تفسير النسفي - ج ١

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ١

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٠

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥٥)

ذاهبا إلى الله ملتجئا إليه (قالَ الْحَوارِيُّونَ) حواريّ الرجل صفوته وخاصته (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أعوان دينه (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) إنّما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيدا لإيمانهم لأنّ الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم ، وفيه دليل على أنّ الإيمان والإسلام واحد.

٥٣ ـ (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي رسولك عيسى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم ، أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية ، أو مع أمة محمد عليه‌السلام لأنّهم شهداء على الناس.

٥٤ ـ (وَمَكَرُوا) أي كفار بني إسرائيل الذين أحسّ (١) منهم الكفر حين أرادوا قتله وصلبه (وَمَكَرَ اللهُ) أي جازاهم على مكرهم بأن رفع عيسى عليه‌السلام (٢) إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل ، ولا يجوز إضافة المكر إلى الله تعالى إلا على معنى الجزاء لأنّه مذموم عند الخلق ، وعلى هذا الخداع والاستهزاء ، كذا في شرح التأويلات (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أقوى المجازين وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.

٥٥ ـ (إِذْ قالَ اللهُ) ظرف لمكر الله (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مستوفي أجلك ، ومعناه أني (٣) عاصمك من أن يقتلك الكفار ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم (وَرافِعُكَ إِلَيَ) إلى سمائي ومقرّ ملائكتي (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ، وقيل متوفيك قابضك من الأرض ، من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته ، أو مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن ، إذ الواو لا توجب الترتيب ، قال النبي عليه‌السلام : (ينزل عيسى خليفة على أمتي يدقّ الصليب ويقتل الخنازير ويلبث أربعين سنة ويتزوج ويولد له ثم يتوفى ، وكيف

__________________

(١) زاد في (ز) عيسى.

(٢) ليست في (ظ) و(ز).

(٣) في (ظ) أي.

٢٤١

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩)

تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها والمهديّ من أهل بيتي في وسطها) (١) أو متوفي نفسك بالنوم ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) أي المسلمين (٢) لأنّهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع ، دون الذين كذّبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) في الآخرة (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

٥٦ ـ ٥٧ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ* وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) وتفسير الحكم هاتان الآيتان ، فيوفّيهم حفص.

٥٨ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبإ عيسى وغيره ، وهو مبتدأ (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) خبره (مِنَ الْآياتِ) خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) القرآن ، يعني المحكم ، أو كأنّه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه.

ونزل لما قال وفد بني نجران هل رأيت ولدا بلا أب؟ :

٥٩ ـ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي إنّ شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم عليه‌السلام (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) قدّره جسدا من طين ، وهي جملة مفسّرة لما (٣) له شبّه عيسى بآدم ولا موضع لها ، أي خلق آدم من تراب ولم يكن ثم (٤) أب ولا أمّ ، فكذلك حال عيسى مع أنّ الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبّه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وعن بعض العلماء أنّه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون

__________________

(١) رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب وأخصر منه وليس فيه ذكر المهدي.

(٢) في (ز) المسلمين.

(٣) في (ز) لحاله.

(٤) في (ظ) و(ز) ثمة.

٢٤٢

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٦١)

عيسى؟ قالوا لأنّه لا أب له. قال : فآدم أولى لأنّه لا أبوين له. قالوا : كان يحيي الموتى. قال : فحزقيل أولى لأنّ عيسى عليه‌السلام (١) أحيا أربعة نفر وحزقيل ثمانية آلاف. فقالوا كان يبرئ الأكمه والأبرص قال : فجرجيس أولى لأنّه طبخ وأحرق ثم قام سالما (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) أي أنشأه بشرا (فَيَكُونُ) أي فكان ، وهو حكاية حال ماضية وثمّ لترتيب الخبر على الخبر لا لترتيب المخبر عنه.

٦٠ ـ (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق (فَلا تَكُنْ) أيها السامع (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكين ، ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، ويكون من باب التهييج لزيادة الثبات لأنّه عليه‌السلام معصوم عن (٣) الامتراء.

٦١ ـ (فَمَنْ حَاجَّكَ) من النصارى (فِيهِ) في عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) من البينات الموجبة للعلم ، وما بمعنى الذي (فَقُلْ تَعالَوْا) هلموا ، والمراد المجيء بالعزم والرأي ، كما تقول تعال نفكر في هذه المسألة (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أي يدع كلّ مني (٤) ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منّا ومنكم ، والبهلة ـ بالفتح والضم ـ اللعنة ، وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته ، وأصل الابتهال هذا ، ثم يستعمل في كلّ دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا. روي أنه عليه‌السلام (٥) لمّا دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى ننظر ، فقال العاقب وكان ذا رأيهم : والله لقد عرفتم يا معشر النّصارى أنّ محمدا نبيّ مرسل وما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت (٦) صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكنّ فإن أبيتم إلّا إلف دينكم فوادعوا (٧) الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد غدا محتضنا الحسين (٨) آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا

__________________

(١) ليست في (ظ) و(ز).

(٢) في (أ) عليه‌السلام.

(٣) في (ز) من.

(٤) في (ز) منّا.

(٥) ليست في (أ) و(ظ).

(٦) نبت : أي بلغ واحتلم.

(٧) في (ز) فودعوا.

(٨) في (ز) للحسين.

٢٤٣

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤)

يبقى على وجه الأرض نصراني ، فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك ، فصالحهم (١) على ألفي حلة كلّ سنة فقال عليه‌السلام : (والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير) (٢). وإنّما ضمّ الأبناء والنساء وإن كانت المباهلة مختصة به وبمن يكاذبه ، ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة. وخصّ الأبناء والنساء لأنّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم ، وفيه دليل واضح على صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) لأنّه لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) منّا ومنكم في شأن عيسى عليه‌السلام (٤) ونبتهل ونجعل معطوفان على ندع.

٦٢ ـ (إِنَّ هذا) الذي قصّ عليك من نبأ عيسى (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) هو فصل بين اسم إنّ وخبرها ، أو مبتدأ والقصص الحقّ خبره ، والجملة خبر إنّ ، وجاز دخول اللام على الفصل لأنّه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنّه أقرب إلى المبتدأ منه ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ ومن في (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) بمنزلة البناء على الفتح في لا إله إلا الله في إفادة معنى الاستغراق ، والمراد الردّ على النصارى في تثليثهم (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في الانتقام (الْحَكِيمُ) في تدبير الأحكام.

٦٣ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا ولم يقبلوا (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٥).

٦٤ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) هم أهل الكتابين ، أو وفد نجران ، أو يهود المدينة

__________________

(١) زاد في (ز) النبي.

(٢) رواه البغوي والخازن وروى ابن جرير نحوه وفيه : ولو فعلوا لاستؤصلوا عن جديد الأرض.

(٣) في (أ) عليه‌السلام.

(٤) ليست في (ظ) و(ز).

(٥) النحل ، ١٦ / ٨٨.

٢٤٤

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٦٦)

(تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) أي مستوية (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل ، وتفسير الكلمة قوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) يعني تعالوا إليها حتى لا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله لأنّ كلّ واحد منهما بعضنا بشر مثلنا ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله. وعن عدي بن حاتم ما كنّا نعبدهم يا رسول الله قال : (أليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم) قال نعم ، قال : (هو ذاك) (١) (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلّموا بأنّا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع : اعترف بأني أنا الغالب وسلّم إليّ الغلبة.

٦٥ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) زعم كلّ فريق من اليهود والنّصارى أنّ إبراهيم كان منهم وجادلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) والمؤمنين فيه ، فقيل (٣) إنّ اليهودية إنّما حدثت بعد نزول التوراة ، والنصرانية بعد نزول الإنجيل ، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان ، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.

٦٦ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ها للتنبيه ، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره (حاجَجْتُمْ) جملة مستأنفة مبيّنة للجملة الأولى ، يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنّكم جادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) مما نطق به التوراة والإنجيل (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم ، وقيل هؤلاء بمعنى الذين وحاججتم صلته ، ها انتم بالمد وغير الهمز حيث كان مدني وأبو عمرو (وَاللهُ يَعْلَمُ) علم ما حاججتم فيه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وأنتم جاهلون به.

ثم أعلمهم بأنّه بريء من دينهم فقال :

__________________

(١) لم أجده.

(٢) ليست في (أ).

(٣) زاد في (ظ) و(ز) لهم.

٢٤٥

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٧١)

٦٧ ـ (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كأنّه أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيزا والمسيح ، أو وما كان من المشركين كما لم يكن منهم.

٦٨ ـ (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) إنّ أخصّهم به وأقربهم منه ، من الولي وهو القرب (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في زمانه وبعده (وَهذَا النَّبِيُ) خصوصا ، خصّ بالذكر لخصوصيته بالفضل ، والمراد محمد عليه‌السلام (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من أمته (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ناصرهم.

٦٩ ـ (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) هم اليهود دعوا حذيفة (١) وعمارا ومعاذا إلى اليهودية (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وما يعود وبال الإضلال إلّا عليهم ، لأنّ العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم (وَما يَشْعُرُونَ) بذلك.

٧٠ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) بالتوراة والإنجيل ، وكفرهم بها أنّهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) وغيرها (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) تعترفون بأنّها آيات الله ، أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوّة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين ، أو تكفرون بآيات الله جميعا وأنتم تعلمون أنّها حق.

٧١ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) تخلطون الإيمان بموسى وعيسى بالكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) نعت محمد عليه‌السلام (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنّه حقّ.

__________________

(١) حذيفة : هو حذيفة بن حسل بن جابر العبسي ، أبو عبد الله ، واليمان لقب حسل ، صحابي من الولاة الشجعان الفاتحين توفي عام ٣٦ ه‍ (الأعلام ٢ / ١٧١).

(٢) ليست في (أ).

(٣) في (أ) عليه‌السلام ، وليست في (ظ).

٢٤٦

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٧٣)

٧٢ ـ (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) فيما (١) بينهم (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي القرآن (وَجْهَ النَّهارِ) ظرف أي أوّله ، يعني أظهروا (٢) الإيمان بما أنزل على المسلمين في أوّل النّهار (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) واكفرا به في (٣) آخره (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعلّ المسلمين يقولون ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلّا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم.

٧٣ ـ (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) ولا تؤمنوا متعلق بقوله (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) وما بينهما اعتراض ، أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أرادوا أسرّوا تصديقكم بأنّ المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلّا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ودون (٤) المشركين لئلّا يدعوهم إلى الإسلام (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) عطف على أن يوتى ، والضمير في يحاجوكم لأحد ، لأنّه في معنى الجمع ، بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أنّ المسلمين يحاجّونكم يوم القيامة بالحقّ ويغالبونكم عند الله بالحجة ، ومعنى الاعتراض أنّ الهدى هدى الله من شاء هداه حتى أسلم أو ثبت على الإسلام كان ذلك ، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيّكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين ، وكذلك قوله (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يريد الهداية والتوفيق ، أو يتمّ الكلام عند قوله إلا لمن تبع دينكم ، أي ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر ، وهو أيمانهم وجه النهار ، إلا لمن تبع دينكم إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم ، لأنّ رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم ، ومعنى قوله أن يؤتى لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه لا لشيء آخر ، يعني أنّ ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم ، ويدل عليه قراءة ابن كثير آن بالمدّ والاستفهام ، يعني الآن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب

__________________

(١) في (ز) فيم.

(٢) في (أ) أظهر.

(٣) سقطت من (ز).

(٤) في (ظ) دون.

٢٤٧

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧٦)

تحسدونهم ، وقوله أو يحاجّوكم على هذا معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو لما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم (وَاللهُ واسِعٌ) أي واسع الرحمة (عَلِيمٌ) بالمصلحة.

٧٤ ـ (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) بالنبوّة أو بالإسلام (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

٧٥ ـ (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأدّاه إليه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) هو فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه ، وقيل المأمونون على الكثير النّصارى لغلبة الأمانة عليهم ، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه ملازما له يؤده ، ولا يؤده بكسر الهاء مشبعة مكي وشامي ونافع وعليّ وحفص ، واختلس أبو عمرو في رواية ، غيرهم بسكون الهاء (ذلِكَ) إشارة إلى ترك الأداء الذي دلّ عليه لا يؤده (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم ليس علينا في الأميين سبيل أي لا يتطرق علينا إثم وذم في شأن الأميين ، يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم لأنّهم ليسوا على ديننا ، وكانوا يستحلّون ظلم من خالفهم (١) ويقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة ، وقيل بايع اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم ، وادعوا أنّهم وجدوا ذلك في كتابهم (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بادعائهم أنّ ذلك في كتابهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنّهم كاذبون.

٧٦ ـ (بَلى) إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين ، أي بلى عليهم سبيل

__________________

(١) زاد في (ز) وكانوا.

٢٤٨

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨)

فيهم. وقوله (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) جملة مسأنفة مقررة للجملة التي سدّت بلى مسدّها ، والضمير في بعهده يرجع إلى الله تعالى ، أي كلّ من أوفى بعهد الله واتقاه (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي يحبهم فوضع الظاهر موضع الضمير ، وعموم المتقين قام مقام الضمير الراجع من الجزاء إلى من ، ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء ، قيل نزلت في عبد الله بن سلام ونحوه من مسلمي أهل الكتاب ويجوز أن يرجع الضمير إلى من أوفى ، أي كلّ من أوفى بما عاهد الله عليه ، واتقى الله في ترك الخيانة والغدر فإنّ الله يحبه ، ونزل فيمن حرّف التوراة وبدّل نعته عليه‌السلام من اليهود وأخذ الرّشوة على ذلك.

٧٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) يستبدلون (بِعَهْدِ اللهِ) بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم (وَأَيْمانِهِمْ) وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ولننصرنّه (ثَمَناً قَلِيلاً) متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك ، وقوله بعهد الله يقوّي رجوع الضمير في بعهده إلى الله (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي لا نصيب (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) بما يسرهم (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) نظر رحمة (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ولا يثني عليهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

٧٨ ـ (وَإِنَّ مِنْهُمْ) من أهل الكتاب (لَفَرِيقاً) هم كعب بن الأشرف (١) ومالك بن الصيف (٢) وحيي بن أخطب (٣) وغيرهم (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) يفتلونها بقراءته عن (٤) الصحيح إلى المحرّف ، واللّي الفتل وهو الصرف ، والمراد تحريفهم كآية الرجم ونعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) ونحو ذلك ، والضمير في (لِتَحْسَبُوهُ) يرجع إلى ما دلّ

__________________

(١) كعب بن الأشرف الطائي ، شاعر جاهلي أدرك الإسلام ولم يسلم أكثر من هجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فأمر بقتله ، فقتله خمسة من الصحابة عام ٣ ه‍ (الأعلام ٥ / ٢٢٥).

(٢) مالك بن الصيف من منافقي اليهود.

(٣) حيي بن أخطب النضري ، جاهلي من الأشداء العتاة ، أدرك الإسلام وآذى المسلمين فأسروه يوم قريظة ثم قتلوه وذلك عام ٥ ه‍ (الأعلام ٢ / ٢٩٢).

(٤) في (ظ) على.

(٥) في (أ) و(ظ) عليه‌السلام.

٢٤٩

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٧٩)

عليه يلوون ألسنتهم بالكتاب وهو المحرّف ، ويجوز أن يراد يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه (مِنَ الْكِتابِ) أي التوراة (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) وليس هو من التوراة (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) تأكيد لقوله وما هو (١) من الكتاب وزيادة تشنيع عليهم (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنّهم كاذبون.

٧٩ ـ (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى عليه‌السلام ، وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك قال : (لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحقّ لأهله) (٢) (وَالْحُكْمَ) والحكمة وهي السّنّة ، أو فصل القضاء (وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ) عطف على يؤتيه (لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني منسوب إلى الربّ بزيادة الألف والنون وهو شديد التمسك بدين الله وطاعته ، وحين مات ابن عباس قال ابن الحنفية (٣) : مات رباني هذه الأمة. وعن الحسن ربانيين علماء فقهاء ، وقيل علماء معلمين ، وقالوا الرباني العالم العامل المعلم (٤) (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) كوفي وشامي أي غيركم ، غيرهم بالتخفيف (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي تقرأون ، والمعنى بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم كانت الربانية التي هي قوة التمسّك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه وكدّ روحه في جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل فكان كمن غرس شجرة حسناء تؤنقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ، وقيل معنى تدرسون تدرسونه على الناس كقوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) (٥) فيكون معناه معنى تدرسون من التدريس كقراءة ابن جبير (٦).

__________________

(١) في (أ) هو ، سقط وما.

(٢) نقله الواحدي في الأسباب عن الحسن البصري أن رجلا ... فذكره.

(٣) ابن الحنفية : هو محمد بن علي بن أبي طالب وهو أخو الحسن والحسين غير أن أمه خولة بنت جعفر الحنفية ينسب إليها تمييزا له عنهما ولد عام ٢١ ه‍ ومات عام ٨١ ه‍ (الأعلام ٦ / ٢٧٠).

(٤) ليست في (ز).

(٥) الإسراء ، ١٧ / ١٠٦.

(٦) ابن جبير : هو عبد الله بن جبير الهاشمي المكي ، روى الحروف عن أحمد بن محمد القواس ، وعرض على قنبل ، روى عنه الحروف إسحاق بن أحمد الخزاعي وعرض عليه أبو بكر الداجوني (غاية النهاية ١ / ٤١٢).

٢٥٠

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٨١)

٨٠ ـ (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالنصب عطفا على ثم يقول ، ووجهه أن تجعل لا مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله ما كان لبشر ، والمعنى ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ، ويأمركم (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) كما تقول ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني (١) ولا يستخف بي ، وبالرفع حجازي وأبو عمرو وعليّ على ابتداء الكلام ، والهمزة في (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) للإنكار ، والضمير في لا يأمركم وأيأمركم للبشر أو لله ، وقوله (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يدلّ على أنّ المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له.

٨١ ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) هو على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك ، أو المراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف ، واللام في (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) لام التوطئة لأنّ أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف وفي لتؤمنن لام جواب القسم ، وما يجوز أن تكون متضمنة لمعنى الشرط ، ولتؤمنن ساد مسدّ جواب القسم والشرط جميعا ، وأن تكون موصولة بمعنى للذي آتيتكموه لتؤمننّ به (ثُمَّ جاءَكُمْ) معطوف على الصلة ، والعائد منه إلى ما محذوف والتقدير ثم جاءكم به (رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) للكتاب الذي معكم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) بالرسول (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) أي الرسول وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) لما آتيتكم حمزة ، وما بمعنى الذي أو مصدرية ، أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم ، واللام للتعليل ، أي أخذ الله ميثاقهم لتؤمننّ بالرسول ولتنصرنّه لأجل أني أتيتكم الحكمة وأنّ الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف ، آتيناكم مدني (قالَ) أي الله (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) أي قبلتم عهدي ، وسمّي إصرا لأنّه مما يؤصر أي يشدّ ويعقد (قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا) فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وأنا على

__________________

(١) في (ظ) يعينني.

(٢) في (أ) و(ظ) عليه‌السلام.

٢٥١

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٨٤)

ذلكم (١) من إقراركم وتشاهدكم من الشاهدين ، وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض ، وقيل قال الله للملائكة اشهدوا.

٨٢ ـ (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق والتوكيد ونقض العهد بعد قبوله وأعرض عن الإيمان بالنبيّ الجائي (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المتمردون من الكفّار.

٨٣ ـ (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) (٢) دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة ، والمعنى فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما ، ويجوز أن يعطف على محذوف تقديرا أي تولون (٣) فغير دين الله يبغون ، وقدّم المفعول وهو غير دين الله على فعله لأنّه أهمّ من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل (٤) (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ) الملائكة (وَالْأَرْضِ) الإنس والجنّ (طَوْعاً) بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه (وَكَرْهاً) بالسيف ، أو بمعاينة العذاب كنتق (٥) الجبل على بني إسرائيل ، وإدراك الغرق فرعون والإشفاء على الموت (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) (٦) وانتصب طوعا وكرها على الحال ، أي طائعين ومكرهين (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) فيجازون (٧) على الأعمال ، يبغون ويرجعون بالياء فيهما حفص ، وبالتاء في الثاني وفتح الجيم أبو عمرو ، لأنّ الباغين هم المتولّون والراجعون جميع الناس ، وبالتاء فيهما وفتح الجيم غيرهما.

٨٤ ـ (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٨) بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان فلذا وحّد الضمير في قل وجمع في آمنا ، أو أمر بأن يتكلّم عن نفسه كما يتكلّم الملوك ، إجلالا من الله لقدر نبيّه ، وعدّي أنزل هنا بحرف

__________________

(١) في (ز) وأنا معكم على ذلك.

(٢) ليس في (ظ) و(ز) يبغون.

(٣) في (ظ) و(ز) تقديره أيتولون.

(٤) زاد في (ز) يبغون.

(٥) النتق : الزعزعة والنقض.

(٦) غافر ، ٤٠ / ٨٤.

(٧) في (ظ) فتجازون ، وفي (ز) فيجازيكم.

(٨) في (أ) عليه‌السلام.

٢٥٢

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٨٦)

الاستعلاء ، وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين ، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل (١) فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر ، وقال صاحب اللباب (٢) : الخطاب في البقرة للأمة لقوله قولوا فلم يصح إلّا إلى لأنّ الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعا ، وهنا قال قل وهو خطاب للنبي عليه‌السلام (٣) دون أمته فكان اللائق به على لأنّ الكتب منزّلة إليه (٤) لا شركة للأمة فيه ، وفيه نظر لقوله تعالى : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) (٥) (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أولاد يعقوب وكافتهم (٦) أنبياء (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ) كرر في البقرة وما أوتي ولم يكرر هنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال لما آتيتكم (مِنْ رَبِّهِمْ) من عند ربّهم (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) في الإيمان بهم (٧) كما فعلت اليهود والنصارى (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في عبادتنا.

٨٥ ـ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) يعني التوحيد وإسلام الوجه لله ، أو غير دين محمد عليه‌السلام (دِيناً) تمييز (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) من الذين وقعوا في الخسران ، ونزل في رهط أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة.

٨٦ ـ (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) والواو في (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) للحال ، وقد مضمرة ، أي كفروا وقد شهدوا أنّ الرسول أي محمدا عليه‌السلام (٨) حقّ ، أو للعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل ، لأنّ معناه بعد أن آمنوا (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الشواهد كالقرآن وسائر المعجزات (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي ما داموا مختارين الكفر ، أو لا يهديهم طريق الجنة إذا ماتوا كفارا.

__________________

(١) في (ز) الرسول.

(٢) صاحب «اللباب» : هو علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري ، أبو الحسن عز الدين ، ابن الأثير ، إمام مؤرخ له مؤلفات ولد عام ٥٥٥ ه‍ ومات عام ٦٣٠ ه‍ (الأعلام ٤ / ٣٣١).

(٣) في (ظ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) في (ز) عليه.

(٥) آل عمران ، ٣ / ٧٢.

(٦) في (ظ) و(ز) وكان فيهم.

(٧) سقطت من (ز).

(٨) ليست في (ظ) و(ز).

٢٥٣

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١)

٨٧ ـ (أُولئِكَ) مبتدأ (جَزاؤُهُمْ) مبتدأ ثان خبره (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) وهما خبر أولئك ، أو جزاؤهم بدل الاشتمال من أولئك (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

٨٨ ـ (خالِدِينَ) حال من الهاء والميم في عليهم (فِيها) في اللعنة (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

٨٩ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الكفر العظيم والارتداد (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا ، أو دخلوا في الصلاح (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لكفرهم (رَحِيمٌ) بهم.

ونزل في اليهود :

٩٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعيسى والإنجيل (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) بموسى والتوراة (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)

والقرآن ، أو كفروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك وطعنهم فيه في كلّ وقت ، أو نزل في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة. وازديادهم الكفر أن قالوا نقيم نتربّص بمحمد ريب المنون (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) أي إيمانهم عند البأس لأنّهم لا يتوبون إلا عند الموت قال الله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (٣) (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ).

٩١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ) الفاء في فلن يقبل يؤذن بأنّ الكلام بني على الشرط والجزاء ، وأنّ سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وترك الفاء فيما تقدّم يشعر بأنّ الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب (ذَهَباً) تمييز (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) أي فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا قال عليه‌السلام : (يقال للكافر يوم القيامة لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به ، فيقول نعم ، فيقال له لقد سئلت أيسر من ذلك) (٤) قيل

__________________

(١ و ٢) ليست في (أ) و(ظ).

(٣) غافر ، ٤٠ / ٨٥.

(٤) رواه أحمد من حديث أنس بن مالك.

٢٥٤

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٣)

الواو لتأكيد النفي (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) معينين دافعين للعذاب.

٩٢ ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) لن تبلغوا حقيقة البرّ ولن (١) تكونوا أبرارا ، أو لن تنالوا برّ الله وهو ثوابه (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها ، وعن الحسن رحمه‌الله (٢) : كلّ من تصدّق ابتغاء وجه الله بما يحبه ولو تمرة فهو داخل في هذه الآية ، قال الواسطي (٣) : الوصول إلى البرّ بإنفاق بعض المحابّ وإلى الربّ بالتخلي عن الكونين ، وقال أبو بكر الورّاق (٤) : لن تنالوا برّي بكم إلا ببرّكم بإخوانكم ، والحاصل أنّه لا وصول إلى المطلوب إلا بإخراج المحبوب ، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدال السكر ويتصدق بها ، فقيل له : لم لا تتصدق بثمنها؟ قال : لأنّ السكّر أحبّ إليّ فأردت أن أنفق مما أحب ، (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي هو عليم بكلّ شيء تنفقونه فمجازيكم (٥) بحسبه ، ومن الأولى للتبعيض لقراءة عبد الله حتى تنفقوا بعض ما تحبون ، والثانية للتبيين أي من أي شيء كان الإنفاق طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه.

ولما قال (٦) اليهود للنبي عليه‌السلام إنّك تدّعي أنّك على ملّة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ، فقال عليه‌السلام : (كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله) (٧) فقالت اليهود إنّها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليه‌السلام نزل تكذيبا لهم.

٩٣ ـ (كُلُّ الطَّعامِ) أي المطعومات التي فيها النزاع فإنّ منها ما هو حرام قبل

__________________

(١) في (ز) أو لن.

(٢) ليست في (ظ) و(ز).

(٣) الواسطي : هو محمد بن زيد بن علي بن الحسين الواسطي ، أبو عبد الله ، من كبار علماء الكلام ، معتزلي ، توفي عام ٣٠٧ ه‍ وله مؤلفات (الأعلام ٦ / ١٣٢).

(٤) أبو بكر الوراق : هو محمد بن عمر الوراق البلخي ، أبو بكر ، له الكتب في المعاملات ، أسند عنه الحديث أبو بكر بن أحمد بن سعيد وأحمد بن مزاحم وغيلان السمرقندي ومحمد بن محمد بن حاتم وغيرهم (الحلية ١٠ / ٢٣٥).

(٥) في (ظ) و(ز) فيجازيكم.

(٦) في (ظ) و(ز) قالت.

(٧) ذكره البغوي والخازن وليس فيه : (فنحن نحله).

٢٥٥

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩٥)

ذلك كالميتة والدّم (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي حلالا ، وهو مصدر ، يقال حلّ الشيء حلّا ولذا استوى في وصفه (١) المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، قال الله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) (٢) (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) أي يعقوب (عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) وبالتخفيف مكي وبصري ، وهو لحوم الإبل وألبانها وكانا أحبّ الطعام إليه ، بمعنى (٣) أنّ المطاعم كلّها لم تزل حلالا (٤) لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة سوى ما حرّم إسرائيل على نفسه ، فلما نزلت التوراة على موسى حرّم عليهم فيها لحوم الإبل وألبانها لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أمر بأن يحاجّهم بكتابهم ويبكّتهم بما هو ناطق به من أنّ تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم كما يدّعونه فلم يجسروا (٥) على إخراج التوراة وبهتوا ، وفيه دليل بيّن على صدق النبي عليه‌السلام وعلى جواز النّسخ الذي ينكرونه.

٩٤ ـ (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بزعمه أنّ ذلك كان محرما في ملّة إبراهيم ونوح عليه‌السلام (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) من بعد ما لزمهم من الحجّة القاطعة (٦) (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات.

٩٥ ـ (قُلْ صَدَقَ اللهُ) في إخباره أنّه لم يحرم ، وفيه تعريض لكذبهم (٧) أي ثبت أنّ الله تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) وهي ملّة الإسلام التي عليها محمد عليه‌السلام ومن آمن معه ، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم ، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلّها الله لإبراهيم ولمن تبعه (حَنِيفاً) حال من إبراهيم ، أي مائلا عن الأديان الباطلة (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

ولما قالت اليهود للمسلمين قبلتنا قبل قبلتكم نزل :

__________________

(١) في (ز) في صفة.

(٢) الممتحنة ، ٦٠ / ١٠.

(٣) في (ظ) و(ز) والمعنى.

(٤) في (ظ) و(ز) حلّا.

(٥) في (ز) يجرؤا.

(٦) في (ظ) الناطقة.

(٧) في (ز) بكذبهم.

٢٥٦

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧)

٩٦ ـ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) والواضع هو الله عزوجل ، ومعنى وضع الله بيتا للناس أنّه جعله متعبّدا لهم ، فكأنّه قال إنّ أوّل متعبد للناس الكعبة ، وفي الحديث (١) أنّ المسجد الحرام وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة ، قيل أول من بناه إبراهيم ، وقيل هو أول بيت حجّ بعد الطوفان ، وقيل هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، وقيل هو أول بيت بناه آدم عليه‌السلام في الأرض ، وقوله وضع للناس في موضع جر صفة لبيت والخبر (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي للبيت الذي ببكة ، وهي علم للبلد الحرام ، ومكة وبكة لغتان فيه ، وقيل مكة البلد وبكة موضع المسجد ، وقيل اشتقاقها من بكّة إذا زحمه لازدحام الناس فيها ، أو لأنّها تبكّ أعناق الجبابرة أي تدقّها ، لم يقصدها جبار إلا قصمه الله (مُبارَكاً) كثير الخير لما يحصل للحاج والمعتمر (٢) من الثواب وتكفير السيئات (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) لأنّه قبلتهم ومتعبّدهم ، ومباركا وهدى حالان من الضمير في وضع.

٩٧ ـ (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) علامات واضحات لا يلتبس (٣) على أحد (مَقامُ إِبْراهِيمَ) عطف بيان لقوله (آياتٌ بَيِّناتٌ) ، وصحّ بيان الجماعة بالواحد لأنّه وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوّة إبراهيم عليه‌السلام من تأثير قدمه في حجر صلد ، أو لاشتماله على آيات لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم‌السلام آية لإبراهيم خاصة على أن (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) عطف بيان لآيات وإن كان جملة ابتدائية أو شرطية من حيث المعنى لأنّه يدل على أمن داخله ، فكأنّه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم (٤) وأمن داخله ، والاثنان في معنى الجمع ، ويجوز أن يذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنّه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله وكثير سواهما ، نحو انمحاق الأحجار مع كثرة الرّماة وامتناع الطير من العلو عليه وغير ذلك ، ونحوه في طي الذكر قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) متفق عليه من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(٢) في (ز) للحجاج والمعتمرين.

(٣) في (ظ) و(ز) تلتبس.

(٤) في (ز) لإبراهيم.

٢٥٧

(حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة) (١) فقرة عيني ليس من الثلاث بل هو ابتداء كلام ، لأنّها ليست من الدنيا ، والثالث مطوي وكأنّه عليه‌السلام ترك ذكر الثالث تنبيها على أنّه لم يكن من شأنه أن يذكر شيئا من الدنيا فذكر شيئا هو من الدّين ، وقيل في سبب هذا الأثر أنّه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عليه‌السلام عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه ، وقيل إنّه جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل عليه‌السلام : انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شقّ رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشقّ الآخر ، فبقي أثر قدميه عليه ، وأمان من دخله بدعوة إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (٢) وكان الرجل لو جنى كلّ جناية ثم التجأ إلى الحرم لم يطلب ، وعن عمر رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه ، ومن لزمه القتل في الحلّ بقود أو ردة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنّه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج ، وقيل آمنا من النار لقوله عليه‌السلام : (من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا من النار) (٣) وعنه عليه‌السلام : (الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة) (٤) وهما مقبرتا مكة والمدينة وعنه عليه‌السلام : (من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام) (٥) (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) أي استقرّ له عليهم فرض الحج ، حجّ البيت كوفي غير أبي بكر وهو اسم ، وبالفتح مصدر ، وقيل هما لغتان في مصدر حجّ (مَنْ) في موضع جر على أنّه بدل البعض من الكلّ (اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فسّرها النبي عليه‌السلام بالزاد والراحلة ، والضمير في إليه للبيت أو للحجّ ، وكلّ مأتى إلى الشيء فهو سبيل إليه ، ولما نزل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الأديان كلّهم فخطبهم فقال : (إنّ الله تعالى كتب عليكم الحجّ فحجوا) فآمنت به ملّة واحدة وهم المسلمون وكفرت به

__________________

(١) أخرجه النسائي ورواه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة وابن سعد والبزار وأبو يعلى وابن عدي ، وضعفه العقيلي والدارقطني جميعهم من طرق وفيه كلام.

(٢) البقرة ، ٢ / ١٢٦.

(٣) رواه البيهقي في الشعب وأبو داود الطيالسي وعبد الرزاق والطبراني وابن عدي وفيه ضعف ، وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات : وفي (ظ) في إحدى.

(٤) قال ابن حجر : لم أجده.

(٥) ذكره الأزرقي في تاريخ مكة بغير إسناد ، وأخرجه العقيلي في الضعفاء.

٢٥٨

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٩)

خمس ملل ، قالوا لا نؤمن به ولا نصلي إليه (١) ولا نحجّه فنزل (وَمَنْ كَفَرَ) (٢) أي جحد فرضية الحجّ ، وهو قول ابن عباس والحسن وعطاء ، ويجوز أن يكون من الكفران أي ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم وسعة الرزق ولم يحج (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) مستغن عنهم وعن طاعتهم ، وفي هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد ، منها اللّام وعلى ، أي أنّه حقّ واجب لله في رقاب الناس ، ومنها الإبدال ففيه تثنية للمراد وتكرير له ، ولأنّ الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ، ومنها قوله ومن كفر مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك (٣) الحج ، ومنها ذكر الاستغناء وذلك دليل على المقت والسخط ، ومنها قوله عن العالمين وإن لم يقل عنه ، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنّه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنّه يدلّ على الاستغناء الكامل فكان أدلّ (٤) على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه.

٩٨ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) الواو للحال ، والمعنى لم تكفرون بآيات الله الدّالة على صدق محمد عليه‌السلام (٥) ، والحال أنّ الله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها.

٩٩ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ) الصدّ المنع (عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) عن دين حقّ علم أنّه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام ، وكانوا يمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ، ومحل (تَبْغُونَها) تطلبون لها نصب على الحال (عِوَجاً) اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة بتغييركم صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) عن وجهها ونحو ذلك (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أنّها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلّا ضال مضل (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الصدّ عن سبيله وهو وعيد شديد.

ثم نهى المؤمنين عن اتّباع هؤلاء الصّادين عن سبيله بقوله :

__________________

(١) ليس في (ظ) إليه.

(٢) أخرجه ابن جرير من طريق جبير عن الضحاك ، وهو معضل ، وجبير متروك الحديث ، قاله ابن حجر.

(٣) في (ز) تاركي.

(٤) في (ظ) أوّل وهو خطأ من الناسخ.

(٥) ليس في (أ) عليه‌السلام.

(٦) ليست في (أ).

٢٥٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢)

١٠٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) قيل مرّ شاس بن قيس اليهودي على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون ، فغاظه تحدثهم وتألفهم ، فأمر شابا من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلّهم يغضبون ، وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ففعل ، فتنازع القوم عند ذلك ، وقالوا السلاح السلاح ، فبلغ النبي عليه‌السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال : (أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألّف بينكم) (١) فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا باكين ، فنزلت الآية :

١٠١ ـ (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجب أي من أين يتطرق إليكم الكفر (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) والحال أنّ آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) وبين أظهركم رسول الله عليه‌السلام (٢) ينبهكم ويعظكم ويزيح عنكم شبهكم (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) ومن يتمسك بدينه أو بكتابه ، أو هو حثّ لهم على الالتجاء إليه لدفع (٣) شرور الكفار ومكايدهم (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أرشد إلى الدّين الحقّ ، أو ومن يجعل ربّه ملجأ ومفزعا عند الشّبه يحفظه عن الشّبه.

١٠٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) واجب تقواه ، وما يحق منها ، وهو القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم ، وعن عبد الله (٤) : هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى ، أو هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو بنيه أو أبيه ، وقيل : لا يتقي الله عبد حقّ تقاته حتى يحزن لسانه ، والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت.

__________________

(١) أخرجه الطبري عن زيد بن أسلم ، وابن إسحاق في المغازي وذكره الثعلبي ، والواحدي في أسبابه عن زيد بن أسلم بغير إسناد.

(٢) ليست في (أ) و(ظ).

(٣) في (ظ) و(ز) في دفع.

(٤) هو عبد الله بن مسعود.

٢٦٠