تفسير النسفي - ج ١

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ١

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٠

رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥)

(مَعَ الْأَبْرارِ) مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم ، والأبرار المتمسكون بالسّنّة ، جمع برّ أو بارّ كربّ وأرباب وصاحب وأصحاب.

١٩٤ ـ (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي على تصديق رسلك ، أو ما وعدتنا منزلا على رسلك ، أو على ألسنة رسلك ، وعلى متعلقة (١) بوعدتنا والموعود هو الثواب أو النصرة على الأعداء ، وإنّما طلبوا إنجاز ما وعد الله والله لا يخلف الميعاد لأنّ معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد ، أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد إذ الوعد غير مبيّن لمن هو ، أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عداتك (٢) ، يؤيده قوله : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أو هو إظهار للخضوع والضّراعة (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) هو مصدر بمعنى الوعد.

١٩٥ ـ (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) أي أجاب ، يقال استجاب له واستجابه (أَنِّي) بأنّي (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) منكم صفة لعامل (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان لعامل (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) الذّكر من الأنثى والأنثى من الذّكر كلكم بنو آدم ، أو بعضكم من بعض في النصرة والدّين ، وهذه جملة معترضة بيّنت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين ، عن جعفر الصادق (٣) رضي الله عنه من حزبه أمر فقال خمس مرات : ربّنا ، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد ، وقرأ الآيات (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) مبتدأ وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له ، كأنّه قال فالذين عملوا هذه الأعمال السّنية الفائقة ، وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم إلى حيث يأمنون عليه ، فالهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) التي ولدوا فيها ونشأوا (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) بالشتم والضرب

__________________

(١) في (ز) متعلق.

(٢) في (ز) عدتك.

(٣) جعفر الصادق : هو الإمام جعفر بن محمد بن علي زين العابدين بن الحسين السبط ، أبو عبد الله الملقب بالصادق ، سادس الأئمة الانثي عشر عند الإمامية ، ولد عام ٨٠ ه‍ وتوفي عام ١٤٨ ه‍ (الأعلام ٢ / ١٢٦).

٣٠١

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١٩٨)

ونهب المال يريد سبيل الدّين (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) وغزوا المشركين واستشهدوا ، وقتّلوا مكي وشامي ، وقتلوا وقاتلوا على التقديم والتأخير حمزة وعليّ وفيه دليل على أنّ الواو لا توجب الترتيب ، والخبر (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهو جواب قسم محذوف (ثَواباً) في موضع المصدر المؤكد ، يعني إثابة أو تثويبا (مِنْ عِنْدِ اللهِ) لأنّ قوله لأكفرنّ عنهم ولأدخلنّهم في معنى لأثيبنّهم (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي يختصّ به ولا يقدر عليه غيره.

وروي أنّ طائفة من المؤمنين قالوا : إنّ أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع ، فنزل :

١٩٦ ـ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) والخطاب لكلّ أحد ، أو للنبي عليه‌السلام والمراد به غيره ، أو لأنّ مدرة القوم (١) ومقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا ، فكأنّه قيل لا يغرنّكم ، ولأنّ (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه ، كقوله : (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (٣) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٤) وهذا في النهي نظير قوله في الأمر (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٥) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (٦).

١٩٧ ـ (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدإ محذوف أي تقلبهم في البلاد متاع قليل ، وأراد قلته في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة ، أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب ، أو أراد أنّه قليل في نفسه لانقضائه وكلّ زائل قليل (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) وساء ما مهّدوا لأنفسهم.

١٩٨ ـ (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) عن الشرك (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً) النّزل والنّزل ما يقام للنازل ، وهو حال من جنات لتخصّصها بالصفة ، والعامل اللام في لهم ، أو هو مصدر مؤكد كأنّه قيل رزقا أو عطاء (مِنْ عِنْدِ

__________________

(١) مدرة القوم : سيدهم.

(٢) في (ز) أو لأن.

(٣) القصص ، ٢٨ / ٨٦.

(٤) القصص ، ٢٨ / ٨٧.

(٥) الفاتحة ، ١ / ٦.

(٦) النساء ، ٤ / ١٣٦.

٣٠٢

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠)

(اللهِ) صفة له (وَما عِنْدَ اللهِ) من الكثير الدائم (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يتقلّب فيه الفجار من القليل الزائل ، لكنّ بالتشديد يزيد ، وهو للاستدراك أي لا بقاء لتمتّعهم لكنّ ذلك للذين اتقوا ، ونزلت في ابن سلام وغيره من مسلمة (١) أهل الكتاب ، أو في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى عليه‌السلام فأسلموا.

١٩٩ ـ (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) دخلت لام الابتداء على اسم إنّ لفصل الظرف بينهما (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الكتابين (خاشِعِينَ لِلَّهِ) حال من فاعل يؤمن ، لأنّ من يؤمن في معنى الجمع (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم ، وهو حال بعد حال أي غير مشترين (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ما يختصّ بهم من الأجر ، وهو ما وعدوه (٢) في قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) (٣) (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لنفوذ علمه في كلّ شيء.

٢٠٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على الدّين وتكاليفه ، قال الجنيد (٤) قدس الله روحه : الصبر حبس النفس على المكروه بنفي الجزع (وَصابِرُوا) أعداء الله في الجهاد ، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقلّ صبرا منهم وثباتا (وَرابِطُوا) وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصّدين مستعدين للغزو (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الفلاح : البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه ، ولعلّ لتغييب المآل لئلّا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال ، وقيل اصبروا في محبتي وصابروا في نعمتي ورابطوا أنفسكم في خدمتي لعلكم تفلحون تظفرون بقربتي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجّان عن أصحابهما) (٥) والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

__________________

(١) في (ز) مسلمي.

(٢) في (ز) ما وعده.

(٣) القصص ، ٢٨ / ٥٤.

(٤) في (ظ) ليست مذكورة ، وفي (ز) قال الجنيد رحمه‌الله.

(٥) رواه الإمام أحمد من حديث أبي أمامة الباهلي.

٣٠٣

سورة النساء

نزلت بالمدينة آياتها مائة وست وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يا بني آدم (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) فرّعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) معطوف على محذوف كأنّه قيل من نفس واحدة أنشأها وخلق منها زوجها ، والمعنى شعّبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنّه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعها (١) (وَبَثَّ مِنْهُما) ونشر من آدم وحواء (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) كثيرة أي وبث منهما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث ، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقهم منها ، أو على خلقكم ، والخطاب في يا أيها الناس للذين بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى خلقكم من نفس آدم وخلق منها أمّكم حواء وبثّ منهما رجالا ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر ، فإن قلت الذي تقتضيه جزالة النظم أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يدعو إليها فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره داعيا إليها؟ قلت : لأنّ ذلك مما يدلّ على القدرة العظيمة ومن قدر على نحوه كان قادرا على كلّ شيء ، ومن المقدورات عقاب الكفار والفجار ، فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقى القادر عليه ويخشى عقابه ، ولأنّه يدلّ على النعمة السابغة عليهم فحقّهم أن يتقوه

__________________

(١) في (ز) من أضلاعه.

٣٠٤

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢)

في كفرانها ، قال عليه‌السلام عند نزول الآية : (خلقت المرأة من الرجل فهمّها في الرجل وخلق الرجل من التراب فهمّه في التراب) (١) (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) والأصل تتساءلون فأدغمت التاء في السين بعد إبدالها سينا لقرب التاء من السين للهمس ، تساءلون به بالتخفيف كوفي على حذف التاء الثانية استثقالا لاجتماع التاءين ، أي يسأل بعضكم بعضا بالله وبالرّحم فيقول بالله وبالرّحم افعل كذا على سبيل الاستعطاف (وَالْأَرْحامَ) بالنصب على أنّه معطوف على اسم الله تعالى ، أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، أو على موضع الجارّ والمجرور كقولك مررت بزيد وعمرا ، وبالجرّ حمزة على عطف الظاهر على الضمير ، وهو ضعيف لأنّ الضمير المتصل كاسمه متصل ، والجارّ والمجرور كشيء واحد فأشبه العطف على بعض الكلمة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) حافظا أو عالما.

٢ ـ (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) يعني الذين ماتت آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم : الانفراد ومنه الدرة اليتيمة ، وقيل اليتم في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات ، وحقّ هذا الاسم أن يقع على الصّغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء إلا أنّه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال ، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم زال هذا الاسم عنهم. وقوله عليه‌السلام : (لا يتم بعد الحلم) (٢) تعليم شريعة لا لغة ، يعني أنّه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار ، والمعنى وآتوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ ، وسمّاهم يتامى لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر ، وفيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حدّ البلوغ إن أونس منهم الرّشد ، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصّغار (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم ، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها (٣) ، والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز منه (٤) التعجل بمعنى الاستعجال (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) إلى متعلقة بمحذوف وهو في موضع الحال أي مضافة إلى أموالكم ، والمعنى ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرّقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحلّ

__________________

(١) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس (الدر المنثور).

(٢) أخرجه أبو داود عن علي.

(٣) في (ز) عنها.

(٤) في (ز) ومنه.

٣٠٥

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا) (٣)

لكم ، وتسوية بينه وبين الحلال (إِنَّهُ) إن أكلها (كانَ حُوباً كَبِيراً) ذنبا عظيما.

٣ ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) أي لا تعدلوا. أقسط أي عدل (فِي الْيَتامى) (١) (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) ما حلّ لكم (مِنَ النِّساءِ) لأنّ منهنّ ما حرّم الله كاللاتي في آية التحريم ، وقيل ما ذهابا إلى الصفة لأنّ ما يجيء في صفات من يعقل ، فكأنّه قيل الطيبات من النساء ، ولأنّ الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ، ومنه قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قيل كانوا لا يتحرّجون من الزنا ويتحرّجون من ولاية اليتامى ، فقيل إن خفتم الجور في حقّ اليتامى فخافوا الزنا ، فانكحوا ما حلّ لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، أو كانوا يتحرّجون من الولاية في أموال اليتامى ولا يتحرّجون من الاستكثار من النساء مع أنّ الجور يقع بينهنّ إذا كثرن ، فكأنّه قيل إذا تحرجتم من هذا فتحرّجوا من ذلك ، وقيل وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا من البالغات ، يقال طابت الثمرة أي أدركت (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) نكرات وإنّما منعت الصرف للعدل والوصف ، وعليه دلّ كلام سيبويه ، ومحلهن النصب على الحال من النساء ، أو مما طاب تقديره فانكحوا الطيبات ، لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا. فإن قلت الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت : الخطاب للجميع فوجب التكرير ليصيب كلّ ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له ، كما تقول للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى ، وجيء بالواو لتدلّ على تجويز الجمع بين الفرق ، ولو جيء بأو مكانها لذهب معنى التجويز (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بين هذه الأعداد (فَواحِدَةً) فالزموا أو فاختاروا واحدة (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) سوّى في اليسر بين الحرّة الواحدة وبين الإماء من غير حصر (ذلِكَ) إشارة إلى اختيار الواحدة والتسرّي (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أقرب من أن لا تميلوا ولا تجوروا ، يقال عال الميزان عولا إذا مال ، وعال الحاكم في حكمه إذا جار ، ويحكى عن الشافعي رحمه‌الله أنّه فسّر أن لا تعولوا أن لا

__________________

(١) زاد في (ز) عقب في اليتامى : [يقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور ، وهو جمع يتيمة ويتيم ، وأما أيتام فجمع يتيم لا غير] والأرجح أن هذه الجملة هي شرح على هامش النسخة المخطوطة التي طبعت عنها (ز).

٣٠٦

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٤)

تكثر عيالكم ، واعترضوا عليه بأنّه يقال فيه (١) أعال يعيل إذا كثر عياله ، وأجيب بأن يجعل من قولك عال الرجل عياله يعولهم ، كقولك مانّهم يمونهم إذا أنفق عليهم ، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال. وكلام مثله من أعلام العلم حقيق بالحمل على السداد وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا كأنّه سلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات.

٤ ـ (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) مهورهنّ (نِحْلَةً) من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه ، نحلة ونحلا ، وانتصابها على المصدر لأنّ النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء ، فكأنّه قال وانحلوا النساء صدقاتهنّ نحلة ، أي أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم ، أو على الحال من المخاطبين ، أي آتوهنّ صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء ، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس ، وقيل نحلة من الله تعالى عطية من عنده وتفضلا منه عليهن ، وقيل النحلة الملّة وفلان ينتحل كذا أي يدين به ، يعني وآتوهن مهورهنّ ديانة على أنّها مفعول لها ، والخطاب للأزواج ، وقيل للأولياء ، لأنّهم كانوا يأخذون مهور بناتهم (٢) (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) للأزواج (عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) أي من الصداق إذ هو في معنى الصدقات (نَفْساً) تمييز ، وتوحيدها لأنّ الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه ، والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق (٣) وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهنّ إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم ، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس فقيل فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ولم يقل فإن وهبن (٤) إعلاما بأنّ المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة (فَكُلُوهُ) الهاء يعود على شيء (هَنِيئاً) لا إثم فيه (مَرِيئاً) لا داء فيه ، فسرهما النبي عليه‌السلام ، أو هنيئا في الدنيا بلا مطالبة مريئا في العقبى بلا تبعة ، وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ، وهما وصف مصدر أي أكلا هنيئا مريئا ، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء ، وهذه عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة. هنيا مريا بغير همز يزيد وكذا حمزة في الوقف ، وهمزهما الباقون ، وعن علي رضي الله عنه إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم ليشتر بها

__________________

(١) ليست في (ظ) و(ز).

(٢) في (ظ) بناتهن.

(٣) في (ز) الصدقات.

(٤) زاد في (ز) لكم.

٣٠٧

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٦)

عسلا فليشربه بماء السماء فيجمع الله له هنيئا ومريئا وشفاء ومباركا.

٥ ـ (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) المبذرين أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا قدرة لهم على إصلاحها وتثميرها والتصرف فيها ، والخطاب للأولياء ، وأضاف إلى الأولياء أموال السفهاء بقوله (أَمْوالَكُمُ) لأنّهم يلونها ويمسكونها (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أي قواما لأبدانكم ومعاشا لأهلكم وأولادكم. قيما بمعنى قياما نافع وشامي ، كما جاء عوذا بمعنى عياذا ، وأصل قيام قوام فجعلت الواو ياء لانكسار ما قبلها وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس ، وعن سفيان ـ وكان له بضاعة يقلّبها ـ لولاها لتمندل (١) بي بنو العباس (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) واجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا ، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فيأكلها الإنفاق (وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال ابن جريج : عدة جميلة إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وكلّ ما سكنت إليه النفس لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل فهو معروف وما أنكرته لقبحه فهو منكر.

٦ ـ (وَابْتَلُوا الْيَتامى) واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ ، فالابتلاء عندنا أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى تتبين حاله فيما يجىء منه ، وفيه دليل على جواز إذن الصبي العاقل في التجارة (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) أي الحلم لأنّه يصلح للنكاح عنده ، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ) تبيّنتم (رُشْداً) هداية في التصرفات وصلاحا في المعاملات (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) من غير تأخير عن حدّ البلوغ ، ونظم هذا الكلام أنّ ما بعد حتى إلى فادفعوا إليهم أموالهم جعل غاية للابتلاء ، وهي حتى التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله : حتى ماء دجلة أشكل (٢). والواقعة بعدها جملة شرطية لأنّ إذا متضمنة معنى الشرط ، وفعل الشرط بلغوا النكاح ، وقوله : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم جملة من شرط

__________________

(١) تمندل : تمسّح (قاموس ٤ / ٥٦).

(٢) هذا من عجز بيت لجرير صدره : فما زالت القتلى تمج دماءها* بدجلة ...

٣٠٨

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٧)

وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح ، فكأنّه قيل وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم ، وتنكير الرشد يفيد أنّ المراد رشد مخصوص ، وهو الرشد في التصرف والتجارة ، أو يفيد التقليل أي طرفا من الرشد ، حتى لا ينظر (١) به تمام الرشد ، وهو دليل لأبي حنيفة رحمه‌الله في دفع المال عند بلوغ خمس وعشرين سنة (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم ، فإسرافا وبدارا مصدران في موضع الحال ، وأن يكبروا في موضع المصدر منصوب الموضع ببدارا ، ويجوز أن يكونا مفعولا لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق فيما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قسم الأمر بين أن يكون الوصيّ غنيا وبين أن يكون فقيرا ، فالغني يستعفّ من أكلها أي يحترز من أكل مال اليتيم ، واستعفّ أبلغ من عفّ ، كأنه طالب زيادة العفّة ، والفقير يأكل قوتا مقدرا محتاطا في أكله ، عن إبراهيم (٢) : ما سدّ الجوعة ووارى العورة (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بأنّهم تسلموها وقبضوها دفعا للتجاحد وتفاديا عن توجه اليمين عليكم عند التخاصم والتناكر (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) محاسبا فعليكم بالتصادق وإياكم والتكاذب ، أو هو راجع إلى قوله فليأكل بالمعروف ، أي ولا يسرف فإنّ الله يحاسبه عليه ويجازيه به ، وفاعل كفى لفظة الله والباء زائدة ، وكفى يتعدى إلى مفعولين دليله (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) (٣).

٧ ـ (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) هم المتوارثون من ذوي القرابات دون غيرهم (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل من ما (٤) ترك بتكرير العامل ، والضمير في منه يعود إلى ما ترك (نَصِيباً) نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيبا (مَفْرُوضاً) مقطوعا لا بدّ لهم من أن يحوزوه ، روي أنّ أوس بن ثابت ترك امرأته أمّ كجّة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه ميراثه عنهنّ ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح

__________________

(١) في (ظ) و(ز) ينتظر.

(٢) إبراهيم : هو إبراهيم النخعي سبق ترجمته في ٣ / ١٨٨.

(٣) البقرة ، ٢ / ١٣٧.

(٤) في (ز) مما.

٣٠٩

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠)

وحاز الغنيمة. فجاءت أم كجّة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكت فقال : (ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله) فنزلت الآية فبعث إليهما : (لا تفرقا من مال أوس شيئا فإنّ الله تعالى قد جعل لهنّ نصيبا) ولم يبيّن ، فنزلت (يُوصِيكُمُ اللهُ) فأعطى أم كجّة الثّمن والبنات الثّلثين والباقي ابني العم (١).

٨ ـ (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي قسمة التركة (أُولُوا الْقُرْبى) ممن لا يرث (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) من الأجانب (فَارْزُقُوهُمْ) فأعطوهم (مِنْهُ) مما ترك الوالدان والأقربون ، وهو أمر ندب ، وهو باق لم ينسخ ، وقيل كان واجبا في الابتداء ثم نسخ بآية الميراث (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) عذرا جميلا وعدة حسنة ، وقيل القول المعروف أن يقولوا لهم خذوا بارك الله عليكم ويستقلّوا ما أعطوهم ولا يمنّوا عليهم.

٩ ـ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) المراد بهم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى فيشفقوا عليهم خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا ، وأن يقدّروا ذلك في أنفسهم ، ويصوّروه (٢) حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة ، ولو مع ما في حيزه صلة للذين أي وليخش الذين صفتهم وحالهم أنّهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم ، وجواب لو : خافوا ، والقول السديد من الأوصياء أن يكلموهم كما يكلّمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب (٣) ويدعوهم بيا بني ويا ولدي.

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) ظالمين ، فهو مصدر في موضع الحال (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) ملاء (٤) بطونهم (ناراً) أي يأكلون ما يجرّ إلى

__________________

(١) أورده الثعلبي والبغوي بغير سند ، وروى الطبري هذه القصة من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق.

(٢) في (ز) يصوره.

(٣) في (ز) والترحيث.

(٤) في (ز) ملء.

٣١٠

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١١)

النار ، فكأنّه نار ، روي أنّه يبعث آكل مال اليتامى يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه فيعرف الناس أنّه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا (١) (وَسَيَصْلَوْنَ) وسيصلون شامي وأبو بكر (سَعِيراً) نارا من النيران مبهمة الوصف.

١١ ـ (يُوصِيكُمُ اللهُ) يعهد إليكم ويأمركم (فِي أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم وهذا إجمال تفصيله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي للذكر منهم ، أي من أولادكم فحذف الراجع إليه لأنّه مفهوم كقولهم السمن منوان (٢) بدرهم ، وبدأ بحظ الذكر ولم يقل للأنثيين مثل حظّ الذكر أو للأنثى نصف حظّ الذكر لفضله ، كما ضوعف حظه لذلك ، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية ، فقيل كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهنّ حتى يحرمن مع إدلائهنّ من القرابة بمثل ما يدلون به ، والمراد حال الاجتماع ، أي إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان كما أنّ لهما سهمين ، وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كلّه ، والبنتان تأخذان الثلثين ، والدليل عليه أنّه أتبعه حكم الانفراد بقوله (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) أي فإن كانت الأولاد نساء خلّصا يعني بناتا ليس معهنّ ابن (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) خبر ثان لكان ، أو صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أي الميت ، لأنّ الآية لما كانت في الميراث علم أنّ التارك هو الميت (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أي وإن كانت المولودة منفردة. واحدة مدني على كان التامة ، والنصب أوفق لقوله فإن كنّ نساء ، فإن قلت قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن ، وحكم البنات والبنت في حال الانفراد ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما ، قلت حكمهما مختلف فيه فابن عباس رضي الله عنهما نزّلهما منزلة الواحدة لا منزلة الجماعة ، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أعطوهما حكم الجماعة بمقتضى قوله للذكر مثل حظ الأنثيين ، وذلك لأنّ من مات وخلف بنتا وابنا فالثلث

__________________

(١) رواه الطبري من طريق السّدي.

(٢) منوان : رطلان (القاموس ٤ / ٢٧٢).

٣١١

للبنت والثلثان للابن ، فإذا كان الثلث لبنت واحدة كان الثلثان للبنتين ولأنّه قال في آخر السورة : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ). والبنتان أمسّ رحما بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين ولم ينقصوا حظّهما عن حظّ من هو أبعد منهما ، ولأنّ البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كان أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضا مع أخيها لو انفردت معه فوجب لهما الثلثان ، وفي الآية دلالة على أنّ المال كلّه للذكر إذا لم يكن معه أنثى لأنّه جعل للذكر مثل حظّ الأنثيين ، وقد جعل للأنثى النصف إذا كانت منفردة فعلم أنّ للذكر في حال الانفراد ضعف النصف وهو الكلّ ، والضمير في (وَلِأَبَوَيْهِ) للميت ، والمراد الأب والأم إلا أنّه غلب الذكر (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) بدل من لأبويه بتكرير العامل ، وفائدة هذا البدل أنّه لو قيل ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه ، ولو قيل ولأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها ، ولو قيل ولكلّ واحد من أبويه السدس لذهبت فائدة التأكيد وهو التفصيل بعد الإجمال. والسدس مبتدأ خبره لأبويه ، والبدل متوسط بينهما للبيان ، وقرأ الحسن السدس والربع والثمن والثلث بالتخفيف (مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) هو يقع على الذكر والأنثى (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي مما ترك ، والمعنى وورثه أبواه فحسب ، لأنّه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين كان للأم ثلث ما يبقى بعد إخراج نصيب الزوج لا ثلث ما ترك لأنّ الأب أقوى من الأم في الإرث بدليل أنّ له ضعف حظّها إذا خلصا ، فلو ضرب لها الثلث كملا لأدى إلى حطّ نصيبه عن نصيبها ، فإن امرأة لو تركت زوجا وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب حازت الأم سهمين والأب سهما واحدا فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين. فلإمه بكسر الهمزة حمزة وعلي لمجاورة كسر اللام (فَإِنْ كانَ لَهُ) أي للميت (إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) إذا كان للميت اثنان من الإخوة والأخوات فصاعدا فلأمه السدس والأخ الواحد لا يحجب ، والأعيان والعلات والأخياف (١) في حجب الأم سواء (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) متعلق بما تقدّمه من قسمة المواريث كلّها لا بما يليه وحده كأنّه قيل قسمة هذه الأنصباء من بعد وصية (يُوصِي بِها) وما بعده بفتح الصادين (٢) مكي وشامي وحماد ، ويحيى وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية

__________________

(١) الأعيان : الأخوة من أب وأم ، العلات : أبناء الرجل من نساء عدة ، الأخياف : أبناء الأم من رجال شتى.

(٢) في (ز) هو وما بعده بفتح الصاد.

٣١٢

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (١٢)

لمجاورة يورث ، وكسر الأولى لمجاورة يوصيكم الله. الباقون بكسر الصادين أي يوصي بها الميت (أَوْ دَيْنٍ) والإشكال أنّ الدّين مقدم على الوصية في الشرع وقدمت الوصية على الدّين في التلاوة ، والجواب : إنّ أو لا تدل على الترتيب ألا ترى أنّك إذا قلت جاءني زيد أو عمرو كان المعنى جاءني أحد الرجلين فكان التقدير في قوله من بعد وصية يوصي بها أو دين من بعد أحد هذين الشيئين الوصية أو الدّين ، ولو قيل بهذا اللفظ لم يدر فيه الترتيب بل يجوز تقديم المؤخر وتأخير المقدم كذا هنا ، وإنّما قدمنا الدّين على الوصية بقوله عليه‌السلام : (ألا إن الدّين قبل الوصية) (١) ولأنّها تشبه الميراث من حيث إنّها صلة بلا عوض فكان إخراجها مما يشقّ على الورثة ، وكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدّين فقدمت على الدّين ليسارعوا إلى إخراجها مع الدّين (آباؤُكُمْ) مبتدأ (وَأَبْناؤُكُمْ) عطف عليه والخبر (لا تَدْرُونَ) وقوله (أَيُّهُمْ) مبتدأ خبره (أَقْرَبُ لَكُمْ) والجملة في موضع نصب بتدرون (نَفْعاً) تمييز ، والمعنى فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكّل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم (٢) أنفع فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة ، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع وأنتم لا تدرون تفاوتها ، فتولى الله ذلك فضلا منه ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير ، وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لا موضع لها من الإعراب (فَرِيضَةً) نصبت نصب المصدر المؤكد ، أي فرض ذلك فرضا (مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالأشياء قبل خلقها (حَكِيماً) في كلّ ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.

١٢ ـ (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) أي زوجاتكم (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَ

__________________

(١) رواه البيهقي باب تبدية الدّين.

(٢) في (ز) أيهم أنفع لكم.

٣١٣

وَلَدٌ) أي ابن أو بنت (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) منكم أو من غيركم (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) والواحد والجماعة سواء في الربع والثمن ، جعل ميراث الزوج ضعف ميراث الزوجة لدلالة قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) يعني للميت وهو اسم كان (يُورَثُ) من ورث أي يورث منه ، وهو صفة لرجل (كَلالَةً) خبر كان ، أي وإن كان رجل موروث منه كلالة ، أو يورث خبر كان وكلالة حال من الضمير في يورث ، والكلالة تطلق على من لم يخلف ولدا ولا والدا وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين ، وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي لأم ، فإن قلت قد تقدم ذكر الرجل والمرأة فلم أفرد الضمير وذكره؟ ، قلت أمّا إفراده فلأنّ أو لأحد الشيئين ، وأمّا تذكيره فلأنّه يرجع إلى رجل لأنّه مذكر مبدوء به ، أو يرجع إلى أحدهما وهو مذكر (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) من واحد (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) لأنّهم يستحقون بقرابة الأم ، وهي لا ترث أكثر من الثلث ولهذا لا يفضل الذكر منهم على الأنثى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) إنّما كررت الوصية لاختلاف الموصين ، فالأول الوالدان والأولاد ، والثاني الزوجة ، والثالث الزوج ، والرابع الكلالة (غَيْرَ مُضَارٍّ) حال ، أي يوصي بها وهو غير مضار لورثته ، وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث أو لوارث (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد ، أي يوصيكم بذلك وصية (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمن جار أو عدل في وصيته (حَلِيمٌ) عن (١) الجائر لا يعاجله بالعقوبة ، وهذا وعيد ، فإن قلت : فأين ذو الحال فيمن قرأ يوصي بها؟ ، قلت : يضمر يوصي فينتصب عن فاعله ، لأنّه لما قيل يوصى بها علم أنّ ثمّ موصيا ، كما كان رجال فاعل ما يدلّ عليه يسبح ، لأنّه لما قيل يسبح له علم أنّ ثمّ مسبّحا فأضمر يسبح.

واعلم أنّ الورثة أصناف :

أصحاب الفرائض : وهم الذين لهم سهام مقدرة كالبنت ولها النصف وللأكثر الثلثان ، وبنت الابن وإن سفلت ، وهي عند عدم الولد كالبنت ولها مع البنت الصّلبية السدس ، وتسقط بالابن وبنتي الصّلب إلّا أن يكون معها أو أسفل منها (٢) غلام

__________________

(١) في (ظ) حكيم وهو خطأ من الناسخ ، وفي (ز) على الجائر.

(٢) ليس في (أ) أو أسفل منها.

٣١٤

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٣)

فيعصبها ، والأخوات لأب وأم وهنّ عند عدم الولد وولد الابن كالبنات والأخوات لأب ، وهنّ كالأخوات لأب وأم عند عدمهنّ ، ويصير الفريقان عصبة بالبنت (١) أو بنت الابن ، ويسقطن بالابن وابنه وإن سفل والأب وبالجدّ عند أبي حنيفة رحمه‌الله وولد الأم ، وللواحد السدس وللأكثر الثلث ، وذكورهم كإناثهم (٢) ، ويسقطون بالولد وولد الابن وإن سفل والأب والجدّ. والأب وله السدس مع الابن أو ابن الابن وإن سفل ومع البنت أو بنت الابن وإن سفلت السدس والباقي ، والجدّ وهو أبو الأب وهو كالأب عند عدمه إلّا في ردّ الأم إلى ثلث ما يبقى ، والأم ولها السدس مع الولد أو ولد الابن وإن سفل أو الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعدا من أي جهة كانا ، وثلث الكلّ عند عدمهم وثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين ، والجدّة ولها السدس وإن كثرت لأم كانت أو لأب ، والبعدى تحجب بالقربى ، والكلّ بالأم ، والأبويات بالأب ، والزوج وله الربع مع الولد أو ولد الابن وإن سفل وعند عدمه النصف ، والزوجة ولها الثمن مع الولد أو ولد الابن وإن سفل وعند عدمه الربع.

والعصبات : وهم الذين يرثون (٣) ما بقي من الفرائض (٤) وأولاهم الابن ، ثم ابنه وإن سفل ، ثم الأب ، ثم أبوه وإن علا ، ثم الأخ لأب وأم ، ثم الأخ لأب ، ثم ابن الأخ لأب وأم ، ثم ابن الأخ لأب ، ثم الأعمام ، ثم أعمام الأب ، ثم أعمام الجدّ ، ثم المعتق ، ثم عصبته على الترتيب. واللاتي فرضهن النصف والثلثان يصرن عصبة بأخواتهن لا غيرهن.

وذوو الأرحام : وهم الأقارب الذين ليسوا من العصبات ولا من أصحاب الفرائض وترتيبهم كترتيب العصبات.

١٣ ـ (تِلْكَ) إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث (حُدُودُ اللهِ) سمّاها حدودا لأنّ الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزوها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

__________________

(١) في (ز) مع البنت.

(٢) في (ظ) و(ز) وذكرهم كأنثاهم.

(٣) في (ظ) يورثون.

(٤) في (ظ) و(ز) من الفرض.

٣١٥

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١٦)

١٤ ـ (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) انتصب خالدين وخالدا على الحال ، وجمع مرة وأفرد أخرى نظرا إلى معنى من ولفظها. ندخله فيهما مدني وشامي (وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) لهوانه عند الله ، ولا تعلّق للمعتزلة والخوارج (١) بالآية فإنّها في حقّ الكفار إذ الكافر هو الذي تعدى الحدود كلّها ، وأما المؤمن العاصي فهو مطيع بالإيمان غير متعد حدّ التوحيد ولهذا فسر الضحّاك المعصية هنا بالشرك ، وقال الكلبي ومن يعص الله ورسوله بكفره بقسمة المواريث ويتعدّ حدوده استحلالا.

ثمّ خاطب الحكام فقال :

١٥ ـ (وَاللَّاتِي) هي جمع التي وموضعها رفع بالابتداء (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) أي الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح ، يقال أتى الفاحشة وجاءها ورهقها وغشيها بمعنى (مِنْ نِسائِكُمْ) من للتبعيض والخبر (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَ) فاطلبوا الشهادة (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) من المؤمنين (فَإِنْ شَهِدُوا) بالزنا (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) فاحبسوهن (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي ملائكة الموت كقوله (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٢) أو حتى يأخذهنّ الموت ويستوفي أرواحهنّ (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَ) قيل أو بمعنى إلّا أن (سَبِيلاً) غير هذه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما السبيل للبكر جلد مائة وتغريب عام وللثيب الرجم لقوله عليه‌السلام : (خذوا عني ، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة) (٣).

١٦ ـ (وَالَّذانِ) يريد الزاني والزانية. وبتشديد النون مكي (يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) الفاحشة (٤) (فَآذُوهُما) بالتوبيخ والتعبير وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما

__________________

(١) ليس في (ز) والخوارج.

(٢) النحل ، ١٦ / ٢٨ و ٣٢.

(٣) رواه الإمام أحمد.

(٤) زاد في (ظ) و(ز) أي.

٣١٦

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧)

الله (١) (فَإِنْ تابا) عن الفاحشة (وَأَصْلَحا) وغيّرا الحال (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) فاقطعوا التوبيخ والمذمة (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) يقبل توبة التائب ويرحمه. قال الحسن : أول ما نزل من حدّ الزنا الأذى ، ثم الحبس ، ثم الجلد أو الرجم ، فكان ترتيب النزول على خلاف ترتيب التلاوة ، والحاصل أنّهما إذا كانا محصنين فحدّهما الرجم لا غير ، وإذا كانا غير محصنين فحدّهما الجلد لا غير ، وإن كان أحدهما محصنا والآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم وعلى الآخر الجلد ، وقال ابن بحر (٢) : الآية الأولى في السحّاقات والثانية في اللواطين ، والتي في سورة النور في الزاني والزانية ، وهو دليل ظاهر لأبي حنيفة رحمه‌الله في أنّه يعزر في اللواطة ولا يحد ، وقال مجاهد : آية الأذى في اللواطة.

١٧ ـ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) هي من تاب الله عليه إذا قبل توبته أي إنّما قبولها (عَلَى اللهِ) وليس المراد به الوجوب إذ لا يجب على الله شيء ، ولكنه تأكيد للوعد ، يعني أنّه يكون لا محالة كالواجب الذي لا يترك (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) الذنب لسوء عقباه (٣) (بِجَهالَةٍ) في موضع الحال ، أي يعملون السوء جاهلين سفهاء ، لأنّ ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السّفه ، وعن مجاهد من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته ، وقيل جهالته اختياره اللذة الفانية على الباقية ، وقيل لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل كنه عقوبته (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) من زمان قريب وهو ما قبل حضرة الموت ، ألا ترى إلى قوله : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) فبيّن أنّ وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة ، وعن الضحّاك : كلّ توبة قبل الموت فهو قريب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قبل أن ينظر إلى ملك الموت ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) (٤) ومن للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب ، كأنّه سمّى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زمانا قريبا (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) عدة بأنّه يفي بذلك ، وإعلام بأنّ الغفران كائن لا محالة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بعزمهم على التوبة (حَكِيماً) حكم بكون الندم توبة.

__________________

(١) ليس في (ظ) لفظ الجلالة.

(٢) ابن بحر هو الجاحظ عمرو بن بحر سبق ترجمته في ٢ / ٣٤.

(٣) في (ز) عقابه.

(٤) رواه الطبري.

٣١٧

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩)

١٨ ـ (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي ولا توبة للذين يذنبون ويسوّفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف بحضور أسباب الموت ومعاينة ملك الموت ، فإنّ توبة هؤلاء غير مقبولة لأنّها حالة اضطرار لا حالة اختيار ، وقبول التوبة ثواب ولا وعد به إلا لمختار (وَلَا الَّذِينَ) في موضع جر بالعطف على للذين يعملون السيئات ، أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا للذين (يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) (١) قال سعيد بن جبير : الآية الأولى في المؤمنين والوسطى في المنافقين والأخرى في الكافرين ، وفي بعض المصاحف بلامين ، فهو (٢) مبتدأ خبره (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي هيأنا من العتيد وهو الحاضر ، أو الأصل أعددنا فقلبت الدال تاء.

كان الرجل يرث امرأة مورثه بأن يلقي عليها ثوبه فيتزوجها بلا مهر فنزل (٣) :

١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أي أن تأخذوهنّ على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهنّ كارهات لذلك ، أو مكرهات كرها بالفتح من الكراهة ، وبالضم حمزة وعلي من الإكراه ، مصدر في موضع الحال من المفعول. والتقييد بالكره لا يدلّ على الجواز عند عدمه ، لأنّ تخصيص الشيء بالذكر لا يدلّ على نفي ما عداه كما في قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (٤) وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة لتفتدي منه بمالها وتختلع فقيل (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) وهو منصوب عطفا على أن ترثوا ، ولا لتأكيد النفي ، أي لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهنّ ، أو مجزوم بالنهي على الاستئناف فيجوز الوقف حينئذ على كرها. والعضل : الحبس والتضييق (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) من المهر ، واللام متعلقة بتعضلوا (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) هي

__________________

(١) قطّعنا الآية كما في (أ) و(ظ).

(٢) في (ظ) و(ز) وهو.

(٣) في (ظ) و(ز) فنزلت.

(٤) الإسراء ، ١٧ / ٣١.

٣١٨

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١)

النشوز وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء ، أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهنّ فقد عذرتم في طلب الخلع ، وعن الحسن الفاحشة الزنا ، فإن فعلت حلّ لزوجها أن يسألها الخلع (مُبَيِّنَةٍ) وبفتح الياء مكي وأبو بكر ، والاستثناء من أعمّ عام الظرف أو المفعول له ، كأنّه قيل ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة ، أو ولا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة ، وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وهو النّصفة في المبيت والنفقة ، والإجمال في القول (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) لقبحهنّ أو سوء خلقهنّ (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ) في ذلك الشيء أو في الكره (خَيْراً كَثِيراً) ثوابا جزيلا أو ولدا صالحا ، والمعنى فإن كرهتموهنّ فلا تفارقوهنّ لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأدنى إلى الخير وأحبت ما هو بضد ذلك ، ولكن للنظر في أسباب الصلاح ، وإنّما صحّ قوله فعسى أن تكرهوا جزاء للشرط لأنّ المعنى فإن كرهتموهنّ فاصبروا عليهنّ مع الكراهة فلعلّ لكم فيما تكرهونه خيرا كثيرا ليس فيما تحبونه.

وكان الرجل إذا رأى امرأة فأعجبته بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها فقيل :

٢٠ ـ (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) أي تطليق امرأة وتزوّج أخرى (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَ) وأعطيتم إحدى الزوجات ، فالمراد بالزوج الجمع لأنّ الخطاب لجماعة الرجال (قِنْطاراً) مالا عظيما كما مر في آل عمران ، وقال عمر رضي الله عنه على المنبر لا تغالوا بصدقات النساء ، فقالت امرأة أنتبع قولك أم قول الله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال عمر : كلّ أحد أعلم من عمر تزوجوا على ما شئتم (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ) من القنطار (شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي بيّنا ، والبهتان : أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه لأنّه يبهت عند ذلك أي يتحيّر ، وانتصب بهتانا على الحال ، أي باهتين وآثمين.

ثمّ أنكر أخذ المهر بعد الإفضاء فقال :

٢١ ـ (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أي خلا بلا حائل ، ومنه الفضاء ، والآية حجة لنا في الخلوة الصحيحة أنّها تؤكد المهر حيث أنكر الأخذ

٣١٩

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣)

وعلّل بذلك (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) عهدا وثيقا وهو قول الله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (١) والله تعالى أخذ هذا الميثاق على عباده لأجلهنّ فهو كأخذهن ، أو قول النبي عليه‌السلام : (استوصوا بالنساء خيرا فإنهنّ عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله) (٢).

ولما نزل (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) قالوا : تركنا هذا ، لا نرثهن كرها ولكن نخطبهنّ فننكحهنّ برضاهنّ فقيل لهم :

٢٢ ـ (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) وقيل المراد بالنكاح الوطء أي لا تطئوا ما وطئ آباؤكم ، وفيه تحريم وطء موطوءة الأب بنكاح أو بملك يمين أو بزنا ، كما هو مذهبنا وعليه كثير من المفسرين ، ولما قالوا كنا نفعل ذلك فكيف حال ما كان منّا قال : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي لكن ما قد سلف فإنّكم لا تؤاخذون به ، والاستثناء منقطع عند (٣) سيبويه ، ثم بيّن صفة هذا العقد في الحال فقال : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) بالغة في القبح (وَمَقْتاً) وبغضا عند الله وعند المؤمنين ، وناس منهم يمقتونه من ذوي مروّاتهم ويسمونه نكاح المقت ، وكان المولود عليه يقال له المقتيّ (وَساءَ سَبِيلاً) وبئس الطريق طريقا ذلك.

ولما ذكر في أول السورة نكاح ما طاب أي حلّ من النساء ، وذكر بعض ما حرّم قبل هذا وهو نساء الآباء ، ذكر المحرمات الباقيات وهنّ سبع من النسب وسبع من السبب وبدأ بالنسب فقال :

٢٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) والمراد تحريم نكاحهنّ عند البعض ، وقد

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ٢٢٩.

(٢) هذا حديث مركب من حديثين ، الأول أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص ، والثاني أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل في صفة الحج.

(٣) في (ظ) و(ز) عن ، وهي في (أ) أقرب إلى عند من عن وهو الأصوب.

٣٢٠