال أحمد : «ليس به بأس» ، وضعفه ابن معين

١٢٢

المخلص ، قال : ابنا البغوي ، قال : ابنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : ابنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن يحيى الجابر ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما. أنه تلا هذه الآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) حتى فرغ منها ، فقيل له : وإن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس : وأنى له التوبة ؛ قد سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «ثكلته أمّه ، قاتل المؤمن إذا جاء يوم القيامة واضعا رأسه على إحدى يديه آخذا بالأخرى ، القاتل تشخب أوداجه قبل عرش الرحمن عزوجل فيقول : رب سل هذا فيم قتلني؟» قال : وما نزلت في كتاب الله عزوجل آية نسختها.

[١٢٧] (١) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق ابن أحمد ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : ابنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال ابنا مغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، قال : اختلف أهل الكوفة في هذه الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) فرحلت إلى ابن أبي عباس رضي الله عنهما فقال : إنها من آخر ما نزل ، وما نسخها شيء.

قال أحمد : وابنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، قال : حدّثني القاسم بن

__________________

وأبو حاتم والنسائي.

وقال الحافظ في «التقريب» : «ليّن الحديث».

لكن تابعه عمار الدّهني ـ وهو ثقة ـ.

أخرجه الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (٢ / ٩٤٢ ـ ٩٤٣ / ٢٣٠٠).

من طريق : عمرو بن قيس الملائي ، عن يحيى الجابر به.

وأخرجه أحمد (١ / ٢٣٠ ، ٢٩٤ ، ٣٦٤) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (٩ / ٣٥٦ / ٧٧٨١) وابن جرير الطبري (٩ / ٦٣ ـ ٦٤ / ١٠١٨٨ ، ١١٠٨٩) من طرق ؛ عن يحيى بن عبد الله الجابر به.

وأخرجه الحميدي في «مسنده» (١ / ٢٢٨ / ٤٨٨) وسعيد بن منصور في «سننه» (٤ / ١٣١٨ / ٦٦٦).

من طريق : عمار الدهني ويحيى الجابر عن سالم بن أبي الجعد به.

وأخرجه أحمد (١ / ٢٢٢) والنسائي (٧ / ٨٥) وابن ماجة (٢٦٢١) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٣ / ١٠٣٦ / ٥٨١٣) والنحاس في «ناسخه» (ص ١٠٦).

من طريق : سفيان بن عيينة ، عن عمار الدهني ، عن سالم به.

وأخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (٩ / ٦٥ / ١٠١٩١) من طريق : عمار بن رزيق ، عن عمار الدهني به.

والحديث صححه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على «المسند» رقم (٢١٤٢) والمحدث الألباني في «صحيح سنن ابن ماجة» (٢١٢٢).

(١) انظر رقم [١٢٤].

١٢٣

أبي بزّة ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لا بن عباس : هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال : لا ، فتلوت هذه الآية التي في الفرقان (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) فقال : هذه الآية مكية نسختها آية مدنية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (١).

قال أحمد : وابنا حسين بن محمد ، قال : ابنا سفيان ، عن أبي الزناد ، قال : سمعت شيخنا يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت ، قال : سمعت أباك ، قال نزلت الشديدة بعد الهينة بستة أشهر قوله : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الفرقان : ٦٨] وقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (٢).

وقد روي عن ابن عباس ما يدل على أنه قصد التشديد بهذا القول.

[١٢٨] ـ فأخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش قال : ابنا إبراهيم بن عمر قال : ابنا محمد بن إسماعيل قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : ابنا محمد بن عبد الملك ، قال : ابنا يزيد بن هارون ، قال : ابنا أبو مالك ، قال : ابنا سعد بن عبيدة ، أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول : لمن قتل المؤمن توبة ، فجاءه رجل فسأله ، ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال : إلا النار ، فلما قام قال له جلساؤه : ما هكذا؟ كنت تفتينا أنه لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة مقبولة ، فما شأن هذا اليوم؟ قال : إني أظنه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا ، فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.

قال أبو بكر بن أبي داود : وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن للقاتل توبة. وقد روى سعيد بن ميناء ، عن عبد الله بن عمر ، قال : سأله رجل ؛ قال : إني قتلت رجلا فهل لي من توبة؟ قال : تزود من الماء البارد ، فإنك لا تدخلها أبدا.

وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ضد هذا ، فإنه قال : للقاتل تب إلى الله يتب عليك.

وروى سعيد بن ميناء ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءه رجل فقال : يا أبا هريرة ، ما تقول في قاتل المؤمن ، هل له من توبة؟ قال : والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤٧٦٢) ومسلم (٣٠٢٣) والنسائي (٧ / ٨٥ و ٨ / ٦٢) وفي «الكبرى» التفسير (٦ / ٤٢١ / ١١٣٧٠) وأبو عبيد في «ناسخه» (٤٨٧).

(٢) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (٤٨٨) وأبو داود (٤٢٧٢) والنسائي (٧ / ٨٥) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٣ / ١٠٣٧ / ٥٨١٤). وضعفه الألباني في «ضعيف سنن النسائي» (٢٦٤).

١٢٤

والقول الثاني : أنها عامة دخلها التخصيص ، بدليل أنه لو قتله كافر ثم أسلم الكافر سقطت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة ، فإذا ثبت كونها من العام المخصص ، فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التخصيص أن يكون قد قتله مستحلا لأجل إيمانه فيستحق التخليد لاستحلاله.

[١٢٩] ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : ابنا الحسن بن عطاء ، وأحمد بن محمد الحسين ، قالا : ابنا خلاد بن يحيى ، قال ابنا أنس بن مالك الصير في أبو روية ، عن أنس بن مالك ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية وعليها أمير ، فلما انتهى إلى أهل ماء خرج إليه رجل من أهل الماء فخرج إليه رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إلى ما تدعو؟ فقال : إلى الإسلام ، قال : وما الإسلام؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن تقر بجميع الطاعة ، قال : هذا؟ قال : نعم. فحمل عليه فقتله لا يقتله إلا على الإسلام ، فنزلت : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) لا يقتل إلا على إيمانه الآية كلها.

قال سعيد بن جبير : نزلت في مقيس بن ضبابة قتل مسلما عمدا وارتد كافرا ، وقد ضعف هذا الوجه أبو جعفر النحاس فقال : ومن لفظ عام لا يخص إلا بتوقيف أو دليل قاطع وقد ذهب قوم إلى أنها مخصوصة في حق من لم يتب ، بدليل قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ) والصحيح أن الآيتين محكمتان ، فإن كانت التي في النساء أنزلت أولا فإنها محكمة نزلت على حكم الوعيد غير مستوفاة الحكم ، ثم بين حكمها في الآية التي في الفرقان ، وكثير من المفسرين منهم ابن عباس وأبو مجلز وأبو صالح ؛ يقولون : فجزاؤه جهنم إن جازاه. وقد روي لنا مرفوعا ، إلا أنه لا يثبت رفعه ، والمعنى يستحق الخلود غير أنه لا يقطع له به.

وفي هذا الوجه بعد لقوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) فأخبر بوقوع عذابه كذلك ، وقال أبو عبيد : وإن كانت التي في الفرقان الأولى فقد استغنى بما فيها عن إعادته في سورة النساء فلا وجه للنسخ بحال.

ذكر الآية السادسة والعشرين :

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) [النساء : ١٤٥].

زعم بعض من قل فهمه أنها نسخت الاستثناء بعدها وهو قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [النساء : ١٤٦] وقد بيّنا في مواضع أن الاستثناء ليس بنسخ.

١٢٥

الباب الثاني عشر

باب ذكر الآيات اللواتي

ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة المائدة

قد زعم قوم أنه ليس في المائدة منسوخ.

[١٣٠] (١) ـ فأخبرنا محمد بن أبي منصور ، قال : ابنا علي بن أيوب ، قال : ابنا أبو علي بن شاذان ، قال : ابنا أبو بكر النجاد ، قال : ابنا أبو داود السجستاني ، قال ابنا محمد بن بشار ، قال : ابنا عبد الرحمن ، قال : ابنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن شرحبيل ، قال : المائدة ليس فيها منسوخ.

قال ابن بشار : وابنا ابن أبي عدي ، قال : ابنا ابن عون ، قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء؟ قال : لا.

وقد ذهب الأكثرون إلى أن في المائدة منسوخا ، ونحن نذكر ذلك.

ذكر الآية الأولى :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) الآية [المائدة : ٢].

اختلف المفسرون في هذه الآية ، هل هي محكمة أم منسوخة؟ على قولين :

القول الأول : أنها محكمة ، ولا يجوز استحلال الشعائر ولا الهدي قبل أوان ذبحه ، ثم اختلفوا في القلائد ؛ فقال بعضهم : يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر.

وقال آخرون منهم : كانت الجاهلية تقلد من شجر الحرم فقيل لهم لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم ولا تصدوا القاصدين إلى البيت.

والقول الثاني : أنها منسوخة ، ثم في المنسوخ منها ثلاثة أقوال :

الأول : قوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) فإن هذا اقتضى جواز إقرار المشركين على قصدهم البيت ، وإظهارهم شعائر الحج ثم نسخ هذا بقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] وبقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وهذا المعنى مروي عن ابن عباس رضي عنهما.

[١٣١] ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا

__________________

(١) إسناده ضعيف.

١٢٦

ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد قال : ابنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : ابنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : نسخ منها (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) نسخها قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

وقال : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [التوبة : ١٧].

وقال : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨].

والثاني : أن المنسوخ منها تحريم الشهر الحرام ، وتحريم الآمين للبيت إذا كانوا مشركين ، وهدي المشركين إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان ، قاله أبو سليمان الدمشقي.

والثالث : أن جميعها منسوخ.

[١٣٢] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : ابنا يعقوب بن سفيان ، قال : ابنا أبو صالح ، قال : ابنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهدون الهدايا ويحرمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجهم ، فأنزل الله عزوجل : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي لا تستحلوا قتالا فيه ، (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) يقول : من توجه قبل البيت. ثم أنزل الله ، فقال : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

[١٣٣] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد قال : ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال : ابنا يزيد ، قال : ابنا سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : نسخت هذه الآية (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) نسختها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

قال أحمد : وابنا عبد الرزاق ، قال : ابنا معمر ، عن قتادة ، (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) قال : هي منسوخة ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد السمر فلم يعرض له أحد ، فإذا رجع تقلد قلادة شعر

__________________

(١) إسناده ضعيف.

وأخرجه النحاس في «ناسخه» (ص ١١١).

(٢) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٢٤٧).

١٢٧

فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ، ولا عند البيت الحرام ، فنسخها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١).

[١٣٤] (٢) ـ أخبرنا ابن الحصين ، قال : ابنا ابن غيلان ، قال : ابنا أبو بكر الشافعي ، قال : ابنا إسحاق بن الحسن ، قال : ابنا أبو حذيفة النهدي ، قال : ابنا سفيان الثوري ، عن بيان ، عن الشعبي ، قال : لم ينسخ من المائدة غير آية واحدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) نسختها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

وفصل الخطاب في هذا أنه لا يمكن القول بنسخ جميع الآية فإن شعائر الله أعلام متعبداته ، ولا يجوز القول بنسخ هذا إلا أن يعني به : لا تستحلوا نقض ما شرع فيه المشركون من ذلك ، فعلى هذا يكون منسوخا. وكذلك الهدي والقلائد ، وكذلك الآمّون للبيت فإنه لا يجوز صدهم إلا أن يكونوا مشركين ، وأما الشهر الحرام فمنسوخ الحكم على ما بينا في قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧].

فأما قوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] فلا وجه لنسخه ، وأما قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [المائدة : ٢] فمنسوخ بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وباقي الآية محكم بلا شك.

ذكر الآية الثانية :

قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥].

اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال :

القول الأول : أنها اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب على الإطلاق ، وإن علمنا أنهم قد أهلوا عليها بغير اسم الله ، أو أشركوا معه غيره. وهذا مروي عن الشعبي ، وربيعة ، والقاسم بن مخيمرة في آخرين ، وهؤلاء زعموا أنها ناسخة لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١].

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (١ / ١٨٢) والنحاس في «ناسخه» (ص ١١١).

(٢) إسناده صحيح.

أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (١ / ١٨١) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦ / ١٠٩٦٦) وأبو عبيد في «ناسخه» (٢٤٨) والنحاس في «ناسخه» (ص ١١١) وسعيد بن منصور في «سننه» (٤ / ١٤٣٧ / ٧١٢ ـ آل حميد).

من طرق ؛ عن بيان بن بشر به.

١٢٨

قال أبو بكر : وابنا حرمي بن يونس قال : ابنا أبي ، يونس بن محمد ، قال : ابنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن ، قال : قيل له : إنهم يذكرون المسيح على ذبائحهم ، قال : قد علم الله ما هم قائلون ، وقد أحل ذبائحهم.

قال أبو بكر : وابنا زياد بن أيوب ، قال : ابنا مروان ، قال : ابنا أيوب بن يحيى الكندي ، قال : سألت الشعبي عن نصارى نجران فقلت : منهم من يذكروا الله ومنهم من يذكر المسيح ، قال : كل ، وأطعمني.

قال أبو بكر : وابنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب ، قال : ابنا يحيى ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : كلوا وإن ذبح للشيطان.

قال أبو بكر : وابنا محمود بن خالد ، قال : ابنا الوليد ، قال : ابنا ابن جابر ، قال : سمعت القاسم بن مخيمرة يقول : لا بأس بأكل ما ذبحت النصارى لأعياد كنائسها ، ولو سمعته يقول : على اسم جرجيس وبولس.

[١٣٥] (١) ـ أخبرنا المبارك بن علي قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : ابنا يعقوب بن سفيان ، قال : ابنا أبو صالح ، قال : حدّثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة : ٣] ما ذبح اليهود والنصارى أحل لكم ذبائحهم على كل حال.

قال أبو بكر : وابنا محمد بن بشار ، قال : ابنا يحيى ، قال : ابنا عبد الملك ، عن عطاء ، قال : إذا ذبح النصراني باسم المسيح فكل.

قال أبو بكر : وابنا عبد الله بن سعيد ، قال : ابنا ابن أبي غنيمة ، قال : ابنا أبي ، عن الحكم ، قال : لو ذبح النصراني وسمعته يقول : باسمك اللهم المسيح لأكلت منه ، لأن الله قد أحل لنا ذبائحهم ، وهو يعلم أنهم يقولون ذلك.

والقول الثاني : أن ذلك كان مباحا في أول الأمر ، ثم نسخ بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

والقول الثالث : أنه إنما أبيحت ذبيحة أهل الكتاب ، لأن الأصل أنهم يذكرون اسم الله عليها فمتى علم قد ذكروا غير اسمه لم يؤكل ، وهذا هو الصحيح عندي ، وممن قال : إذا سمعت الكتابي يسمّي غير الله فلا تأكل : علي بن أبي طالب ،

__________________

(١) إسناده ضعيف.

١٢٩

وعبد الله بن عمر ، وعائشة ، وطاوس والحسن ، وعن عبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء كهذا القول. وكالقول الأول ، فعلى هذا القول الآية محكمة ، ولا وجه للنسخ.

ذكر الآية الثالثة :

قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦].

اختلف العلماء فيها على قولين :

الأول : أن في الكلام إضمارا تقديره : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، وهذا قول سعد بن أبي وقاص ، وأبي موسى ، وابن عباس ، والفقهاء.

والثاني : أنه على إطلاقه ، وأنه يوجب على كل من أراد الصلاة أن يتوضأ سواء كان محدثا أو غير محدث ، وهذا مروي عن جماعة منهم علي ، وعكرمة ، وابن سيرين ، ثم اختلفوا : هل هذا الحكم باق أم نسخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه باق ، وقال بعضهم : بل هو منسوخ بالسنّة ، وهو حديث بريدة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى يوم الفتح بوضوء واحد ، فقال له عمر : صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال : عمدا فعلته يا عمر (١).

وهذا قول بعيد لما سبق بيانه من أن أخبار الآحاد لا تجوز أن تنسخ القرآن ، وإنما يحمل فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا على تبين معنى الآية ، وأن المراد : إذا قمتم وأنتم محدثون. وإنما كان يتوضأ لكل صلاة لطلب الفضيلة.

وقد حكى أبو جعفر النحاس عن الشافعي أنه قال : لو وكلنا إلى الآية لكان على كل قائم إلى الصلاة الطهارة ، فلما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلوات بطهور واحد بيّنها ، فيكون المعنى : إذا قمتم وقد أحدثتم فاغسلوا (٢).

وقد قال بعضهم : يجوز أن يكون ذلك قد نسخ بوحي لم تستقر تلاوته ، فإنه قد روى أبو جعفر بن جرير الطبري ، بإسناده عن عبد الله بن حنظلة الغسيل رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه ، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢٧٧) وأحمد (٥ / ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، ٣٥٨) وأبو داود (١٧٢) والنسائي (١ / ٨٦) والترمذي (٦١) وابن ماجة (٥١٠) وأبو عوانة (٦٤٧ ، ٦٤٨ ، ٦٤٩) وابن خزيمة (١ / ١٠ / ١٣) وغيرهم ، من حديث بريدة رضي الله عنه.

(٢) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص ١١٥ ـ ١١٦).

١٣٠

ذكر الآية الرابعة :

قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) [المائدة : ١٣].

اختلف العلماء هل هذا منسوخ أم محكم ؛ على قولين :

الأول : أنه منسوخ ؛ قاله الأكثرون ، ولهم في ناسخه ثلاثة أقوال :

الأول : آية السيف.

[١٣٦] (١) ـ أخبرنا ابن ناصر قال : ابنا ابن أيوب ، قال : ابنا أبو علي بن شاذان ، قال : ابنا أبو بكر النجاد ، قال : ابنا أبو داود السجستاني ، قال : ابنا أحمد بن محمد ، قال : حدّثت عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (فَاعْفُ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا) [التغابن : ١٤] ، ونحو هذا من القرآن نسخ كله بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

والثاني : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [التوبة : ٢٩].

[١٣٧] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي ، قال ابن عبد الرزاق ، قال : ابنا معمر ، عن قتادة (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) قال : نسختها قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ).

والثالث : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) [الأنفال : ٥٨].

والقول الثاني : أنه محكم ، قال بعض المفسرين : نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فغدروا وأرادوا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأظهره الله عليهم ، ثم أنزل هذه الآية ، ولم تنسخ (٣).

قال ابن جرير : يجوز أن يعفي عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصغار ، فلا يتوجه النسخ.

__________________

(١) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (٣٥٥) والبيهقي في «سننه» (٩ / ١١).

من طريق : معاوية بن صالح به.

(٢) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (١ / ١٨٥).

(٣) انظر «تفسير ابن جرير الطبري» (١٠ / ١٣٤).

١٣١

ذكر الآية الخامسة :

قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا) [المائدة : ٣٣] هذه الآية محكمة عند الفقهاء.

واختلفوا هل هذه العقوبة على الترتيب أم على التخيير.

فمذهب أحمد بن حنبل في جماعة أنها على الترتيب ، وأنهم إذا قتلوا وأخذوا المال ، أو قتلوا ولم يأخذوا قتلوا وصلبوا وإن أخذوا المال ولم يقتلوا ، قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإن لم يأخذوا المال نفوا.

وقال مالك : الإمام مخير في إقامة أي الحدود شاء سواء قتلوا أم لم يقتلوا ، أخذوا المال أو لم يأخذوا.

وقد ذهب بعض مفسّري القرآن ممن لا فهم له ؛ أن هذه الآية منسوخة بالاستثناء بعدها ، وقد بينا فساد هذا القول في مواضع.

ذكر الآية السادسة :

قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢].

اختلفوا في هذه الآية على قولين :

الأول : أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم ، ثم نسخ ذلك ، بقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٨]. فلزمه الحكم وزال التخيير ، روى هذا المعنى أبو سليمان الدمشقي بأسانيده عن ابن عباس ، وعطاء ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وقد روى أيضا عن الزهري وعمر بن عبد العزيز.

[١٣٨] (١) ـ وقد أخبرنا ابن الحصين ، قال : ابنا أبو طالب بن غيلان ، قال : ابنا أبو بكر الشافعي ، قال : ابنا يحيى بن آدم ، عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال : نسختها (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ).

[١٣٩] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : ابنا

__________________

(١) أخرجه أبو عبيد (٢٤٤) من طريق : سفيان ، عن السّدّي ، عن عكرمة ، ولم يذكر ابن عباس.

وأخرجه النحاس (ص ١٢٣) من طريق ؛ سفيان به.

(٢) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (٢٤٣).

١٣٢

عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي قال : ابنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال : نسختها (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ).

قال أحمد : وابنا هشيم قال : ابنا أصحابنا منهم منصور وغيره ، عن الحكم ، عن مجاهد في قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) قال : نسخت ما قبلها ، قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) (١).

قال أحمد : وابنا وكيع ، قال : ابنا سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، قال : نسخ قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) (٢).

قال أحمد : وابنا حسين ، عن شيبان ، عن قتادة (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) قال : أمر الله نبيه أن يحكم بينهم بعد ما كان رخص له أن يعرض عنهم إن شاء ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها.

وحكى أبو جعفر النحاس عن أبي حنيفة وأصحابه قالوا : إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام فليس له أن يعرض عنهم ، غير أن أبا حنيفة قال : إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل ، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم. وقال أصحابه : بل يحكم قال : وقال الشافعي : لا خيار للإمام إذا تحاكموا إليه قال النحاس : وقد ثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة (٣).

والقول الثاني : أنها محكمة وأن الإمام ونوابه في الحكم مخيّرون ، وإذا ترافعوا إليهم إن شاءوا حكموا بينهم ، وإن شاءوا أعرضوا عنهم.

[١٤٠] (٤) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٣١٢) والبيهقي (٨ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٤ / ١١٣٥ / ٦٣٨٨) والطبراني في «الكبير» (١٠ / رقم : ١١٠٥٤) والنحاس في «ناسخه» ص (١٢٣) وأبو عبيد (٢٤٧). من طريق : سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد به.

وأخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (٢٤٤) من طريق : منصور ، عن الحكم به.

وصحّح إسناده الحاكم ، ووافقه الذهبي.

(٢) أخرجه ابن جرير الطبري (١٠ / ٣٣١ / ١١٩٨٨) وأبو عبيد (٢٤٥).

(٣) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص ١٢٤).

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٤ / ١١٣٦ / ٦٣٩٠) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ، ٣٣٤ / ١١٩٧٩ ، ١١٩٨٣ ، ١١٩٩٧) وعبد الرزاق في «مصنفه» (٦ / ٦٣ / ١٠٠٠٨ و ٨ / ٣٢٢ / ١٩٢٤٠) وسعيد بن منصور في «سننه» (٤ / ١٤٧٩ / ٤٧٦ ـ آل حميد)

١٣٣

بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد قال : حدّثني أبي ، قال : ابنا هشيم ، قال : ابنا مغيرة ، عن إبراهيم ، والشعبي في قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، قالا : إذا ارتفع أهل الكتاب إلى حاكم المسلمين فإن شاء أن يحكم بينهم ، وإن شاء أن يعرض عنهم ، وإن حكم ، حكم بما في كتاب الله.

قال أحمد : وابنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : إن شاء حكم ، وإن شاء لم يحكم.

[١٤١] ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي أبي داود ، قال : ابنا المثنى بن أحمد ، قال : ابنا عمرو بن خالد ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) جعله الله في ذلك على الخيرة إما أن يحكم وإما أن يتركهم فلا يحكم بينهم.

قال أبو بكر : وابنا عبد الله بن محمد بن خلاد قال : ابنا يزيد قال : ابنا مبارك ، عن الحسن ، قال : إذا ارتفع أهل الذمة إلى حاكم من حكام المسلمين ، فإن شاء حكم بينهم ، وإن شاء رفعهم إلى حكامهم ، فإن حكم بينهم حكم بالعدل ، وبما أنزل الله.

وهذا مروي عن الزهري. وبه قال : أحمد بن حنبل وهو الصحيح ؛ لأنه لا تنافي بين الآيتين من جهة أن أحدهما خيرت بين الحكم وتركه ، والأخرى ثبتت كيفية الحكم إذا كان.

ذكر الآية السابعة :

قوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩].

اختلف المفسرون فيها على قولين :

الأول : أنها محكمة وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ وليس عليه الهدي.

__________________

والبيهقي (٨ / ٢٤٦) وأبو عبيد في «ناسخه» (٢٤٢) والنحاس في «ناسخه» (ص ١٢٣).

من طرق ؛ عن مغيرة بن مقسم ، عن الشعبي وإبراهيم به.

ومغيرة به مقسم ثقة ؛ لكنه مدلّس ، وقد عنعنه هنا.

تنبيه : وقع في مطبوعة تفسير ابن أبي حاتم بدل «مغيرة» ؛ «ضميرة»! فليصحّح.

١٣٤

والثاني : أنها تتضمن الاقتصار على التبليغ دون الأمر بالقتال ، ثم نسخت بآية السيف والأول أصح.

ذكر الآية الثامنة:

قوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥].

للعلماء فيها قولان :

القول الأول : أنها منسوخة : قال أرباب هذا القول هي تتضمن كف الأيدي عن قتال الضالين فنسخت. ولهم في ناسخها قولان :

الأول : آية السيف.

والثاني : أن آخرها نسخ أولها. قال أبو عبيد القاسم بن سلام (١) : ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه وموضوع المنسوخ منها إلى قوله : (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) والناسخ قوله : (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) والهدى هاهنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قلت : وهذا الكلام إذا حقق لم يثبت.

القول الثاني : أنها محكمة ، قال الزجاج : معناها إنما ألزمكم الله أمر أنفسكم لا يؤاخذكم بذنوب غيركم. قال : وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف ، لأن المؤمن إذا تركه وهو مستطيع له ، فهو ضال وليس بمهتد.

قلت : وهذا القول هو الصحيح وأنها محكمة ويدل على إحكامها أربعة أشياء :

الأول : أن قوله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) يقتضي إغراء الإنسان بمصالح نفسه ، ويتضمن الإخبار بأنه لا يعاقب بضلال غيره ، وليس مقتضى ذلك أن لا ينكر على غيره ، وإنما غاية الأمر أن يكون ذلك مسكوتا عنه فيقف على الدليل.

والثاني : أن الآية تدل على وجوب الأمر بالمعروف ، لأن قوله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أمر بإصلاحها وأداء ما عليها ، وقد ثبت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فصار من جملة ما على الإنسان في نفسه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقد دل على ما قلنا قوله : (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإنما يكون الإنسان مهتديا إذا امتثل أمر الشرع ، ومما أمر الشرع به الأمر بالمعروف.

__________________

(١) في «ناسخه» ص ٢٨٦.

١٣٥

وقد روي عن ابن مسعود والحسن وأبي العالية : أنهم قالوا في هذه الآية : قولوا ما قبل منكم فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم.

[١٤٢] (١) ـ أخبرنا ابن الحصين ، قال : ابنا ابن المذهب ، قال : ابنا أحمد بن جعفر ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد ، قال حدّثني أبي. قال : ابنا هاشم بن القاسم ، قال : ابنا زهير يعني : ابن معاوية ، قال : ابنا إسماعيل بن أبي خالد ، قال : ابنا قيس قال : قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ، قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إلى آخر الآية ، وأنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ، ولا يغيّرونه أوشك الله عزوجل أن يعمّهم بعقابه».

والثالث : أن الآية قد حملها قوم على أهل الكتاب إذا أدوا الجزية ، فحينئذ لا يلزمون بغيرها.

فروى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى حجر ، وعليهم منذر بن ساوي يدعوهم إلى الإسلام ؛ فإن أبوا فليؤدوا الجزية ، فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب ، واليهود والنصارى والمجوس ، فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام ، فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية» فلما قرءوا الكتاب أسلمت العرب ، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية. فقال المنافقون : عجبا لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ، وقد قبل من مجوس هجر ، وأهل

__________________

(١) حديث صحيح.

أخرجه أحمد (١ / ٢ ، ٥ ، ٧ ، ٩) وأبو داود (٤٣٣٨) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩ / ١١١٥٧) والترمذي (٢١٦٨ ، ٣٠٥٧) وابن ماجة (٤٠٠٥) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٤ / ١٢٢٦ / ٦٩١٩) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (١١ / ١٤٩ / ١٢٨٧٣) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٥ / ١٧٤ ـ ١٧٥ / ١٩٤٢٩) وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (١) وابن حبان في «صحيحه» (١ / رقم : ٣٠٤ ، ٣٠٥) وأبو يعلى في «مسنده» (١ / ١١٨ ـ ١٢٠ / ١٢٨ ـ ١٣٢) والبزار في «مسنده» (١ / ١٣٥ ، ١٣٧ / ٦٥ ، ٦٨) وسعيد بن منصور في «سننه» (٤ / ١٦٣٦ / ٨٤٠) والحميدي في «مسنده» (١ / ٣ ، ٤ / ٣) وأبو بكر المروزي في «مسند أبي بكر» (٨٧ ، ٨٨) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ٦٢ ـ ٦٤) والبيهقي في «سننه» (١٠ / ٩١) وفي «شعب الإيمان» (٦ / ٨٢ / ٧٥٥٠) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (١ / ١٨٧ / ١٢٣) والبغوي في «شرح السنة» (١٤ / ٣٤٤ / ٤١٥٣) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (١ / ٩٣ ، ٩٤ / ٦٣ ، ٦٤) والطبراني في «مكارم الأخلاق» (٧٩) والخطابي في «العزلة» رقم (٥٨) وغيرهم. من طرق ؛ عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس به.

١٣٦

الكتاب ، الجزية ، فهلا أكرههم على الإسلام وقد ردها على إخواننا من العرب ، فشق ذلك على المسلمين فنزلت هذه الآية (١).

والرابع : أنه لما عابهم في تقليد آبائهم بالآية المتقدمة أعلمهم بهذه الآية أن المكلف إنما يلزمه حكم نفسه ، وأنه لا يضره ضلال من ضل إذا كان مهتديا ، حتى يعلموا أنه لا يلزمهم من ضلال آبائهم شيء من الذم والعقاب. وإذا تلمحت هذه المناسبة بين الآيتين لم يكن الأمر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هاهنا مدخل ، وهذا أحسن الوجوه في الآية.

ذكر الآية التاسعة:

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) [المائدة : ١٠٦] الإشارة بهذا إلى الشاهدين الذين يشهدان على الموصي في السفر. والناس في قوله : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قائلان :

الأول : من أهل دينكم وملتكم.

[١٤٣] ـ أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال : ابنا أبو الفضل بن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي ، قالا : ابنا ابن شاذان ، قال : ابنا أحمد بن كامل ، قال : حدّثني محمد بن سعد ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : من أهل الإسلام.

وهذا قول ابن مسعود وشريح ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وأبي مخلد ، ويحيى بن يعمر ، والثوري ، وهو قول أصحابنا (٢).

والثاني : أن معنى قوله : (مِنْكُمْ) أي : من عشيرتكم ، وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا ؛ قاله الحسن ، وعكرمة والزهري والسدي ، وعن عبيدة كالقولين.

فأما قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فقال ابن عباس : ليست «أو» للتخيير ، إنما المعنى : أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم.

في قوله : من غيركم قولان :

الأول : من غير ملّتكم ودينكم ، قاله أرباب القول الأول.

والثاني : من غير عشيرتكم وقبيلتكم ، وهم مسلمون أيضا ، قال أرباب القول

__________________

(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» (ص ٢١٢) عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس.

(٢) انظر «صفوة الراسخ» (ص ٩٤).

١٣٧

الثاني : والقائل بأن المراد شهادة المسلمين من القبيلة أو من غير القبيلة لا يشك في إحكام هذه الآية. فأما القائل بأن المراد بقوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصية في السفر فلهم فيها قولان :

الأول : أنها محكمة والعمل على هذا عندهم باق. وهو قول ابن عباس وابن المسيب وابن جبير ، وابن سيرين ، وقتادة والشعبي والثوري وأحمد بن حنبل.

والثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] وهو قول زيد بن أسلم وإليه يميل أبو حنيفة ومالك والشافعي ، قالوا : وأهل الكفر ليسوا بعدول. والأول أصح ، لأن هذا موضع ضرورة فجاز كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض ، والنفاس ، والاستهلال.

الباب الثالث عشر

باب ذكر الآيات اللواتي

ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة الأنعام

ذكر الآية الأولى :

قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأنعام : ١٥].

زعم بعض ناقلي التفسير أنه كان يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاف عاقبة الذنوب ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢].

قلت : فالظاهر من هذه المعاصي أن المراد بها الشرك ؛ لأنها جاءت في عقيب قوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] فإذا قدرنا العفو عن ذنب ـ إذا كان ـ لم تقدر المسامحة في شرك ـ لو تصور ـ إلا أنه لما لم يجز في حقه ، بقي ذكره على سبيل التهديد والتخويف من عاقبته كقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٦] فعلى هذا الآية محكمة ، يؤكده أنها خبر ، والأخبار لا تنسخ (١).

ذكر الآية الثانية :

قوله تعالى : (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام : ٦٦]. للمفسرين فيه قولان :

الأول : أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة ثم نسخ بآية

__________________

(١) انظر المصدر السابق (ص ٩٥ ـ ٩٦).

١٣٨

السيف وهذا المعنى في رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

والثاني: أن معناه : لست حفيظا عليكم إنما أطلبكم بالظواهر من الإقرار والعمل ، لا بالأسرار ، فعلى هذا هو محكم ، وهذا هو الصحيح يؤكد أنه خبر ، والأخبار لا تنسخ. وهذا اختيار جماعة منهم أبو جعفر النحاس (١).

ذكر الآية الثالثة :

قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] المراد بهذا الخوض : الخوض بالتكذيب ، ويشبه أن يكون الإعراض المذكور هاهنا منسوخا بآية السيف.

ذكر الآية الرابعة :

قوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٦٩] أي من كفر الخائفين وإثمهم ، وقد زعم قوم منهم سعيد بن جبير : أن هذه الآية منسوخة بقوله : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) [النساء : ١٤٠].

[١٤٤] ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : ابنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير وأبي مالك في قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قالا : نسخها : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها) الآية.

قلت : ولو قال : هؤلاء إنها منسوخة بآية السيف كان أصلح ، وكان معناها عندهم إباحة مجالستهم وترك الاعتراض عليهم. والصحيح أنها محكمة ؛ لأنها خبر ، وقد بينا أن المعنى : ما عليكم شيء من آثامهم إنما يلزمكم إنذارهم.

ذكر الآية الخامسة :

قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) [الأنعام : ٧٠] للمفسرين فيه قولان :

الأول : أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم ثم نسخ بآية السيف ، وهذا مذهب قتادة والسدي.

__________________

(١) في «ناسخه» (ص ١٣١).

١٣٩

[١٤٥] ـ (١) أخبرنا ابن ناصر ، قال : ابنا ابن أيوب ، قال : ابنا أبو علي بن شاذان ، قال : ابنا أبو بكر النجاد قال : ابنا أبو داود السجستاني ، قال : ابنا أحمد بن محمد ، قال : ابنا عبد الله بن رجاء ، عن همام ، عن قتادة (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) ثم أنزل الله في براءة ، وأمرهم بقتالهم.

والثاني : أنه خرج مخرج التهديد : كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] فعلى هذا هو محكم ، وهذا مذهب مجاهد ، وهو الصحيح.

ذكر الآية السادسة :

قوله تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) [الأنعام : ٩١] فيه قولان :

الأول : أنه أمر به بالإعراض عنهم ، ثم نسخ بآية السيف.

والثاني : أنه تهديد ، فهو محكم ، وهذا أصح.

ذكر الآية السابعة :

قوله تعالى : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [الأنعام : ١٠٤] فيه قولان :

الأول : أن هذه الآية تتضمن ترك قتال الكفار ثم نسخت بآية السيف.

والثاني : أن المعنى لست رقيبا عليكم أحصي أعمالكم فهي على هذا محكمة.

ذكر الآية الثامنة :

قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٠٦].

روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هذا ونحوه مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين فإنه نسخ بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

ذكر الآية التاسعة :

قوله تعالى : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام : ١٠٧].

قال ابن عباس رضي الله عنهما : نسخ بآية السيف. وعلى ما ذكرنا في نظائرها تكون محكمة.

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (٢ / ٢١٢) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٤ / ١٣١٧ / ٧٤٤٨) والنحاس في «ناسخه» (ص ١٣٢).

١٤٠