نواسخ القرآن

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

نواسخ القرآن

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: الداني بن منير آل زهوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

ذكر الآية العاشرة :

قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٨].

قال المفسرون : هذه نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف ؛ لأنها تضمنت الأمر بقتلهم ، والقتل أشنع من السب. ولا أرى هذه الآية منسوخة ، بل يكره للإنسان أن يتعرض بما يوجب ذكر معبوده بسوء أو بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ذكر الآية الحادية عشر :

قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١١٢] إن قلنا إن هذا تهديد كما سبق في الآية السادسة فهو محكم ، وإن قلنا إنه أمر بترك قتالهم فهو منسوخ بآية السيف.

ذكر الآية الثانية عشر :

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١].

قد روى عن جماعة منهم الحسن ، وعكرمة ، أنهم قالوا : نسخت بقوله : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] وهذا غلط ؛ لأنهم إن أرادوا النسخ حقيقة وليس هذا بنسخ ، وإن أرادوا التخصيص وأنه خص بآية المائدة طعام أهل الكتاب فليس هذا بصحيح ؛ لأن أهل الكتاب يذكرون الله على الذبيحة فيحمل أمرهم على ذلك ، فإن تيقنا أنهم تركوا ذكره جاز أن يكون عن نسيان ، والنسيان لا يمنع الحل ، فإن تركوا لا عن نسيان ، لم يجز الأكل فلا وجه للنسخ أصلا. ومن قال من المفسرين إن المراد بها لم يذكر اسم الله على البتة فقد خص عاما ، والقول بالعموم أصح وعلى قول الشافعي هذه الآية محكمة ، لأنه إما أن يراد بها عنده الميتة أو يكون نهى كراهة.

ذكر الآية الثالثة عشر :

قوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأنعام : ١٣٥] للمفسرين فيها قولان :

الأول : أن المراد بها ترك قتال الكفار ، فهي منسوخة بآية السيف.

والثاني : أن المراد بها التهديد فعلى هذا هي محكمة وهذا هو الأصح.

ذكر الآية الرابعة عشر :

قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١٣٧] فيه قولان :

الأول : أنه اقتضى ترك قتال المشركين ، فهو منسوخ بآية السيف.

والثاني : أنه تهديد ووعيد فهو محكم.

١٤١

ذكر الآية الخامسة عشر :

قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤١] اختلف العلماء في المراد بهذا الحق على قولين :

الأول : أنه الزكاة.

[١٤٦] (١) ـ أخبرنا محمّد بن عبد الباقي البزاز ، قال : ابنا أبو محمّد الجوهري ، قال : ابنا محمّد المظفر ، قال : ابنا علي بن إسماعيل بن حماد ، قال : ابنا أبو حفص عمرو بن علي ، قال : ابنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ابنا يزيد بن درهم قال : سمعت أنس بن مالك ، يقول : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : الزكاة المفروضة.

قال أبو حفص : وابنا معلى بن أسد ، قال : ابنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ابنا الحجاج بن أرطاة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : العشر ونصف العشر.

قال أبو حفص : وابنا عبد الرحمن ، قال : ابنا إبراهيم بن نافع ، عن ابن طاوس عن أبيه ، (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال الزكاة.

قال أبو حفص : وابنا عبد الرحمن ، قال : ابنا أبو هلال ، عن خباب الأعرج ، عن جابر بن زيد (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال الزكاة.

قال أبو حفص : وابنا محمّد بن جعفر ، قال : ابنا شعبة ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن عن قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال الزكاة.

وهذا قول سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وابن الحنفية ، وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم في آخرين ، فعلى هذا الآية محكمة وينبغي على قول هؤلاء أن تكون هذه الآية مدنية لأن السورة مكية ، والزكاة إنما أنزلت بالمدينة (٢).

والثاني : أنه حق غير الزكاة أمر به يوم الحصاد ، وهو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع ، والتمر.

[١٤٧] (٣) ـ أخبرنا محمّد بن أبي طاهر قال : ابنا الجوهري ، قال : ابنا الظفر ، قال : ابنا علي بن إسماعيل ، قال : ابنا أبو حفص ، قال : ابنا يحيى بن سعيد ، قال : ابنا عبد الملك ، عن عطاء (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : القبضة من الطعام.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٥ / ١٣٩٨ / ٧٩٥٣) والنحاس (ص ١٣٣).

(٢) انظر «صفوة الراسخ» (ص ١٠٠ ـ ١٠١).

(٣) نحوه عند ابن أبي حاتم (٥ / ١٣٩٧ / ٧٩٥٠).

١٤٢

وقال : يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، (وَآتُوا حَقَّهُ) قال : شيء سوى الزكاة في الحصاد والجذاذ إذا حصدوا وإذا جذوا (١).

وقال أبو حفص : وبنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : إذا حصدوا ألقى إليهم من السنبل ، وإذا جذوا النخل ألقى لهم من الشماريخ ، فإذا كاله زكّاه (٢).

قال أبو حفص : وبنا معمر بن سليمان ، قال : بنا عاصم ، عن أبي العالية : (وَآتُوا حَقَّهُ) قال : كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة.

[١٤٨] ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : بنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثنا أبي قال : بنا هشيم ، قال : ابنا مغيرة ، عن شباك ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يعطون حتى نسختها ، الصدقة العشر أو نصف العشر.

[١٤٩] (٣) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إبراهيم بن عمر ، قال : ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود قال : ابنا عبد الله بن سعيد ، قال : ابنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : كانوا إذا حصدوا ، وإذا يبس ، وإذا غربل ، أعطوا منه شيئا ، فنسخ ذلك العشر ونصف العشر.

قال أبو بكر : وبنا محمّد بن بشار قال : بنا يزيد ، قال : ابنا عبد الملك ، عن عطاء (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : ليس بالزكاة ، ولكنه إذا كيل قبض منه قبضات من شهد رضخ له منه.

واختلف العلماء ، هل نسخ أم لا؟ إن قلنا أنه أمر وجوب فهو منسوخ بالزكاة ، وإن قلنا إنه أمر استحباب ، فهو باقي الحكم.

ذكر الآية السادسة عشر :

قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) [الأنعام : ١٤٥] اختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين :

الأول : أن المعنى لا أجد محرما مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا ، قاله طاوس ومجاهد.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٥ / ١٣٩٨ / ٧٩٥١).

(٢) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (٤٠) والطبري (١٢ / ١٦٤ / ١٣٩٩٥).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٥ / ١٣٩٨ / ٧٩٥٤).

١٤٣

والثاني : أنها حصرت المحرم ، فليس في الحيوانات محرم إلا ما ذكر فيها. ثم اختلف أرباب هذا القول ؛ فذهب بعضهم إلى أنها محكمة ، وأن العمل على ما ذكر فيها ، فكان ابن عباس لا يرى بلحوم الحمر الأهلية بأسا ، ويقرأ هذه الآية ويقول : ليس بشيء حراما إلا ما حرمه الله في كتابه ، وهذا مذهب عائشة ، والشعبي.

وذهب آخرون إلى أنها نسخت بما ذكر في المائدة من المنخنقة ، والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، وقد رد قوم هذا القول ، بأن قالوا : كل هذا داخل في الميتة ، وقد ذكرت الميتة هاهنا فلا وجه للنسخ.

وزعم قوم : أنها نسخت بآية المائدة ، وبالسنة من تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ، وهذا ليس بصحيح ، أما آية المائدة فقد ذكرنا أنها داخلة في هذه الآية.

وأما ما ورد في السنة فلا يجوز أن يكون ناسخا ، لأن مرتبة القرآن لا يقاومها أخبار الآحاد ولو قيل : إن السنة خصت ذلك الإطلاق أو ابتدأت حكما ، كان أصلح ، وإنما الصواب عندنا أن يقال : هذه الآية نزلت بمكة ، ولم تكن الفرائض قد تكاملت ولا المحرمات اليوم قد تتامت ، ولهذا قال : (فِي ما أُوحِيَ) على لفظ الماضي وقد كان حينئذ من قال : لا إله إلا الله ثم مات ، دخل الجنة ، فلما جاءت الفرائض والحدود ، وقعت المطالبة بها ، فكذلك هذه الآية إنما أخبرت بما كان في الشرع من التحريم يومئذ ، فلا ناسخ إذن ولا منسوخ. ثم كيف يدعى نسخها وهي خبر ، والخبر لا يدخله النسخ (١).

ذكر الآية السابعة عشر :

قوله تعالى : (انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) [الأنعام : ١٥٨] للمفسرين فيها قولان :

الأول : أنها اقتضت الأمر بالكف عن قتالهم ، وذلك منسوخ بآية السيف.

والثاني : أن المراد بها التهديد ، فهي محكمة وهو الصحيح.

ذكر الآية الثامنة عشر :

قوله تعالى : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام : ١٥٩] للمفسرين في معناه ثلاثة أقوال:

الأول : لست من قتالهم في شيء ، ثم نسخ بآية السيف ، قاله السدي.

__________________

(١) انظر «صفوة الراسخ» (ص ١٠٢ ـ ١٠٣).

١٤٤

والثاني : ليس إليك شيء من أمرهم ، قاله ابن قتيبة.

والثالث : أنت بريء منهم ، وهم منك برآء ، إنما أمرهم إلى الله سبحانه في الجزاء فعلى هذين القولين الآية محكمة.

الباب الرابع عشر

باب ذكر الآيات اللواتي

ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة الأعراف

ذكر الآية الأولى :

قوله تعالى : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [الأعراف : ١٨٠].

قال ابن زيد : نسخها الأمر بالقتال ، وقال غيره هذا تهديد لهم وهذا لا ينسخ.

ذكر الآية الثانية :

قوله تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف : ١٨٣].

قال المفسرون : المراد بكيده مجازاة أهل الكيد والمكر ، وهذه خبر ؛ فهي محكمة.

وقد ذهب من قل علمه من منتحلي التفسير إلى أن معنى الآية الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشاركتهم ، قال : ونسخ معناها بآية السيف ، وهذا قول لا يلتفت إليه.

ذكر الآية الثالثة :

قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] العفو الميسور وفي الذي أمر بأخذ العفو ثلاثة أقوال :

القول الأول : أخلاق الناس ، قاله ابن عمرو ، وابن الزبير والحسن ومجاهد ، فعلى هذا يكون المعنى : اقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء ، فعلى هذا هو محكم.

والقول الثاني : أنه المال ، ثم فيه قولان :

الأول : أن المراد بعفو المال الزكاة ، قاله مجاهد في رواية الضحاك.

والثاني : أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة ، ثم نسخت بالزكاة ، روي

١٤٥

عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال القاسم وسالم : العفو شيء في المال سوى الزكاة ، وهو فضل المال ما كان عن ظهر غنى.

والقول الثالث : أن المراد به مساهلة المشركين والعفو عنهم ، ثم نسخ بآية السيف ، قاله ابن زيد وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فيهم قولان :

الأول : أنهم المشركون أمر بالإعراض عنهم ، ثم نسخ ذلك بآية السيف.

والثاني : أنه عام فيمن جهل أمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم ، وأن واجب الإنكار عليهم ، وعلى هذا تكون الآية محكمة ، وهو الصحيح (١).

الباب الخامس عشر

باب ذكر الآيات اللواتي

ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة الأنفال

ذكر الآية الأولى

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١].

اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال بعضهم : هي ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه ، وذلك أن الغنائم كانت حراما في شرائع الأنبياء المتقدمين ، فنسخ الله ذلك بهذه الآية وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال : ٤١].

[١٥٠] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثني أبي ، قال : ابنا وكيع ، قال : بنا إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد

__________________

(١) انظر «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» لمكي (ص ٢٩١ ـ ٢٩٢) و «صفوة الراسخ» (ص ١٠٤ ـ ١٠٥) و «الجامع لأحكام القرآن» (٧ / ٣٤٦) و «جمال القراء وكمال الإقراء» للسخاوي (٢ / ٧٠٧ ـ ٧٠٨) و «زاد المسير» للمصنف (٣ / ٣٠٧).

(٢) أخرجه النحاس (ص ١٤٣) من طريق : وكيع به. وأخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (٣٩٩) من طريق : ابن جريج ، عن مجاهد.

وابن جريج مدلس ؛ وقد دلّس هنا فأسقط منه سليم مولى أبي علي. وهو على الجادة عند النحاس (ص ١٤٣) فأخرجه من طريق : ابن جريج ، قال : أخبرني سليم مولى أبي علي ، عن مجاهد.

١٤٦

وعكرمة ، قالا : كانت الأنفال لله فنسخها (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ).

هذا قول السدي. وقال آخرون المراد بالأنفال شيئان :

الأول : ما يجعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لطائفة من شجعان العسكر ومقدميه ، يستخرج به نصحهم ويحرضهم على القتال.

والثاني : ما يفضل من الغنائم بعد قسمتها ، كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية فغنمنا إبلا ، فأصاب كل واحد اثني عشر بعيرا ، ونفلنا بعيرا بعيرا (١).

فعلى هذا هي محكمة ، لأن هذا الحكم باق إلى وقتنا هذا ، والعجب ممن يدّعي أنها منسوخة فإن عامة ما تضمنت أن الأنفال لله والرسول ، والمعنى : أنهما يحكمان فيها وقد وقع الحكم فيها بما تضمنته آية الخمس ، وإن أريد أن الأمر بنفل الجيش ما أراد ، فهذا حكم باق ، فلا يتوجه النسخ بحال ، ولا يجوز أن يقال عن آية إنها منسوخة إلا أن يرفع حكمها وحكم هذه ما رفع فكيف يدعي النسخ؟ وقد ذهب إلى نحو ما ذكرته أبو جعفر ابن جرير الطبري.

ذكر الآية الثانية :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) [الأنفال : ١٥ ـ ١٦].

وقد ذهب قوم ، منهم ابن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، والحسن وابن جبير ، وقتادة والضحاك إلى أنها في أهل بدر خاصة.

[١٥١] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : بنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدثني أبي ، قال : بنا محمّد بن جعفر ، قال : بنا شعبة ، عن داود ، قال : سمعت الشعبي ، يحدث عن أبي سعيد الخدري : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) قال : نزلت في يوم بدر.

__________________

(١) أخرجه البخاري في «صحيحه» (٣١٣٤ ، ٤٣٣٨) ومسلم (٧١٤٩).

(٢) أخرجه أبو داود (٢٦٤٨) والنسائي في التفسير من «الكبرى» (٦ / ٣٥٠ / ١١٢٠٣) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٥ / ١٦٧٠ / ٨٨٩١) والحاكم (٢ / ٣٢٧) والنحاس في «ناسخه» (ص ١٤٦).

من طرق ؛ عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري. وإسناده صحيح. كما قال الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٢٣٠٦).

١٤٧

قال أحمد : وبنا روح ، قال : بنا حبيب بن الشهيد ، عن الحسن : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) قال : نزلت في أهل بدر.

قال أحمد : وبنا روح ، قال : بنا شعبة ، عن الحسن ، قال : إنما شدد على أهل بدر.

قال أحمد : وبنا حسين ، قال : بنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) قال : يوم بدر.

قلت : لفظ الآية عام ، وإن كانت نزلت في قوم بأعيانهم ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أنها عامة. ثم لهؤلاء فيه قولان :

أحدهما : أنها منسوخة بقوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦]. فليس للمؤمنين أن يفروا عن مثليهم.

قال آخرون : هي محكمة ، وهذا هو الصحيح ، لأنها محكمة في النهي عن الفرار ، فيحمل النهي على ما إذا كان العدو أعلى من عدد المسلمين ، وقد ذهب إلى نحو هذا ابن جرير (١).

ذكر الآية الثالثة :

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣].

[١٥٢] (٢) ـ أخبرنا ابن ناصر ، قال : ابنا ابن أيوب ، قال : ابنا ابن شاذان ، قال : ابنا أبو بكر النجاد ، قال : ابنا أبو داود السجستاني ، قال : بنا أحمد بن محمّد ، قال : بنا علي بن الحسين. عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) نسختها الآية التي بعدها (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤].

وقد روى مثله عن الحسن وعكرمة ، وهذا القول ليس بصحيح ؛ لأن النسخ لا يدخل على الأخبار ، وهذه الآية بينت أن كون الرسول فيهم منع نزول العذاب بهم ، وكون المؤمنين يستغفرون بينهم منع أيضا ، والآية التي تليها بينت استحقاقهم العذاب لصدهم عن سبيل الله ، غير أن كون الرسول والمؤمنين بينهم منع من تعجيل ذلك ، أو عمومه ، فالعجيب من مدّعي النسخ.

__________________

(١) انظر «تفسيره» (١٤ / ٤٢) و «صفوة الراسخ» (ص ١٠٦ ـ ١٠٧) و «الإيضاح» (ص ٢٩٥ ـ ٢٩٧) و «جمال القراء» (٢ / ٧١٢).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٥ / ١٦٩٣ / ٩٠٣٠).

١٤٨

ذكر الآية الرابعة :

قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١].

اختلف المفسرون فيمن عني بهذه الآية على قولين :

الأول : أنهم المشركون ، وأنها نسخت بآية السيف ، وبعضهم يقول : بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [التوبة : ٢٩] وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة في آخرين.

[١٥٣] (١) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : ابنا حجاج عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فنسختها (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

[١٥٤] ـ وأخبرنا ابن ناصر ، قال : ابنا ابن أيوب ، قال : ابنا ابن شاذان ، قال : ابنا أبو بكر النجاد ، قال : ابنا أبو داود السجستاني ، قال : ابنا أحمد بن محمّد ، قال : ابنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) نسختها (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

قال أحمد بن محمد : وابنا موسى بن مسعود ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) نسختها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

والثاني : أنهم أهل الكتاب. وقال مجاهد : بنو قريظة.

[١٥٥] ـ أخبرنا عبد الوهاب ، قال : ابنا أبو طاهر قال : ابنا شاذان قال : ابنا عبد الرحيم قال : ابنا إبراهيم قال : ابنا آدم قال : ابنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) يعني : قريظة.

فعلى هذا القول إن قلنا إنها نزلت في ترك حرب أهل الكتاب إذا بذلوا الجزية وقاموا بشرط الذمة فهي محكمة ، وإن قيل : نزلت في موادعتهم على غير

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «سننه» (٩ / ١١) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (٣٦١).

من طريق : حجاج به.

وإسناده ضعيف ؛ لكن له شواهد يصحّ بها ، والله أعلم.

١٤٩

جزية توجه النسخ لها بآية الجزية وهي قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (١).

ذكر الآية الخامسة :

قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥].

قال المفسرون : لفظ هذا الكلام لفظ الخبر ، ومعناه الأمر والمراد : يقاتلوا مائتين ، وكان هذا فرضا في أول الأمر ثم نسخ بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) [الأنفال : ٦٦] ففرض على الرجل أن يثبت لرجلين فإن زاد جاز له الفرار.

[١٥٦] (٢) ـ أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار ، قال : ابنا أبو بكر البرقاني ، قال : ابنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، قال : أخبرني الحسن ، قال : ابنا حيان ، قال : ابنا عبد الله ، قال : ابنا جرير بن حازم ، قال : سمعت الزبير بن الخريت ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزوجل : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) قال : فرض عليهم أن لا يفر رجل من عشرة ولا قوم من عشرة أمثالهم ، قال : فجهد الناس ذلك وشق عليهم فنزلت الآية الأخرى (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ) [الأنفال : ٦٦] ، فرض عليهم أن لا يفرّ رجل من رجلين ، ولا قوم من مثليهم ، ونقص من الصبر بقدر ما خفّف من العدد.

[١٥٧] (٣) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : ابنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فنسختها (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ).

[١٥٨] ـ أخبرنا ابن ناصر ، قال : ابنا ابن أيوب ، قال : ابنا ابن شاذان ، قال :

__________________

(١) انظر «صفوة الراسخ» (ص ١٠٧) و «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص ١٤٩) و «الإيضاح» (ص ٣٠٠) و «الناسخ والمنسوخ» لعبد القاهر البغدادي (ص ٦٦ ـ ٦٧) و «جمال القراء» (٢ / ٧١٤ ـ ٧١٥) و «الجامع لأحكام القرآن» (٨ / ٣٩ ـ ٤٠).

(٢) أخرجه البخاري (٤٦٥٣) وأبو داود (٢٦٤٦) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٥ / ١٧٢٩ / ٩١٤١) والبيهقي في «سننه» (٩ / ٧٦) وابن المبارك في «الجهاد» (٢٣٧) وأبو بكر الدينوري في «المجالسة» (٦ / ١٩٠ ـ ١٩١ / ٢٥٣٧) والنحاس في «ناسخه» ص ١٤٩. من طريق : جرير به.

(٣) إسناده ضعيف ، والخبر صحيح بما قبله.

أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (٣٥٨) والخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (١ / ٢٥٠ / ٢٤٦).

من طريق : حجاج به.

١٥٠

ابنا أبو بكر النجاد ، قال : ابنا أبو داود السجستاني ، قال : ابنا أحمد بن محمّد ، قال : ابنا علي بن الحسين عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) نسخ فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ).

[١٥٩] ـ أخبرنا ابن الحصين ، قال : ابنا ابن غيلان قال : ابنا أبو بكر الشافعي ، قال : ابنا إسحاق بن الحسن ، قال : ابنا أبو حذيفة قال : ابنا سفيان الثوري ، عن ليث ، عن عطاء : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) قال : كان لا ينبغي لواحد أن يفر من عشرة ، فخفف الله عنهم.

[١٦٠] ـ أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال : ابنا أبو طاهر الباقلاوي ، قال : ابنا أبو علي بن شاذان ، قال : ابنا عبد الرحمن بن الحسن قال : ابنا إبراهيم بن الحسين قال : ابنا آدم قال : ابنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان قد جعل على أصحاب محمد يوم بدر على كان رجل منهم قتال عشرة من الكفار ، فضجوا من ذلك فجعل على كل رجل قتال رجلين ، فنزل التخفيف من الله عزوجل فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ).

قال أبو جعفر النحاس (١) : وهذا تخفيف لا نسخ ، لأن معنى النسخ رفع حكم المنسوخ ولم يرفع حكم الأول ، لأنه لم يقل فيه : لا يقاتل الرجل عشرة ، بل إن قدر على ذلك فهو الاختيار له. ونظير هذا إفطار الصائم في السفر ، لا يقال إنه نسخ الصوم ، وإنما هو تخفيف ورخصة ، والصيام له أفضل.

ذكر الآية السادسة :

قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧].

روي عن ابن عباس ومجاهد في آخرين أن هذه الآية منسوخة بقوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمّد : ٤].

وليس للنسخ وجه لأن غزاة بدر كانت وفي المسلمين قلة ، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزلت الآية الأخرى ، ويبين هذا قوله : (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).

قال أبو جعفر النحاس : ليس هاهنا ناسخ ولا منسوخ ، لأنه قال عزوجل : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) فلما أثخن في الأرض كان له أسرى (٢).

__________________

(١) «الناسخ والمنسوخ» (ص ١٤٩).

(٢) انظر «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص ١٥٠) و «الإيضاح» (ص ٣٠١ ـ ٣٠٢) و «الناسخ والمنسوخ» لعبد القاهر البغدادي (ص ٧٤ ـ ٧٥) و «جمال القراء» (٢ / ٧١٦ ـ ٧١٧).

١٥١

ذكر الآية السابعة :

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢].

قال المفسرون : كانوا يتوارثون بالهجرة ، وكان المؤمن الذي لا يهاجر لا يرث قريبه المهاجر وذلك معنى قوله : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا).

[١٦١] (١) ـ أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال : ابنا أبو الفضل بن خيرون ، وأبو طاهر الباقلاوي ، قالا : ابنا أبو علي بن شاذان ، قال : ابنا أحمد بن كامل ، قال : حدّثني محمّد بن سعد العوفي ، قال : ابنا أبي ، قال : حدّثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان المؤمنون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ثلاثة منازل : منهم المؤمن المهاجر المرافق لقومه في الهجرة ، خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم ، وفي قوله : (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة وشهروا السيوف على من كذب وجحد فهذان مؤمنان ، وكانوا يتوارثون إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين ، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ، ثم ألحق كل ذي رحم برحمه.

[١٦٢] (٢) ـ أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : ابنا محمّد بن قهزاد قال : ابنا علي بن الحسين بن واقد ، قال : حدّثني أبي ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) قال : وكان الأعرابي لا يرث المهاجر ، ولا يرثه المهاجر ، فنسخها ، فقال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) الآية [الأنفال : ٧٥].

[١٦٣] (٣) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدّثني أبي قال : ابنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، قال : ابنا عمر بن

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٥ / ١٧٣٨ / ٩١٨٥).

(٢) أخرجه أبو داود (٢٩٢٤). وقال الشيخ الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٢٥٣٧) : «حسن صحيح».

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٥ / ١٧٣٩ / ٩١٩٠).

١٥٢

فروخ ، قال : ابنا حبيب بن الزبير ، عن عكرمة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) قال : لبث الناس برهة ، والأعرابي لا يرث المهاجر ، والمهاجر لا يرث الأعرابي ، حتى فتحت مكة ودخل الناس في الدين فأنزل الله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).

وقال الحسن : كان الأعرابي لا يرث المهاجر ، ولا يرثه المهاجر فنسخها (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

وقد ذهب قوم إلى أن المراد بقوله : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ولاية النصرة والمودة. قالوا : ثم نسخ هذا بقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] ، وأما قوله : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الأنفال : ٧٢] فقال المفسرون : إن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فانصروهم إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد ، فلا تغدروا بأهل العهد.

وذهب بعضهم إلى أن الإشارة إلى أحياء من كفار العرب كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موادعة ، فكان إن احتاج إليهم عاونوه ، وإن احتاجوا عاونهم فنسخ ذلك بآية السيف (١).

الباب السادس عشر

باب ذكر الآيات اللواتي

ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة التوبة

ذكر الآية الأولى :

قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢].

زعم بعض ناقلي التفسير ممن لا يدري ما ينقل ؛ أن التأجيل منسوخ بآية السيف ، وقال بعضهم منسوخ بقوله : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] وهذا سوء فهم ، وخلاف لما عليه المفسرون ، فإن المفسرين اختلفوا فيمن جعلت له هذه الأشهر على أربعة أقوال :

الأول : أنها أمان لأصحاب العهد ، فمن كان عهده أكثر منها حط إليها ، ومن كان عهده أقل منها رفع إليها ، ومن لم يكن له عهد فأجله انسلاخ المحرم خمسون

__________________

(١) انظر «صفوة الراسخ» (ص ١٠٩) و «الناسخ والمنسوخ» (ص ١٥١) و «الإيضاح» (ص ٣٠٥) و «الناسخ والمنسوخ» لقتادة (ص ٤٣) و «جمال القراء» (ص ٢ / ٧١٧).

١٥٣

ليلة. وهذا قول ابن عباس ، وقتادة والضحاك ، وإنما كان هذا الأجل خمسين ليلة ؛ لأن هذه الآيات نودي بها يوم عرفة ، وقيل يوم النحر.

والثاني : أنها للمشركين كافة من له عهد ومن ليس له عهد ، قاله مجاهد والقرطبي والزهري (١).

والثالث : أنها أجل من كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد أمنه أقل من أربعة أشهر ، وكان أمانه غير محدود ، فأما من لا أمان له فهو حرب ، قاله ابن إسحاق.

والرابع : أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهود ، فأما أرباب العهد فهم على عهودهم قاله ابن السائب. ويؤكده أن عليا عليه‌السلام نادى يومئذ : «ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فعهده إلى مدته».

وقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) قال الحسن : يعني الأشهر التي قيل لهم فيها : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ). وعلى هذا البيان فلا نسخ أصلا.

وقد قال بعض المفسرين : المراد بالأشهر الحرم : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وهذا كلام غير محقق ؛ لأن المشركين إنما قيل لهم : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) في ذي الحجة ، فمن ليس له عهد يجوز قتله بعد المحرم ، ومن له عهد فمدته آخر عهده فليس لذكر رجب هاهنا معنى.

ذكر الآية الثانية :

قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] قد ذكروا في هذه الآية ثلاثة أقوال :

الأول : أن حكم الأسارى كان وجوب قتلهم ثم نسخ بقوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمّد : ٤] قاله الحسن ، وعطاء والضحاك في آخرين ، وهذا يرده قوله : (وَخُذُوهُمْ) [التوبة : ٥] والمعنى ائسروهم.

والثاني : بالعكس فإنه كان الحكم في الأسارى ، أنه لا يجوز قتلهم صبرا ، وإنما يجوز المن أو الفداء ، بقوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ثم نسخ ذلك بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ). قاله مجاهد وقتادة.

والثالث : أن الآيتين محكمتان ، لأن قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أمر بالقتل وقوله : (وَخُذُوهُمْ) أي : ائسروهم ، فإذا حصل الأسير في يد الإمام فهو مخير إن شاء من عليه وإن شاء فاداه ، وإن شاء قتله صبرا ، أي ذلك رأى فيه المصلحة

__________________

(١) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (٨ / ٧٣) و «الإيضاح» (ص ٣٠٩) و «جمال القراء» (٢ / ٧٢١).

١٥٤

للمسلمين فعل ، هذا قول جابر بن زيد ، وعليه عامة الفقهاء.

وقد ذكر بعض من لا فهم له من ناقلي التفسير أن هذه الآية وهي آية السيف نسخت من القرآن مائة وأربعا وعشرين آية ثم صار آخرها ناسخا لأولها ، وهو قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] وهذا سوء فهم لأن المعنى : اقتلوهم وأسروهم إلا أن يتوبوا من شركهم ، ويقروا بالصلاة والزكاة فخلوا سبيلهم ولا تقتلوهم.

ذكر الآية الثالثة :

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) [التوبة : ٧] ، في المشار إليهم بهذه المعاهدة ثلاثة أقوال :

الأول : أنهم بنو ضمرة.

والثاني : قريش.

روي القولان عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال قتادة : هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية فنكثوا وظاهروا المشركين.

والثالث : أنهم خزاعة ؛ دخلوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عاهد المشركين يوم الحديبية. وهذا قول مجاهد وقوله : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) أي : ما أقاموا على الوفاء بعهدهم (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) قال بعض المفسرين : ثم نسخ هذا بآية السيف.

ذكر الآية الرابعة :

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤] اختلف في هذه الآية على ثلاثة أقوال :

الأول : أنها عامة في أهل الكتاب والمسلمين ، قاله أبو ذر والضحاك.

والثاني : أنها خاصة في أهل الكتاب ، قاله معاوية بن أبي سفيان (١).

والثالث : أنها في المسلمين ، قاله ابن عباس والسدي ، وفي المراد بالإنفاق هاهنا قولان :

الأول : إخراج الزكاة ، وهذا مذهب الجمهور ، والآية على هذا محكمة.

[١٦٤] (٢) ـ أخبرنا عبد الأول بن عيسى قال : ابنا محمد بن عبد العزيز

__________________

(١) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (٦ / ١٧٨٩).

(٢) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (١٠ / ١١٨).

١٥٥

الفارسي ، قال : ابنا عبد الرحمن بن أبي جريج ، قال : ابنا عبد الله بن محمّد البغوي ، قال : بنا العلاء بن موسى الباهلي ، قال : ابنا الليث بن سعد ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر ، قال : «ما كان من مال تؤدى زكاته ، فإنه الكنز الذي ذكره الله عزوجل في كتابه».

والثاني : أن المراد بالإنفاق إخراج ما فضل عن الحاجة ، وقد زعم بعض نقلة التفسير : أنه كان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ بالزكاة ، وفي هذا القول بعد.

[١٦٥] (١) ـ وقد أخبرنا المبارك بن علي ، قال : ابنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال : ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال : ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس ، قال : ابنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : بنا عبد الله بن سعيد ، قال : ابنا أبو أسامة ، عن عمر بن راشد ، أو غيره أن عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك قالا في هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) نسختها الآية الأخرى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣].

ذكر الآية الخامسة :

قوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [التوبة : ٣٩].

[١٦٦] ـ أخبرنا ابن ناصر ، قال : ابنا علي بن أيوب ، قال : ابنا بن شاذان ، قال : ابنا أبو بكر النجاد ، قال : ابنا أبو داود السجستاني ، قال : بنا أحمد من محمّد قال : بنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) نسختها (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢].

وقد روي مثل هذا عن الحسن وعكرمة ، وهذا ليس بصحيح ، لأنه لا تنافي بين الآيتين ، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها فإن قلنا : (إِلَّا تَنْفِرُوا) أريد به

__________________

ونحوه عند البخاري (١٤٠٤ ، ٤٦٦١) معلقا ، عن خالد بن أسلم قال : خرجنا مع عبد الله بن عمر ... فذكره.

وأخرجه مالك في «الموطأ» (١ / ١٦٧) ـ ١٧ ـ كتاب الزكاة (١٠) باب ما جاء في الكنز. عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ؛ نحوه.

وأخرجه (٢ / ١٦١ / ٣٤٠) برواية محمّد بن الحسن الشيباني ـ ط. دار القلم ـ عن نافع عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٧٨٨ / ١٠٠٨١) من طريق : وكيع ، عن نافع ، عن ابن عمر ـ ووقع في مطبوعته : ابن عمير! فليصحّح ـ. وانظر «فتح الباري» (٣ / ٣٢٠ ـ ٣٢١).

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٧٨٩ / ١٠٠٨٧).

١٥٦

غزوة تبوك فإنه كان قد فرض على الناس كافة النفير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا عاتب المخلّفين وجرت قصة الثلاثة الذين خلّفوا. وإن قلنا : إن الذين استنفروا حيّ من العرب معروف كما ذكرنا في التفسير عن ابن عباس ، فإنه قال : استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه ، وأمسك عنهم المطر فكان عذابهم ، فإن أولئك وجب عليهم النفير حين استنفروا.

وقد ذهب إلى إحكام الآيتين ومنع النسخ جماعة منهم ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي ، وحكى القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا : ليس هاهنا نسخ ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدو ففرض على الناس النفير إليهم ، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم ، عذر القاعدون عنهم (١).

ذكر الآية السادسة :

قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١].

[١٦٧] (٢) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : ابنا عمر بن عبيد الله ، قال : ابنا ابن بشران ، قال : ابنا إسحاق بن أحمد ، قال : ابنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني أبي ، قال : بنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : في براءة : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) وقال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [التوبة : ٣٩] فنسخ هؤلاء الآيات ، (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢].

وقال السدي : نسخت بقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) [التوبة : ٩١]. واعلم : أنه متى حملت هذه الآية على ما حملنا عليه التي قبلها لم يتوجه نسخ.

ذكر الآية السابعة :

قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

[١٦٨] (٣) ـ أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال : بنا عمر بن عبيد الله ، قال : بنا ابن بشران ، قال : بنا إسحاق بن أحمد ، قال بنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدّثني

__________________

(١) انظر «الإيضاح» (ص ٣١٦) و «جمال القراء» (٢ / ٧٢٤ ـ ٧٢٥).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٠٣ / ١٠٠٦٢) وأبو عبيد في «ناسخه» (٣٨٥). من طريق : حجاج به.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٠٦ / ١٠٠٨١) من طريق : محمّد بن شعيب ؛ أخبرني عثمان بن عطاء ، عن أبيه عطاء ، ولم يذكر فيه ابن عباس.

١٥٧

أبي ، قال : بنا حجاج ، عن ابن جريح ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٤٤] نسختها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور : ٦٢].

[١٦٩] ـ أخبرنا ابن ناصر ، قال : ابنا ابن أيوب ، قال : ابنا ابن شاذان ، قال : ابنا أبو بكر النجاد ، قال : ابنا أبو داود السجستاني ، قال : بنا محمّد بن أحمد ، قال : بنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن أبي يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) نسختها : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

قلت : فالصحيح أنه ليس للنسخ هاهنا مدخل ، لإمكان العمل بالآيتين ، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر ، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة وكان المنافقون إذا كانوا معه ، فعرضت لهم حاجة ، ذهبوا من غير استئذانه ، وإلى نحو هذا ذهب أبو جعفر بن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي.

ذكر الآية الثامنة :

قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠].

لفظ هذه الآية لفظ الأمر وليس كذلك ، وإنما المعنى : إن استغفرت لهم ، وإن لم تستغفر لهم لا يغفر الله لهم ، فهو كقوله تعالى : (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [التوبة : ٥٣] فعلى هذا الآية محكمة ، هذا قول المحققين.

وقد ذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين رجى لهم الغفران ، ثم نسخت بقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون : ٦] فروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] نسخت بقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

[١٧٠] (١) ـ أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال : ابنا أبو طاهر الباقلاوي قال : ابنا أبو علي بن شاذان قال : ابنا عبد الرحمن بن الحسن ، قال : بنا إبراهيم بن

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٤ / ٣٩٦ / ١٧٠٢٥) وأبو عبيد في «ناسخه» (٥٢١) وهو مرسل.

١٥٨

الحسين ، قال : بنا آدم ، قال : بنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : لما نزلت (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] ، قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سأزيدن على سبعين مرة» فأنزل الله تعالى في سورة المنافقين (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) عزما.

وقد حكى أبو جعفر النحاس ؛ أن بعض العلماء قال : فنسخت بقوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) [التوبة : ٨٤].

قلت : والصحيح إحكام الآية على ما سبق.

ذكر الآية التاسعة :

قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) [التوبة : ١٢٠].

قد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن هذه الآية اقتضت أنه لا يجوز لأحد أن يتخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا كان في أول الأمر ثم نسخ ذلك بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢]. قال أبو سليمان الدمشقي : لكل آية وجهها وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق ، وهذا هو الصحيح على ما بينا في الآية الخامسة (١).

الباب السابع عشر

باب ذكر الآيات اللواتي

ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة يونس

(عليه‌السلام)

ذكر الآية الأولى :

قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [يونس : ١٥].

الكلام في هذه كالكلام في نظيرتها في الأنعام ، وقد تكلمنا عليها هناك ، ومقصود الآيتين تهديد المخالف ، وأضيف إلى الرسول ليصعب الأمر فيه ، وليس هاهنا نسخ ، ويقوي ما قلنا ؛ أن المراد بالمعصية هاهنا تبديل القرآن ، والتقول على الله تعالى ، وموافقة المشركين على ما هم عليه ، وهذا لا يدخل في قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ

__________________

(١) انظر «صفوة الراسخ» (ص ١١١) و «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص ١٦٩).

١٥٩

اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) [الفتح : ٢] كيف وقد قال عزوجل : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) [الحاقة : ٤٤]. وقال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] وقال : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) [الإسراء : ٧٥] وإنما هذا وأمثاله في بيان آثار المعاصي وليس من ضرورة ما علق بشرط أن يقع.

ذكر الآية الثانية :

قوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) [يونس : ٤١].

روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نسختها آية السيف ، وهذا بعيد من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه لا يصح عن ابن عباس.

والثاني : أنه ليس بين الآيتين تناف ، والمنسوخ لا يصح اجتماعه مع الناسخ.

والثالث : أنه لا يصح أن يدعي نسخ هذه الآية ، بل إن قيل مفهومها منسوخ عندهم ، فقل لي عملي ، واقتصر على ذلك ولا تقاتلهم ، وليس الأمر كذلك إنما معنى الآية : لي جزاء عملي ، فإن كنت كاذبا فوباله عليّ ، ولكم جزاء عملكم في تكذيبكم لي ، وفائدة هذا لا يمنع من قتالهم وهو أقرب إلى ما يفهم منها فلا وجه للنسخ.

ذكر الآية الثالثة :

قوله تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) [يونس : ٤٦].

زعم بعضهم : أنها منسوخة بآية السيف ، فكأنه ظن أن معناها : اترك قتالهم ، فربما رأيت بعض الذي نعدهم ، وليس هذا شيء.

ذكر الآية الرابعة :

قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩].

زعم قوم منهم مقاتل بن سليمان أنها منسوخة بآية السيف ، والصحيح أنها محكمة وبيان ذلك أن الإيمان لا يصح مع الإكراه ، لأنه من أعمال القلب ، وإنما يتصور الإكراه على النطق لا على العقل (١).

ذكر الآية الخامسة :

قوله تعالى : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) [يونس : ١٠٨].

__________________

(١) وانظر «صفوة الراسخ» (ص ١١١).

١٦٠