عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٣٤

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧))

ثم قال الله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [٩٧] من الاستهزاء والتكذيب والطعن بك بالقرآن.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨))

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي صل حامدا ربك ولا تشغل قلبك بهم أو قل سبحانك والحمد لله أو تضرع إليه في الشدائد (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [٩٨] أي المصلين المتواضعين يكشف عنك الغم ، قيل : كان رسول الله عليه‌السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلوة (١).

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [٩٩] أي استقم على التوحيد وكل ما أمرت من العبادة حتى يحضرك الموت الموقن وهذا كقول عيسي (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٢) ، قال عليه‌السلام : «ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» (٣).

__________________

(١) روى أحمد بن حنبل حديثا في هذا الموضوع ، ٥ / ٣٨٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤١٥.

(٢) مريم (١٩) ، ٣١.

(٣) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٢٦ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤١٦. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

٣٠١

سورة النحل

مكية إلا (وَإِنْ عاقَبْتُمْ)(١) إلى آخر السورة (٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١))

(أَتى أَمْرُ اللهِ) أي جاء وقرب عذابه ، لأن ما هو آت قريب وهو وعيد للمشركين بيوم القيامة.

نزل حين كانوا يستبطئون نزول العذاب بعد قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)(٣) ، فانهم قالوا بعضهم لبعض : إن محمدا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض أعمالكم من التكذيب والاستهزاء والكيد حتى ننظر ما هو كائن ، فلما لم ينزل قالوا : ما نرى شيئا فنزل قوله (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ)(٤) ، فأشفقوا منه فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فأنزل الله أتى أمر الله فوثب النبي عليه‌السلام ، ورفع الناس رؤوسهم وظنوا أنه أتى حقيقة فنزل (٥)(فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي لا تطلبوا أمر الله قبل حينه ، والاستعجال طلب الشيء قبل أوانه فاطمأنوا ، وقيل : المراد من أمر الله العذاب بالسيف والمستعجل به النضر بن الحارث حيث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فقتل يوم بدر صبرا (٦) ، ولما استهزؤا النبي عليه‌السلام باستعجال العذاب ولم يأتهم جعلوا أصنامهم شركاء لله في العبادة ، فنزه تعالى نفسه عن الشرك بقوله (سُبْحانَهُ وَتَعالى) عن ما (يُشْرِكُونَ) [١] بالياء والتاء (٧) ، أي تعاظم وتنزه عن إشراك معبوديهم بصفاته الحميدة أو عن الذي يشركون به من الأوثان ، ف «ما» مصدرية أو موصولة ، ولما كان شركهم من جهلهم وموت قلوبهم أراد أن يعلمهم أن العبادة لا يكون إلا بالوحي الموجب لحيوة القلب ورفع الجهل بقوله.

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣))

(يُنَزِّلُ) بضم الياء وكسر الزاء مخففا ومشددا (٨) ، والفاعل الله والمفعول (الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) أي بالوحي ، لأنه

__________________

(١) النحل (١٦) ، ١٢٦.

(٢) إلا وإن عاقبتم إلى آخر السورة ، ب م : ـ س.

(٣) القمر (٥٤) ، ١.

(٤) الأنبياء (٢١) ، ١.

(٥) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٤١٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٢٧ (عن ابن عباس) ؛ والواحدي ، ٢٣٤ (عن ابن عباس).

(٦) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٤١٧.

(٧) «يشركون» : قرأ الأخوان وخلف بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٧٨.

(٨) «ينزل» : قرأ المكي والبصري ورويس بالتخفيف ، وقرأ روح بتاء مثناه مفتوحة ونون مفتوحة وزاي مفتوحة مشددة ورفع «الملائكة» ، والباقون بالتشديد وكلهم ينصبون تاء «الملائكة» إلا روحا فيرفعها. البدور الزاهرة ، ١٧٨.

٣٠٢

سبب حيوة القلب أو بالنبوة أو بالرحمة أو بجبرائيل ، فالباء بمعنى مع (مِنْ أَمْرِهِ) أي بأمره وإرادته (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) من الأنبياء ، ومحل (أَنْ أَنْذِرُوا) جر بدل من «الروح» ، ف (أَنْ) مصدرية ، أي ينزلهم بأن أنذروا أو بأنه أنذروا ، فالضمير للشأن و (أَنْ) مخففة من الثقيلة ، ويجوز أن يكون مفسرة ، لأن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول ، أي يقول الله لهم أعلموا الناس (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) [٢] أي خافوني ولا تشركوا بي شيئا من نذرت بكذا إذا علمته ، ثم دل على واحدانيته بخلق ما يعجز عنه غيره فقال (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي للحق وهو أن ينظر إليه ويعتبر فيوحد ولا يشرك به (تَعالى) أي ارتفع وتعاظم (عن ما (يُشْرِكُونَ) [٣] به من الأصنام وغيرها.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥))

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) أي من ماء الرجال الذي لا حس به ولا حركة دلالة على قدرته (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) أي جدل بالباطل (مُبِينٌ) [٤] أي ظاهر الجدال وجاء بالفاء ، و «إذا» للمفاجأة إشارة إلى سرعة نسيانهم ابتداء خلقهم مع ظهور المذكر ، نزل في شأن أبي بن خلف الجحمى وكان ينكر البعث جاء بعظم رميم وجعل يفته بيده فقال يا محمد : أتقول إن الله يحيي هذا بعد ما رم؟ والصحيح أن الآية عامة لبيان القدرة وكشف قبيح ما فعلوا من جحد نعم الله مع ظهورها عليهم (١) قوله (وَالْأَنْعامَ) نصب بمضمر يفسره (خَلَقَها) أي الله خلق الأنعام الإبل والبقر والغنم (لَكُمْ) أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان (فِيها دِفْءٌ) وهو ما يستدفأ به ، أي يستمتع به من الحر والبرد كالأكسية والأردية والأخبية (وَمَنافِعُ) بالنسل ودر اللبن وركوب الظهر وحمل الأثقال (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [٥] أي من لحومها بالذبح ، وقيد الأكل من الأنعام ، لأنه هو المعتمد وإن أكل غيره كالبط والدجاج فللتفكه والتداوى.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦))

(وَلَكُمْ فِيها) أي في الأنعام (جَمالٌ) أي زينة وحسن المنظر (حِينَ تُرِيحُونَ) أي ترجعونها بالعشي من مراعيها إلى مراحها (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [٦] أي تخرجونها بالغدوة إلى مسارحها وقدم الرواح ، لأن المنافع تؤخذ منها بعد الرواح ويكون مالكها أعجب بها إذا راحت (٢) من مسارحها إلى مراحها ، لأنها أكثر لبنا وأحسن خلقا.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) أي أحمالهم وزادهم (إِلى بَلَدٍ) آخر (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) أي واصليه (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي بمشقتها ، والشق النصف أيضا ، فكأن الجهد ذهب بنصف القوة ، يعني لم تكونوا واصلين إليه إلا بنقصان قوة النفس وذهاب نصفها (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ) بكم بخلق هذه الحوامل تيسيرا لمصالحكم (رَحِيمٌ) [٧] بكم حيث لم يعجل بعقابكم بترك شكر نعمه.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨))

(وَالْخَيْلَ) عطف على الأنعام ، أي وخلق الخيل وهي اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء (٣)(وَ) خلق (الْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) نصبه مفعول له ، أي وللزينة عطفا على محل (لِتَرْكَبُوها) ، وإنما خولف بينهما في النظم ، لأن الركوب فعل المخلوق المخاطب والزينة فعل الخالق أو وجعلها زينة لكم مع المنافع التي فيها واحتج بهذه الآية من حرم لحوم الخيل ، وهو أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما ، لأنه علل هذه الأصناف

__________________

(١) نقله عن البغوي ، ٣ / ٤١٨ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٣٤.

(٢) راحت ، ب س : رحبت ، م.

(٣) والنساء ، س م : والإنسان ، ب.

٣٠٣

الثلاثة بالركوب والزينة ولم يذكر الأكل منها بخلاف الأنعام ، فانها خلقت للركوب والأكل كما قال ومنها تأكلون ، والشافعي وأحمد وإسحق أباحوا لحوم الخيل ، وقالوا ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم ، بل المراد منه تعريف الله تعالى عباده نعمه وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، واحتجوا بما قال جابر : «نهى النبي عليه‌السلام يوم خيبر لحوم الحمر ، ورخص في لحوم الخيل» (١) ، وروي عن أسماء أنها قالت : «نحرنا على عهد رسول الله عليه‌السلام فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه» (٢)(وَيَخْلُقُ) الله سواها (ما لا تَعْلَمُونَ) [٨] وهو ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ، ويمن علينا بذكره مع الدلالة على قدرته أو الملائكة والجن وغيرهما من الخلق أو ما أعد في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها ما لم تره عين ولم تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر ، وقيل : «ما لا تعلمون كيف يخلقه وهو السوس في النبات والدود في الفواكه» (٣).

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي بيان الطريق الموصل إلى الحق بالآيات والبراهين كقوله تعالى (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى)(٤) ، معناه : علينا بيان طريق الهدى والضلال واجب لطفا وكرما ، فان كلمة (عَلَى) محمولة على وجوب الكرم هنا عند أهل السنة ، إذ العقل يأبى وجوب شيء على الله تعالى (٥) ، و (عَلَى) فيه يدل وجوب الكرم ، ولذا لم يقل وعليه جائرها (٦) ، وقيل : القصد من السبيل دين الإسلام وما فيه من الشرائع والأحكام (٧)(وَمِنْها جائِرٌ) أي ومن السبيل ما هو مائل عن الاستقامة بارادته تعالى دون رضاه وهو سبيل الشيطان والبدع والأهواء ، يقال جار فلان عن القصد إذا مال عن الجادة بسوء اختياره ، وقيل : اليهودية والنصرانية وسائر أديان الكفر (٨) لقوله تعالى (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(٩) ، المعنى : أن السبيل بعضه سبيل القصد الذي يؤدي إلى رضا الله وثوابه ، وبعضه سبيل الجور الذي يعدل عنه إلى سخط الله وعقابه ، وكلاهما بمشية الله تعالى ، فبهذا المعنى يناسب الكلامان في الأسلوب ، فاندفع به قول من قال كان أسلوب الكلام أن يقول وعليه جائرها مكان قوله «ومنها جائر» ، وإنما غيره ليعلم بما لا يجوز إضافته إليه من السبيلين وهو الجائر ، وهذا القول لأهل الاعتزال (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [٩] أي ولو شاء مشية قسر في هداية الخلق لأرشدهم إلى صلاحكم أجمعين بأن ينزل آية يلجؤكم إلى الإيمان.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠))

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) أي ما تشربون من الماء المنزل ويشرب أنعامكم (وَمِنْهُ شَجَرٌ) أي ومن ذلك الماء حصول نباتكم والعرب تطلق الشجر على النبات ، ومنه حديث عكرمة : «لا تأكلوا ثمن الشجر فانه سحت» (١٠) ، أراد منه النبات ، وذلك قبل الإحراز وثبوت الملك (١١)(فِيهِ تُسِيمُونَ) [١٠] أي في الشجر ترعون مواشيكم ، يقال سامت الماشية إذا رعت.

(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١))

(يُنْبِتُ) بالنون والياء (١٢) ، أي الله يرفع من الأرض (لَكُمْ بِهِ) أي بالماء أنزله (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ

__________________

(١) انظر البغوي ، ٣ / ٤١٩.

(٢) انظر القرطبي ، ١٠ / ٧٧.

(٣) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٤١٩.

(٤) الليل (٩٢) ، ١٢.

(٥) معناه علينا بيان طريق الهدى والضلال واجب ... العقل يأبى وجوب شيء على الله تعالى ، ب س : ـ م.

(٦) وعلى فيه يدل وجوب الكرم ولذا لم يقل وعليه جائرها ، ب م : ـ س.

(٧) اختصره من البغوي ، ٣ / ٤٢٠.

(٨) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٢٠.

(٩) الأنعام (٦) ، ١٥٣.

(١٠) انظر الكشاف ، ٣ / ١٤٣.

(١١) وذلك قبل الإحراز وثبوت الملك ، ب س : ـ م.

(١٢) «ينبت» : قرأ شعبة بالنون مكان الياء التحتية ، وغيره بالياء. البدور الزاهرة ، ١٧٨.

٣٠٤

وَالْأَعْنابَ) أي الكروم (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ومن ألوانها ، (مِنْ) فيه تبعيض ، لأن كل الثمرات لا تكون إلا (١) في الجنة وإنما أنبت (٢) في الأرض بعض من كلها للتذكرة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في نزول الماء من السماء وخروج النبات من الأرض بسببه (لَآيَةً) أي لعبرة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [١١] فيستدلون بها على قدرته وحكمته.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢))

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي ذللهما لمعاشكم واستراحتكم (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) بنصب الثلثة ، أي وذلل الكل لكم لتعلموا عدد السنين والحساب بالشمس والقمر وتهتدوا في طرقهم بالنجوم ، وبنصب (مُسَخَّراتٌ) أي ونفعكم بها حال كونها مذللات لما خلقن له (بِأَمْرِهِ) أي باذنه وبرفع الكل على الابتداء والخبر وبرفع (النُّجُومُ) و (مُسَخَّراتٌ) كذكل دون غيرهما (٣)(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في تسخير المذكورات (لَآياتٍ) أي لدلالات واضحات (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [١٢] أي يفهمون بذهن الإنسانية.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣))

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ) أي وسخر لكم ما خلق لأجلكم (فِي الْأَرْضِ) من الدواب والأشجار والثمار وغيرها (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) نصب على الحال من (ما ذَرَأَ) المفعول (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في اختلاف ألوانه (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [١٣] أي يتعظون فيؤمنون.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤))

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) أي ذلل لكم البحر العذب والملح (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) أي سمكا غضا ، وإطلاق اللحم عليه على خلاف العادة ، لأن من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث ، لأن مبنى الإيمان على العادة (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ) أي من البحر (٤) الملح (حِلْيَةً) أي اللؤلؤ والمرجان (تَلْبَسُونَها) أي تتزينون بها ، والمراد تزين النساء بها لأجل الرجال فكأنها زينتهم ، وفيه دليل على أن اللؤلؤ والمرجان من الحلي (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ) أي جواري (فِيهِ) أي في البحر مقبلة ومدبرة بريح واحدة ، والمخر (٥) الشق لأنها إذا جرت تشق الماء بصدرها ، وفي الحديث : «إذا أراد أحدكم البول فليمتخر الريح» (٦) ، أي فليستدبرها حتى لا ترد عليه البول ، قوله (وَلِتَبْتَغُوا) عطف على مقدر ، أي لتركبوها ولتطلبوا (مِنْ فَضْلِهِ) أي من رزقه بالتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [١٤] أي لكي تشكروا إذا رأيتم صنع الله فيما سخر لكم.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

(وَأَلْقى) أي وضع لله (فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ) أي لئلا تميل بحذف «لا» وإرادة ثبوتها أو كراهة أن تميل (بِكُمْ) من ماد إذا مال واضطرب ، قيل : «لما خلق الله الأرض جعلت تميل ، فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحوا وقد أرسيت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت

__________________

(١) لا تكون إلا ، س : ـ ب م.

(٢) وإنما أنبت ، ب س : وإنما أنبتت ، م.

(٣) «والشمس والقمر والنجوم مسخرات» : قرأ ابن عامر برفع آخر الأسماء الأربعة وحفص بنصب «والشمس والقمر» وبرفع «والنجوم مسخرات» ، والباقون بنصب «آخر» الأربعة ولا يخفى أن نصب «مسخرات» يكون بالكسرة لكونه جمعا بألف وتاء. البدور الزاهرة ، ١٧٨.

(٤) البحر ، ب س : ـ م.

(٥) والمخر ، ب س : المجر ، م.

(٦) انظر البغوي ، ٣ / ٤٢١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

٣٠٥

الجبال» (١)(وَأَنْهاراً وَسُبُلاً) أي وجعل في الأرض لكم أنهارا وطرقا مختلفة (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [١٥] أي تصلون إلى ما تريدون (وَعَلاماتٍ) أي وجعل في الأرض معالم للطريق من الجبال والأشجار والمياه لتهتدوا وتعرفوا بها طرقكم في حال السفر (٢)(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [١٦] فيه أورد بضمير الغيبة بعد الخطاب مع تقديم «النجم» على (هُمْ) للاختصار ، وأراد به قريشا كأن لهم اهتداء بالنجوم في أسفارهم ، يعني أن لهم بذلك علما لم يكن مثله لغيرهم فكأن الشكر أوجب عليهم ، فلذلك خصصوا (٣) بالذكر في الاهتداء بالنجم ، والمراد ب «النجم» الجنس لا العهد كما قيل من أن المراد به الثريا والجدي وبنات نعش والفرقدان لما فيه من التحكم (٤).

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧))

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ) أي أأنتم تشركون الله غيره في العبادة والاحترام (٥) ، فمن يخلق ، أي الله القادر (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) أي الأصنام العجزة ، و «من» للعقلاء ، لأن آلهتهم أجريت مجرى العقلاء لتسميتهم آلهة ، قيل (٦) : أصل النظم أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ لأنهم سموا الأصنام آلهة تشبيها بالله ، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق كالحجارة ، أجيب بأنهم لما سووا بينه وبينها في العبادة ، فكأنهم جعلوا الله جنس المخلوقات ، فأنكر عليهم ذلك بقوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)(٧) ، أي لا يشبه القادر بغير القادر (٨)(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [١٧] أي أفلا تتعظون في صنعه ، فتعلموا أنه واحد لا شريك له فتؤمنوا به وتعبدوه ولا تشركوا به شيئا منها.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨))

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي لا تضبطوا عددها فكيف تطيقون القيام بشكرها (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) لتقصيركم في شكر نعمه (رَحِيمٌ) [١٨] بكم حيث وسع عليكم النعم ولم يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) أي ما تضمرون في قلوبكم (وَما تُعْلِنُونَ) [١٩] أي وما تجهرون بالقول.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠))

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) بالتاء والياء (٩) ، أي يعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [٢٠] لأنهم ينحتون من الأحجار وغيرها.

(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))

قوله (أَمْواتٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هم ميتون لا روح فيهم ، يعني الأصنام ولم يقل مواتا ، لأنهم صوروا على شكل ذي الروح (غَيْرُ أَحْياءٍ) صفة (أَمْواتٌ) للتأكيد ، يعني ليسوا من الأموات التي يخلقون أو يعقلون شيئا كالنطق بل هي جمادات لا يعقب موتها حيوة كالحجارة (وَما يَشْعُرُونَ) أي لا يعلم الأصنام التي سميتموها آلهة (أَيَّانَ) أي في أي وقت (يُبْعَثُونَ) [٢١] إحياء ، وهذا تهكم بحالهم ، لأن شعور الجماد محال ، قيل : دل القرآن على أن الأصنام تبعث وتجعل فيها الحيوة فتتبرأ من عابديها (١٠) ، وقيل معناه : ما يدري الكفار عبدة الأصنام متي تبعثون؟ (١١) وقيل : ما يدري آلهتهم متي يبعث عابدوهم؟ وفيه تهكم للمشركين ، لأن من

__________________

(١) عن وهب ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٢١.

(٢) قوله ، + م.

(٣) خصصوا ، ب س : خصص ، م.

(٤) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٢١.

(٥) والاحترام ، ب : ـ س م.

(٦) قيل ، ب : ـ س م.

(٧) أصل النظم أن يقال ... أفمن لا يخلق كمن لا يخلق ، ب س : ـ م.

(٨) أي لا يشبه القادر بغير القادر ، ب : يعني أن القادر لا يشبه غير القادر ، س ، ـ م.

(٩) «يدعون» : قرأ يعقوب بالياء التحتية ، والباقون بالتاء الفوقية. البدور الزاهرة ، ١٧٨.

(١٠) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٢٢.

(١١) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٤٢٢.

٣٠٦

كان إلها ينبغي أن يعلم وقت بعث عابديه للجزاء ، لأنه من لوازم التكليف (١).

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢))

ثم أشار إلى نفي ألوهية الأصنام ، وأعلمهم أن الإله الحقيقي من هو؟ فقال (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي رب واحد لا شريك له ، فاعبدوه ولا تعبدوا غيره ، لأنه يجازيكم في الآخرة (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) أي جاحدة للوحدانية أو خبيثة لا يدخل في المعرفة (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [٢٢] أي مستعظمون عن الإيمان.

(لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

(لا جَرَمَ) أي حقا أو لا بد (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وهو وعيد لهم من المكر والتكذيب في أمر محمد عليه‌السلام (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) [٢٣] أي المتعظمين عن الإيمان ، ويجوز أن يكون عاما في كل مستكبر ، قال عليه‌السلام : «لا يدخل الجنة مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (٢) ، وهو أدنى شيء من يقين حمله على ذكر الله تعالى يوما عمن كان له (٣) إخلاص أو زجره عن محظور مخافة الله.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لمشركي مكة الذين اقتسموا عقابها ، أي مداخل مكة إذا سألهم الحجاج من المسلمين (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) أي أي شيء أنزله الله على محمد عليه‌السلام ، ف (ما ذا) منصوب ب (أَنْزَلَ) ، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء بمعنى أن شيء أنزله ربكم بتقدير الضمير (قالُوا) أي كفار مكة سخرية في جوابهم المنزل (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [٢٤] أي أحاديثهم الباطلة إضلالا للناس وصدا (٤) عن رسول الله فحملوا أوزار ضلالهم على الكمال.

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))

فقوله (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) علة لقولهم من غير أن يكون عرضا ، أي قالوا ذلك ليحملوا ذنوب أنفسهم تامة يوم الجزاء ، وإنما ذكر الكمال ، لأن أعمالهم الحسنة في الدنيا والبلايا التي تلحقهم (٥) فيها لا تكفر عنهم شيئا كما تكفر الحسنات من المؤمنين أوزارهم من الصلوة إلى الصلوة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج ، وتكفر بالشدائد والمصائب أيضا في الدنيا ، قوله (وَمِنْ أَوْزارِ) عطف على (أَوْزارَهُمْ) ، أي وليحملوا من ذنوب (الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) عن الهدي (بِغَيْرِ عِلْمٍ) نصب على الحال من مفعول (يُضِلُّونَهُمْ) ، أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال بغير حجة وإنما حملوا أوزار من اتبعوهم ، لأنهم دعوهم إلى الضلالة فاتبعوهم بغير عذر فاشتركا في إثم الضلالة ، فحملوا جميع آثامهم وبعض آثام متبعيهم دون البعض ، لأن المضل والضال شريكان ، هذا أضله وهذا أطاعه على إضلاله فيتحاملان الوزر ، ف (مِنْ) للتبعيض ، ويجوز أن يكون زائدة على مذهب الأخفش فيحملون الكل منهم ، والمراد مثل أوزارهم ، قال عليه‌السلام : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» (٦)(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) [٢٥] أي تنبهوا بئس ما يحملون من الذنوب التي لا تغفر.

__________________

(١) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٣ / ١٤٥.

(٢) روى مسلم نحوه ، الإيمان ، ١٤٧ ـ ١٤٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٢٣.

(٣) من كان له ، م : ـ ب س.

(٤) وصدا ، ب م : وصدوا ، س.

(٥) تلحقهم ، ب م : يلحقهم ، س.

(٦) أخرجه الترمذي ، العلم ، ١٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٢٣.

٣٠٧

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦))

ثم هددهم بصنع من تقدمهم (١) من الكفار فأهلكهم الله بسببه فقال (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قد صنع كيد الذين (٢) من قبل المقتسمين ، فأبطل الله كيدهم ، قيل : منهم نمرود بن كنعان حيث بنى قصرا عاليا في غاية الحصانة ببابل ليصعد إلى السماء ليقاتل على من في السماء بزعمه ، وكان طوله خمسة آلاف ذراع وعرضه ثلثلة آلاف ذراع وكان لسان الناس يومئذ بالسريانية ، فأهب الله تعالى الريح عليه ، فألقت رأسه في البحر ، وخر عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلثة وسبعين لسانا بحيث لم يفهم أحد منهم لسان آخر فتعطل قصره من الإعادة ، ولذلك سميت تلك البقعة ببابل (٣) ، فذلك قوله تعالى (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) أي قصد أمره تخريب بنائهم (مِنَ الْقَواعِدِ) أي من أساطين البناء التي تعمده وتقويه أو من أصوله وأساسه (فَخَرَّ) أي سقط (عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) أي أعلاه (مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [٢٦] بمجيئه ، وقيل : من مأمنهم (٤).

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) الله ، أي يهينهم بالعذاب ولم يكن ما أصابهم في الدنيا من العذاب كفارة لذنوبهم (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ) بكسر النون ، أي تشاقونني ، وبفتح النون (٥) ، لأنها نون الجمع ، أي تخاصمون (فِيهِمْ) أي شأنهم وتخالفون المؤمنين بسببهم وعبادتهم ما لهم لا يحضرونكم فيدفعوا عنكم العذاب (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي يقول الأنبياء أو العلماء الناصحون أو الملائكة شماتة (إِنَّ الْخِزْيَ) أي الهوان (الْيَوْمَ وَالسُّوءَ) أي العذاب الدائم (عَلَى الْكافِرِينَ [٢٧] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ) بالتاء والياء (٦) ، أي يقبض أرواحهم (الْمَلائِكَةُ) أي ملك الموت وأعوانه (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالكفر نصب على الحال ، أي في حال كفرهم (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي استسلموا وانقادوا وجاؤا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر والكفر جاحدين ما وجد منهم في الدنيا ، وقالوا (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي شركا وشقاقا وغيرهما ، فقال لهم الملائكة أو الله (بَلى) أشركتم بالله أصنامكم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٢٨] من الشرك وغيره فيجازيكم عليه ، وهذا أيضا من الشماتة ، قيل : «هم قوم من المؤمنين باللسان خرجوا مع المشركين يوم بدر فلما رأوا قلة المؤمنين وكثرة الكافرين رجعوا إلى الشرك فقتلوا ثمه» (٧) ، ويقول لهم الخزنة يوم القيامة (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [٢٩] أي مستقرهم ومنزلهم جهنم لاستكبارهم عن الإيمان في الدنيا.

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠))

ثم نقل من قصة الكافرين إلى قصة المؤمنين بقوله (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) نزل في المؤمنين الذين يدعون الناس إلى الإيمان على عقاب مكة حين بعث النبي عليه‌السلام رجالا من الصحابة لتكذيب المشركين الذين يصدون

__________________

(١) تقدمهم ، ب س : يقدمهم ، م.

(٢) كيد الذين ، م : كيدا الذين ، ب س.

(٣) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٣٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٢٤.

(٤) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٢٤.

(٥) «تشاقون» : قرأ نافع بكسر النون ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٧٨.

(٦) «تتوفيهم» : قرأ حمزة وخلف بالياء التحتية ، والباقون بالتاء الفوقية. البدور الزاهرة ، ١٧٨.

(٧) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٣٣.

٣٠٨

الناس الذين يقصدون من بعيد إلى النبي عليه‌السلام ليؤمنوا به ، وهم يمنعونهم بذكر مساويه لهم كساحر وشاعر ومجنون ، فيرجعون إلى بلادهم ، فلما رأى الوافدون المؤمنين ثمه سألوهم عن حال النبي عليه‌السلام ووصفه ، فقال المؤمنون إن هؤلاء المشركين كذبوا بل محمد يدعو إلى الحق ويأمر بصلة الرحم وبالمعروف وينهى عن المنكر (١) ، فأخبر تعالى عن قولهم للمؤمنين مدحا بقوله (وَقِيلَ) ، أي وقال الوافدون للمؤمنين الذين يتقون الشرك (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) من الوحي على محمد (قالُوا) أي المؤمنون (خَيْراً) أي أنزل خيرا للناس وهداية لهم من الضلالة ، وإنما نصب الجواب هنا ورفع فيما قبله ليكون فرقا بين جواب المقر وجواب المنكر يجعل الجواب بينا مكشوفا مطابقا على السؤال مفعولا للإنزال بخلاف ما تقدم من المرفوع ، فانه ليس في شيء من الإنزال ، ثم أبدل من «خيرا» قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي وحدوا الله وأطاعوه (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي جنة في الآخرة ، وقيل : «النصرة والفتح» (٢) أو «الرزق الحسن» (٣)(وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أي ولدار حال الآخرة (خَيْرٌ) من دار الدنيا (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) [٣٠] أي الخائفين المطيعين الجنة.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١))

ثم وصفها بقوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة (يَدْخُلُونَها) برمة الله (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي يتمنون من المستلذات (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء (يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) [٣١] أي يثيب الخائفين منه ويطيعونه.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

ثم وصفهم مدحا بقوله (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) حال من ضمير المفعول ، أي طيبة نفوسهم بانتقالهم إلى لقاء ربهم أو طاهرين من الذنوب (يَقُولُونَ) حال من (الْمَلائِكَةُ) ، أي قائلين لهم عند الموت (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تبليغا من الله أو من نفوسهم ، ويقولون لهم في الآخرة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٣٢] في الدنيا من عمل الخيرات.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣))

ثم قال تعالى استبطاء لإيمان أهل مكة (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) بالتاء والياء (٤) ، أي ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي عذابه كيوم بدر أو عذاب القيامة ، ثم قال تسلية للنبي عليه‌السلام من تكذيبهم إياه واستهزائهم به (كَذلِكَ) أي مثل هذا التكذيب (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) برسلهم كما فعل بك قومك من التكذيب والاستهزاء فأهلكهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاكهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [٣٣] بتكذيبهم رسلهم.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي جزاء أعمالهم الخبيثة من إنكار البعث واستعجال العذاب استهزاء وتكذيب الرسل وعناد الحق (وَحاقَ) أي ونزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [٣٤] من العذاب أنه لا ينزل بهم.

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ

__________________

(١) اختصره المؤلف من السمرقندي ، ٢ / ٢٣٤ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٢٥.

(٢) عن الضحاك ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٢٥.

(٣) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٢٥.

(٤) «أن تأتيهم» : قرأ الأخوان وخلف بالياء التحتية ، والباقون بالتاء الفوقية. البدور الزاهرة ، ١٧٩.

٣٠٩

شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥))

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي أهل مكة على سبيل الاستهزاء (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) يعني أنه شاء عبادتنا آلهة غيره ، فلو لم يشأ ما عبدناهم (نَحْنُ وَلا آباؤُنا) عطف على فاعل (عَبَدْنا) ، أي ولا عبد آباؤنا من قبل (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ) أي سوى تحريم الله (مِنْ شَيْءٍ) يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، فلو لا أن الله رضيها لنا لغيرها ولهدانا إلى غيرها ، ثم قال تعالى تسلية للنبي عليه‌السلام وتصبيرا له على تكذيبهم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الفعل (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من تكذيب الرسل أو الإشراك والتحريم والتحليل ، فلما نبهوا على قبح فعلهم أحالوا ذلك التحريم والتحليل على ربهم فأهلكهم الله تعالى (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [٣٥] أي ليس على الرسل إلا تبليغ الرسالة بالبيان والبرهان أن الله لا يشاء الشرك والمعاصي مشية الرضا ، وإنما يشاء منهم التوحيد والطاعة ، وليس عليهم الهداية والقسر على الإيمان.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦))

ثم قال لكفار مكة حثا على الإيمان والطاعة وتهديدا عن التكذيب بالرسول عليه‌السلام (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ) أي في كل جماعة قبلكم (رَسُولاً) كما بعثنا فيكم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه وأطيعوه (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي عبادة الشيطان والصنم وغيرهما من دون الله (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) أي لطف بهم وأرشدهم إلى دينه الإسلام (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ) أي وجبت (عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي الشقاوة بترك اللطف بالقضاء السابق حتى مات على كفره (فَسِيرُوا) يا أهل مكة (١)(فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [٣٦] بالرسل حتى لا يبقى لكم شبهة فيما أفعل بهم من إهلاكهم وتخريب منازلهم بالعذاب.

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))

فلما قرأ النبي عليه‌السلام هذه الآية عليهم فلم يؤمنوا لعنادهم تأسف بتركهم الإيمان فنزل قوله (٢)(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) أي على إيمانهم يا محمد (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أي لا يلطف من يخذله ، لأنه قد علم أنه ليس أهلا لذلك فيكون عبثا ، قرئ لا يهدي معلوما والفاعل (اللهَ) ، ومجهولا ومرفوعه (مَنْ يُضِلُّ)(٣) ، ولا خلاف في (يُضِلُّ) أنه بضم الياء وكسر الضاد. قال ابن عباس معناه : «من يضلله الله لا يهدي» (٤) ، يعني لا يهديه أحد (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [٣٧] أي مانعون من نزول العذاب بهم وهو يدل على أن المراد بالإضلال الخذلان ، لأنه نقيض النصرة.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨))

قوله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) عطف على قوله («وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) للجمع بين الكفرين العظيمين في التدوين والحكاية بهما ، وهما إسناد ذنوبهم على مشية الله وإنكارهم البعث بالأقسام عليه ، أي وحلفوا بالله (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) وهو اسم اليمين بالله عندهم ، لأنهم كانوا في الجاهلية يحلفون بالأصنام وبآبائهم وبغير ذلك ، وإذا حلفوا بالله سموه جهد اليمين ، يعنون أنها أغلظ الأيمان وآكدها فيما يقسم به فحلفوا بالله (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) لإنكارهم البعث ، فرد الله عليهم بقوله (بَلى) أي نعم يبعثهم الله ، لأن (بَلى) إثبات لما بعد النفي (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) أي وعد البعث ، وأوجبه على نفسه وعدا حقا ، أي إيجابا صدقا لا خلف فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ

__________________

(١) يا أهل مكة ، ب س : ـ م.

(٢) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٢٣٥.

(٣) «لا يهدي» : قرأ المدنيان والمكي والبصريان والشامي بضم الياء وفتح الدال وألف بعدها ، والباقون بفتح الياء وكسر الدال وياء بعدها. البدور الزاهرة ، ١٧٩.

(٤) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٣٥.

٣١٠

النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [٣٨] أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت.

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩))

قوله (لِيُبَيِّنَ) يتعلق بفعل (بَلى) ، أي يبعث الله جميع الخلق يوم القيامة ليكشف (لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من الحق وهو دين الإسلام والبعث الموعود لهم (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عند خروجهم من قبورهم (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) [٣٩] في الدنيا بقولهم لا يبعث الله من يموت.

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

قوله (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) أي قصدنا حدوثه ، مبتدأ ، خبره (أَنْ نَقُولَ لَهُ) أي لذلك الشيء ، والمراد البعث (كُنْ) أي احدث (فَيَكُونُ) [٤٠] بالرفع ، أي فهو يكون ، وبالنصب عطف على «نقول» (١) ، أي فيحدث بسهولة بلا مهلة ف «كان» تامة ، المعنى : أن إيجاد كل مقدور علينا يسير ، فاذا أردنا أن نبعث الموتى فلا تعب علينا في إحيائهم ، لأنه من شق المقدورات.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١))

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (فِي اللهِ) أي في طاعته (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي عذبوا وأوذوا في الله (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلنهم (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي تبوئة جميلة بالمدينة أو المراد المنزلة الحسنة ، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وأنعام الغنيمة عليهم أو التوفيق والهداية ، فهذا ثوابهم في الدنيا.

نزلت الآية في بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فعذبوهم (٢)(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) أي ثوابها (أَكْبَرُ) أي أفضل (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [٤١] أي يصدقون بالثواب المذكور.

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))

ثم وصفهم مدحا بقوله (الَّذِينَ صَبَرُوا) أي هم الصابرون في الدنيا على ما فاتهم من مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب ، فكيف بقلب رجل هو مسقط رأسه؟ وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [٤٢] أي يثقون به في الرزق وغيره.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))

قوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (إِلَّا رِجالاً) مثلك (نُوحِي إِلَيْهِمْ) كما يوحي إليك ، نزل حين قال قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، لأنه لو أراد إرسال رسول لأرسل إلينا الملائكة الذين عنده (٣) ، ثم قال تعالى إن لم يصدقك قومك فقل (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي أهل التورية والإنجيل ليعلموكم أن الله لم يرسل إلى الأمم المتقدمة إلا بشرا لا ملكا (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [٤٣] ذلك ، قوله (بِالْبَيِّناتِ) يتعلق ب (نُوحِي) أو ب (أَرْسَلْنا) مضمرا ، استئناف كأن قائلا قال بم أرسلوا؟ فأجيب أرسلنا بالبراهين الظاهرة كالمعجزات (وَالزُّبُرِ) أي الكتب النبوية التي تبين الحلال والحرام (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي القرآن (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) من الأمر والنهي وغير ذلك من الشرائع (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [٤٤] أي ولكي يتفكروا فيه فيؤمنوا.

__________________

(١) «فيكون» : قرأ الكسائي والشامي بنصب نون «فيكون» ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ١٧٩.

(٢) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٢٨ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٣٥ ؛ والسمرقندي ، ٢ / ٢٣٦.

(٣) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٢٣٦ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٣٥ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩.

٣١١

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥))

ثم قال تهديدا لهم (أَفَأَمِنَ) أي أجحد الحق فغفل (الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أي عملوا الحيل القبيحة في إبطال دينه الحق وهم أهل مكة من (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) أي أن يدخلهم فيها إحياء إلى الأرض السفلى (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [٤٥] أي لا يدركون بهلاكهم لغفلتهم.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦))

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ) بالعذاب (فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي في تصرفهم وتنقلهم من بلد إلى بلد في تجارتهم (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [٤٦] أي بفائتين من عذابه تعالى.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ) بالعذاب (عَلى تَخَوُّفٍ) أي تنقص شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا جميعا ، يقال تخوفهم الدهر إذا نقصهم وأخذ أموالهم وحشمهم أو يأخذ القرية بالعذاب ويترك أخرى قريبة منها ، فيخوفها بتلك ، فان لم ينتهوا أخذ الأخرى (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [٤٧] بالإمهال مع استحقاق العذاب وترك العجلة بعقاب.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨))

قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ) بالتاء والياء (١) ، إخبار عن الذين مكروا السيئات ، أي ألم ينظروا ولم يعتبروا إلى الذي خلق الله (مِنْ شَيْءٍ) أي جسم قائم له ظل عند طلوع الشمس وعند غروبها (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) بالتاء والياء (٢) ، أي تدور وترجع بتسييرها على بروجها ، والفيء الرجوع (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) وهو استعارة من يمين الإنسان وشماله ، و (الشَّمائِلِ) جمع شمال وهو اليسار ، وإنما جمعه دون اليمين مع أن المراد منه الأيمان ليجري الكلام على عادة العرب حيث يكتفون بواحدة من العلامتين إذا اجتمعتا كقوله تعالى (وَعَلى سَمْعِهِمْ)(٣) ، ونصب على الحال من الظلال ، قوله (سُجَّداً لِلَّهِ) أي مائلات ودائرات بالانقياد لأمر الله ، فالسجود هنا استعير للاستسلام من السجود للطاعة ، قيل : سجود الظلال ميلانها ودورانها من جانب إلى جانب ، أما عن اليمين فهو في أول النهار وأما عن الشمال فهو في آخر النهار (٤) ، وقيل : «الظل قبل الطلوع وبعد الغروب يحتوي جميع جهاتك وعند الطلوع كان قدامك وعند الارتفاع كان عن يمينك ثم يكون خلفك ثم يكون عن يسارك قبل الغروب» (٥) ، فهذا التقلب عبارة عن سجوده ، وقيل : المراد من سجود الضلال سجود الأشخاص (٦) ، وفيه تأمل لأن الآية الآتية بعد تغني عن ذلك ، فالأولى أن يحمل على حقيقته تعريضا للمستكبرين عن السجود حيث يعجزون أن يكونوا مثل الظلال في الانقياد لأمره تعالى مع ضعفها (وَهُمْ داخِرُونَ) [٤٨] الجملة حال من ضمير (سُجَّداً) ، أي والحال أن الضلال ذليلون في حال السجود ، وجمع الداخر بالواو والنون ، لأن الدخور من صفات العقلاء.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩))

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) أي ينقاد لإرادة الله ويخضع (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) والمراد منه العقلاء وغيرهم لإرادة العموم ، ولذا اختار ذكر «ما» على «من» (مِنْ دابَّةٍ) بيان لما فيهما على تقدير أن يكون في السماء خلق

__________________

(١) «أو لم يروا» : قرأ الأخوان وخلف بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٧٩.

(٢) «يتفيؤا» : قرأ البصريان بتاء التأنيث ، والباقون بياء التذكير. البدور الزاهرة ، ١٧٩.

(٣) البقرة (٢) ، ٧.

(٤) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ٤٣٠.

(٥) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٠.

(٦) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٣٠.

٣١٢

يدبون ، وهو منقول عن أهل التفسير (١) أو بيان لما في الأرض إن لم يقدر ذلك في السماء ، قوله (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على (ما فِي السَّماواتِ) مع أنهم من جملة ما فيها تشريفا لهم ورفعا لشأنهم ، وقيل : أراد (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ) من الملائكة وما في الأرض من دابة ويسجد الملائكة (٢)(وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [٤٩] أي لا يتعظون عن السجود لله تعالى.

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) أي عاليا عليهم بالاطلاع على حالهم ويقهرهم بالأمر والنهي ف (مِنْ فَوْقِهِمْ) يتعلق ب (رَبَّهُمْ) حالا منه ، ويجوز أن يتعلق ب (يَخافُونَ) ، فمعناه : يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم ، والجملة حال لبيان نفي الاستكبار ، لأن من يخاف الله لا يستكبر عن السجود له (وَيَفْعَلُونَ) أي الملائكة (ما يُؤْمَرُونَ) [٥٠] به ، أي لا يعصون أمره تعالى طرفة عين ، وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون بالأمر والنهي والوعد والوعيد وبأنهم بين الخوف والرجاء كسائر المكلفين.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١))

قوله (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) نزل حين وصف طائفة الله باثنين ، أحدهما نفسه والثاني الصنم فنهاهم الله عن ذلك (٣) ، فقال لا تصفوه إلهين اثنين وأكذبهم بقوله (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس هو إلا إله واحد لا اثنان ، وإنما جمع بين العدد والمعدود هنا ، وهو انما يكون فيما وراء الواحد والاثنين لعدم الاحتمال فيهما ، فلا يقال جاءني رجل واحد ولا رجلان اثنان ، وإنما يقال عندي رجال ثلثة أو أربعة ليدل على أن المقصود من المعدود المذكور هو العدد ، فيكون (اثْنَيْنِ) تأكيدا ل (إِلهَيْنِ) ، لأن (إِلهَيْنِ) يدل على شيئين الجنسية والعدد ، والغرض من ذكره بالنهي هو العدد لا الجنسية فشفع بما يؤكده ، ألا ترى أنه لو قال في الكلام الثاني إنما هو إله ولم يؤكده بواحد لم يحسن ، لأنه يخيل المخاطب أنه يثبت الإلهية لا الواحدانية (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [٥١] أي اخشوني ووحدوني ولا تشركوا بي شيئا ، وفيه نقل من الغيبة إلى التكلم ليكون أبلغ في الترهيب من قوله «فاياه فرهبوا».

(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢))

(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ) من الملائكة (وَالْأَرْضِ) من الجن والإنس وغيرهما ، كلهم عبيده ينقادون له (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أي لله الإسلام أو الطاعة دائما أو واجبا ثابتا ، المعني : أن الطاعة ثابتة تدوم له ، لا يجوز لأحد أن يميل عنها ، والوصب التعب ، ونصبه حال عمل فيه الظرف (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) [٥٢] أي أتعرضون عنه فتعبدون غيره وتطيقون.

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣))

قوله (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) خطاب عام للكفرة لا للمشركين خاصة ، أي والحال أن الذي بكم من غنا وصحة الجسم (فَمِنَ اللهِ) أي من قبله لا من غيره (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) أي الفقر والقحط والمرض (فَإِلَيْهِ) أي فالى الله (تَجْئَرُونَ) [٥٣] أي تتضرعون أو ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة ليكشف عنكم الضر لا إلى غيره لعلمكم أن الغير عاجز عن ذلك.

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤))

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) بقولكم ربنا اكشف عنا العذاب أنا مؤمنون (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ) وهم المنافقون والكافرون (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) [٥٤] بعبادة غيره.

__________________

(١) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٣٧ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٠ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٥٠.

(٢) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٣) نقله المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٣٨.

٣١٣

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥))

قوله (لِيَكْفُرُوا) اللام فيه لام العاقبة ، أي حاصل أمرهم بعد كشفنا الضر عنهم هو كفرهم (بِما آتَيْناهُمْ) أي بما أعطيناهم من النعم وكشف الضر والبلاء (فَتَمَتَّعُوا) أي عيشوا بقية آجالكم في الدنيا وهو أمر تهديد لهم وتخلية في معنى الخذلان (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [٥٥] ما يفعل بكم في الآخرة.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦))

ثم قال استقباحا لفعلهم (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) أي للذي لا علم له من الأصنام أو لا يعلم الكفار منه ضرا ولا نفعا (نَصِيباً) أي حظا (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الأموال ، يعني من الحرث والأنعام ، ثم قال إقساما بنفسه (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ) يا كفار يوم القيامة (عن ما (كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) [٥٦] أي تكذبون على الله بقولكم الله أمرنا بهذا أو أنها آلهة تصلح للتقرب.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧))

ثم قال (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) أي يصفون أن الملائكة بناته ، قوله (سُبْحانَهُ) أي وهو منزه عن الولد ، اعتراض لإنكار ما قبله وهو المختار أو تعجيب (١) من قولهم بالابتداء به (٢) ، قوله (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [٥٧] مبتدأ وخبر (٣) أو معناه : ويجعلون لأنفسهم ما يحبون من الأولاد وهم البنون ، لأنهم يكرهون البنات ، و (ما) في محل النصب ، لأنه مفعول (يَجْعَلُونَ).

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨))

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) عند ولادة امرأته ابنة له (ظَلَّ) أي صار (وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي متغيرا إلى السواد من الغم والكراهية والخجل (وَهُوَ كَظِيمٌ) [٥٨] أي مملو حزنا وغيظا على المرأة التي ولدتها ، والجملة حال من ضمير (وَجْهُهُ).

(يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩))

(يَتَوارى) أي يختفي (مِنَ الْقَوْمِ) حياء (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) من البنت أو ما ظهر في وجهه من العار والحزن ويتفكر كيف أصنع بها (أَيُمْسِكُهُ) أي أيحفظه ، والضمير يرجع إلى «ما بُشِّرَ» (عَلى هُونٍ) أي على هوان لا يميل إليها بالشفقة والمرحمة (أَمْ يَدُسُّهُ) أي يدفنه ويخفيه (فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [٥٩] أي بئس ما يقضون لله البنات ولأنفسهم البنين أو بئس حكمهم وأد البنات خوف الفقر والعار.

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي لمنكري البعث بعد الموت (مَثَلُ السَّوْءِ) أي صفة الشر وهو كفرهم بوصف الولد له تعالى ووأد البنات وكراهيتها مع احتياجهم إليهن للتزوج والنسل ، قال ابن عباس : «مثل السوء النار» (٤)(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الصفة العليا ، وهي الغنا عن جميع الخلق والنزاهة عن صفاتهم والعلم والقدرة والبقاء وغيرها من صفات الجلال والكمال أو لأولياء الله المثل الأعلى بتقدير المضاف وهو التقوى والمعرفة ، وقال ابن عباس : «المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله» (٥)(وَهُوَ الْعَزِيزُ) على أعدائه (الْحَكِيمُ) [٦٠] فيما يأمر عباده وينهاهم.

__________________

(١) تعجيب ، ب س : تعجب ، م.

(٢) بالابتداء ، ب س : على الابتداء ، م.

(٣) مبتدأ وخبر ، م : ـ ب س.

(٤) انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٣.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٣٩.

٣١٤

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١))

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أي بعصيانهم وشركهم فيعاجلهم بالعقوبة (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض وهو إضمار قبل الذكر بدلالة قوله (مِنْ دَابَّةٍ) يعني لأهلها كلها بشؤم ظلم (١) الظالمين ، قيل : «قد فعل الله ذلك في زمان نوح عليه‌السلام إلا من نجا السفينة من الأناسي والدواب» (٢) ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : «إن الجعل ليعذب في حجره بذنب ابن آدم» (٣) ، وقيل : «المراد من الدابة هنا المشركون» (٤) ، وقيل معناه : لو يؤاخذكم الله الآباء بظلمهم لا نقطع النسل فلم يبق في الأرض أحد (٥)(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) بالفضل والعفو (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت معلوم وهو منتهى آجالهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي إذا قرب وقت عذابهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) عن الوقت (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [٦١] بالتعذيب قبل الوقت.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ) أي يقولون له (ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم وهو البنات أو يعطون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها (وَتَصِفُ) أي وتقول (أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) مفعول «تَصِفُ» (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) بفتح (أَنَّ) في محل النصب بدل من «الكذب» ، أي تقول ألسنتهم أن لهم البنين لقول قريش لنا البنون ، وقيل : (الْحُسْنى) الجنة (٦) ، يعني لنا الجنة في الآخرة مع أعمالهم الخبيثة كقوله (لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى)(٧) ، ثم قال تعالى (لا جَرَمَ) أي حقا (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) يوم القيامة (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) [٦٢] بكسر الراء ، أي مسرفون في العصيان على أنفسهم ، وبفتحها (٨) ، أي متروكون في النار منسيين من أفرطته إذا تركته ، وقيل : «متقدمون إلى النار» (٩) ، ومنه حديث النبي عليه‌السلام : «أنا فرطكم على الحوض» (١٠) ، أي مقدمكم وإمامكم عليه.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلا (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد كما أرسلناك إلى هذه الأمة (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الخبيثة حين أطاعوه وكذبوا الرسل (فَهُوَ) أي الشيطان (وَلِيُّهُمُ) أي ناصرهم ، يعني ليس لهم ناصر غيره (الْيَوْمَ) أي في زمان الدنيا أو في الآخرة ، فيكون حكاية للحال الآتية ، المعني : أنه عاجز عن نصر نفسه ، فكيف ينصر غيره ، ففيه نفي للناصر بأبلغ الوجوه أو هو قرينهم في النار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٦٣] أي وجيع دائم في الآخرة ، فهذا تهديد للكفار وتسلية للنبي عليه‌السلام ليصبر على أذاهم كما صبر الرسل قبله.

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) وهو دين الحق أو البعث أو الحلال والحرام ، والمراد بالمتخلفين المؤمنون والكافرون ، قوله (وَهُدىً وَرَحْمَةً) عطف على (لِتُبَيِّنَ) ، أي وللهداية من الضلالة وللمرحمة من عذاب النار (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [٦٤] أي يصدقون بالقرآن.

__________________

(١) ظلم ، س : ـ ب م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٥٢.

(٢) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٤.

(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٤.

(٤) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٣ / ١٥٢.

(٥) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٣٤.

(٦) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٣٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٣٥.

(٧) فصلت (٤١) ، ٥٠.

(٨) «مفرطون» : قرأ نافع وأبو جعفر بكسر الراء مع تخفيفها للأول وتشديدها للثاني ، والباقون بفتحها مخففة. البدور الزاهرة ، ١٨٠.

(٩) عن الفراء ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٥.

(١٠) رواه ابن ماجة ، الزهد ، ٣٦ ؛ وأخرج النسائي نحوه ، الطهارة ، ١٠٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٣٥.

٣١٥

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥))

ثم قال تبيينا (١) لطريق التوحيد (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبسها منه (٢)(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إحيائها بعد يبسها (لَآيَةً) أي لعبرة (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [٦٥] بسمع القلوب لا بسمع الآذان ، فينصفون فيؤمنون ، لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لا يسمع.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦))

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ثم بينها بقوله (نُسْقِيكُمْ) بضم النون وفتحها (٣)(مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أي بعض ما في بطون الأنعام وهو اسم مفرد يؤدي معنى الجمع وليس بجمع تكسير نعم ، فلذا أفرد الضمير ، وقيل : يجوز أن يرجع إلى النعم وهو مذكر ذكر في الأنعام ، ويجوز أن يراد به جنس الأنعام ، وقد روي عن سيبويه : أن أنعاما أفعال موضوعة على النعم ، فالنعم والأنعام واحد ، فعلى هذا لا يكون جمعا في اللفظ كقولهم ثوب أكياس لضرب من الثياب (٤) ، أي نشربكم مما يحصل في بطون الأنعام (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) ظرف في موضع الحال ، أي كائنا في مكان وسط بين ثفل الكرش (وَدَمٍ) وهو دم العروق (٥) ، ف «من» ابتدائية (لَبَناً خالِصاً) مفعول به ، لا يشوبه شيء من الدم والفرث لما بينه وبينهما حاجز من قدرة الله ، يعني ليس عليه لون دم ولا فيه رائحة الفرث ، بل خالص من ذلك كله (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) [٦٦] أي هنيئا يجري على السهولة في حلق من يشربه وهو حجة لمن يقول بطهارة المني وإن جرى مجرى البول بامكان الحاجز بينه وبين مجرى البول كما كان الحاجز بين اللبن وبين الفرث والدم ، فلم يمتنع خروجه طاهرا ، قال ابن عباس : «إذا أكلت الدابة العلف استقر في كرشها فطحنته (٦) فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما» (٧) ، والكبد مسلط على هذه الأوصاف الثلثة يقسمها بتقدير الله ، فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو ، فسبحان من يخلق الأشياء بحكمتها.

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧))

قوله (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) يتعلق بمحذوف ، دل عليه (نُسْقِيكُمْ) قبله ، أي وإن لكم لعبرة أيضا فيما نسقيكم ونرزقكم من عصير ثمرات النخيل (٨)(وَ) من عصير (الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) أي من جنس الثمرات أو من الثمر المحذوف قبل (تَتَّخِذُونَ) إن جعلته مبتدأ و (مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) خبرا له ، فيكون الجملة مستأنفة لا عطفا على قبله ، تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه ، أي من بعض الثمر (سَكَراً) أي خمرا ، وهذا قبل تحريم الخمر أو السكر الخل فلا نسخ (٩) أو النبيذ ، وهو الذي طبخ حتى ذهب ثلثاه ويترك إلى الاشتداد فهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر ، حرام عند الشافعي (١٠)(وَرِزْقاً حَسَناً) وهو ما يتخذ من الثمر كالزبيب والتمر وكل ما يدخر منه رطبا ويابسا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي لعبرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [٦٧] أي يفهمون توحيد الله وقدرته.

__________________

(١) تبيينا ، ب م : تنبيها ، س.

(٢) منه ، ب م : ـ س.

(٣) «نسقيكم» : قرأ نافع والشامي وشعبة ويعقوب بالنون المفتوحة وأبو جعفر بالتاء المفتوحة ، والباقون بالنون المضمومة. البدور الزاهرة ، ١٨٠.

(٤) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٥٣.

(٥) دم العروق ، ب : الدم المعروف ، س م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٤٠.

(٦) فطحنته ، م : فطبخته ، ب س ؛ والنظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٤٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٦.

(٧) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٤٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٦.

(٨) النخيل ، س م : النخل ، ب ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٣٦ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٥٤.

(٩) قال الشعبي والنخعي : إن هذه الآية منسوخة ، انظر الكشاف ، ٣ / ١٥٤ ؛ وانظر أيضا قتادة ، ٤٤ ؛ وهبة الله سلامة ، ٥٩ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٦ ؛ وابن الجوزي ، ٤١.

(١٠) لعل المفسر اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٥٤.

٣١٦

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨))

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وهو مذكر في اللفظ ، مؤنث في المعنى كالنخل في الشجر ، أي ألهمها وقذف في أنفسها وهي زنابير العسل ، وقيل : جمع واحدها نحلة (١)(أَنِ اتَّخِذِي) «أن» فيه مفسرة (مِنَ الْجِبالِ) «من» فيه تبعيض (بُيُوتاً) أي مساكن تأوي إليها (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [٦٨] أي يبنون لك من الأماكن.

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من حلوها وحامضها وغيرهما (فَاسْلُكِي) أي فادخلي (سُبُلَ رَبِّكِ) أي طرقه التي ألهمك وعرفك الرجوع إلى مسكنك (ذُلُلاً) حال من (سُبُلَ) ، أي سهلة المسالك في الجبال وخلال الأشجار أو حال من (النَّحْلِ) ، جمع ذلول ، أي مطيعة منقادة للمراد منك بالتسخير ، يقال : إن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان لمصلحة لها ولهم ، ثم أخبر عن وصفها تعجيبا فقال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) أي أفواها (شَرابٌ) أي عسل ، لأنه يشرب منه (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) من أبيض وأخضر وأحمر وأصفر وأسود.

قيل : إنه يختلف باختلاف الشبابة والكهولة والشيخوخة وغيرها من النحل (٢) ، ويحتمل أن يكون الاختلاف في الألوان باختلاف المأخذ كما يختلف طعم العسل من حلوه ومره بها ، روي : أن العسل ينزل من السماء فيستقر في مكان ، فتأتيه النحل وتشربه ثم تأتي الخلية (٣) فتلقيه في الشمع المهيأ له لا كما يظن بعضهم أنه من فضلات الغذاء يستحيل في المعدة عسلا وفي هذه الرواية ضعف ، لأن أهل الخبرة من أصحاب النحل قالوا : إن الزنابير تأكل من الثمار والأنوار فيغير الله تعالى بقدرته الثمر والنور في بطونها عسلا ، فاذا امتلأت بطونها تجيء من مسالكها التي ذهبت إلى بيوتها فتلقيه إلى الشمع من بطونها كما صرح الله تعالى به سبحان من يخيل النور عسلا في أجواف الزنابير (٤)(فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) أي في العسل شفاء الأوجاع التي يعرف شفاؤها منه ، يعني أنه من جملة الأشفية المشهورة النافعة لأمراض الناس وليس الغرض أنه شفاء لكل مرض ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : «العسل شفاء من كل داء» (٥) ، يعني من بعضها كقولهم الماء حيوة من كل شيء ، ومنه ما يقتل المريض ، وقال عليه‌السلام : «عليكم بالشفاءين القرآن والعسل» (٦) ، يعني القرآن شفاء لما في الصدور والعسل شفاء لما في الأبدان (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [٦٩] فيعتبرون من أمر النحل المطيعة لوحي ربها العاملة باذنه ما لا يقدر عليه أحد من خلقه فيؤمنون.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) أي يقبض أرواحكم صبيانا أو شبانا أو كهولا (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أردئه (٧) إلى الهرم (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي لكيلا يعقل بعد عقله الأول شيئا لشدة هرمه ، ف (شَيْئاً) منصوب ب (لا يَعْلَمَ) ، يعني يعتريه حال النسيان عند هرمه ، فلا يفهم ما كان يفهمه قبل هرمه وكبره ، وقيل : هذا في الكافر ، لأن المسلم يزداد عقله بصلاحه في طول عمره كرامة له (٨) ، قال عليه‌السلام : «من

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٣٦.

(٢) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٤١.

(٣) الخلية ، م : الحلبة ، ب س.

(٤) وهذا مأخوذ عن مفاتيح الغيب ، ٢٠ / ٥٨.

(٥) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٤٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٧ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٥٥.

(٦) رواه ابن ماجة ، الطب ، ٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٤٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٧ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٥٥.

(٧) أردئه ، ب س : أرديه ، م.

(٨) اختصره المؤلف من مفاتيح الغيب ، ٢٠ / ٦٣.

٣١٧

قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر» (١) ، وأراد من يتدبره ويعمل به ، قيل : «أرذل العمر تسعون سنة» (٢) ، وقيل : ثمانون (٣) ، وقيل : «خمسة وسبعون» (٤)(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) لا يزول علمه عن ذاته أبدا (قَدِيرٌ) [٧٠] يقدر على إزالة علم كل عالم وإبقائه فيه ، قال أنس بن مالك : كان رسول الله عليه‌السلام يدعو : «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات» (٥).

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١))

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أي وسع الرزق على البعض وضيق على البعض من الناس بأن كثره وقلله أو فضل الموالي على العبيد في المال والرزق ، يعني جعل رزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم ليظهر التفاوت بينكم وبينهم (فَمَا) أي فليس (الَّذِينَ فُضِّلُوا) وهم الموالي (بِرَادِّي) فضل (رِزْقِهِمْ) الذي أعطاهم الله وزاد عن حاجاتهم (عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي على عبيدهم (فَهُمْ فِيهِ) أي فان المولى والعبيد في الرزق (سَواءٌ) لا يكون تفاوت بينهم في الرزق بحسب أصل الخلقة ، لأنهم مثلهم في البشرية وإخوانهم ، فكان ينبغي أن يردوا فضل رزقهم عليهم حتى يتساووا (٦) في المطعم والملبس بناء على ما روي عن رسول الله عليه‌السلام : «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تكسون وأطعموهم مما تطعمون» (٧) ، لكن الحكمة الإلهية التي هي ظهور التفاوت بينهم لأجل الخدمة المحتاج إليها منعته أو المعنى : أنهم لا يرضون أن يكونوا مع مماليكهم فيما رزقهم الله سواء برد الفضل عليهم كراهة الشركة فيه ، وهم جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني ، فهذا مثل ضربه الله عزوجل إلزاما للحجة على كفار مكة حيث يشكرون بالله خلقه وعبيده الذين هو خالقهم ورازقهم ، ثم قال إنكارا عليهم (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ) التي هي هذا (٨) التفضيل (يَجْحَدُونَ) [٧١] بالتاء والياء (٩) ، أي تكفرون بالإشراك به فجعل جحود ذلك من جملة جحود النعمة ، وقيل معنى الآية : إني رازقهم جميعا فهم في رزقي سواء فلا تحسبن المولى أنهم يردون على مماليكهم رزقهم من عندهم ، فان ذلك رزقي الذي أرزقهم إياه من أيديهم (١٠).

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢))

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي من جنسكم نساء ، وقيل : المراد حواء (١١) ، لأنها خلقت من قصيراء آدم عليه‌السلام (١٢)(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي من نسائكم (بَنِينَ وَحَفَدَةً) أي أولاد الأولاد ، جمع حافد من الحفد وهو العون والقوة ، وقيل : «هم الأختان على البنات» (١٣) ، وقيل : «هم الأصهار» (١٤) ، فالمعني على هذا القول : والله جعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجوهن فيحصل بسببهن الأختان والأصهار ،

__________________

(١) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٢) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٧ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٣) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٣٧.

(٤) عن علي كرم الله وجهه ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٧ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٥٥.

(٥) رواه مسلم ، الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، ٥٢ ؛ وأبو داود ، الصلوة ، ٣٦٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٦) يتساووا ، م : يتخذوا ، ب س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٥٦.

(٧) أخرج البخاري نحوه ، العتق ، ١٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٥٦.

(٨) هذا ، س م : ـ ب.

(٩) «يجحدون» : قرأ شعبة ورويس بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٨٠.

(١٠) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٥٦.

(١١) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٤٣٨.

(١٢) وهذه الرواية من الإسرائليات ، لأنها موجودة في التورية ، انظر تكوين ، ٢ / ٢١ ـ ٢٣.

(١٣) عن ابن مسعود والنخعي ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٤٢ (عن ابن مسعود).

(١٤) عن ابن مسعود ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣٨.

٣١٨

وقيل : الحافد هو المسرع في إطاعة الأمر وخدمته ومصالحه من الأقرباء والمماليك وغيرهم (١)(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي الحلالات (أَفَبِالْباطِلِ) أي الأصنام التي لا منفعة لها ولا شفاعة (يُؤْمِنُونَ) أي يعبدون أو بالشيطان يصدقون حيث أمرهم بتحريم البحيرة والسائبة (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) أي بوحدانيته المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها الذي عقل وتمييز أو الإسلام أو القرآن أو بتحليله (هُمْ يَكْفُرُونَ) [٧٢] أي يجحدون.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣))

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ) أي إنزال المطر (وَالْأَرْضِ) أي النبات (٢)(شَيْئاً) بدل من «رزقا» أو مفعوله (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) [٧٣] أي لا يقدرون ذلك لعجزهم وهو تأكيد للأول.

(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

(فَلا تَضْرِبُوا) أي لا تصفوا (لِلَّهِ الْأَمْثالَ) في العبادة ، يعني لا تشبهوه بشيء من خلقه ، فان التشبيه به إشراك بالله (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) أن لا شبيه له (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [٧٤] ذلك فتقعدون في الكفر بضرب الأمثال له أو إنه يعلم كنه فعلكم وعظمه فيعاقبكم عليه وأنتم لا تعلمون كنهه ، فهو الذي جزاكم عليه.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥))

ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر فقال (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي شبها وأبدل منه (عَبْداً مَمْلُوكاً) وصفه به ليخرج منه الحر ، لأن الخلق كله عبيد الله (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) أي ليس له مال ينفع منه ويتصرف في سبيل الخير لعجزه عن التصرف ، قيده به ليخرج المكاتب ، لأن له يدا في التصرف وإن كان عبدا ، وكذلك المأذون له ، واختلفوا في العبد ، هل يصح له ملك ، والظاهر أنه لا يصح له خلافا لمالك (٣) ، قوله (وَمَنْ رَزَقْناهُ) عطف على (عَبْداً) وهي موصوفة نكرة لكون المعطوف عليه نكرة ، أي وحرا رزقناه (مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) أي مالا طيبا يقدر (٤) على التصرف فيه (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) في سبيل الله ورضاه ، فأثابه الله عليه في الجنة (٥)(هَلْ يَسْتَوُونَ) أي العبد والحر في الخير والطاعة ، ولم يقل يستويان لمكان (مَنْ) ، فانه يصلح للواحد والمثنى والجمع لا يستوي العبد الفقير والغني السخي في الإنفاق في سبل الخير ، كذلك لا يستوي الكافر العاصي والمؤمن المطيع عند الله ، ثم قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ) حامدا لنفسه ودالا لخلقه على حمده على ظهور الحق من الباطل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [٧٥] الحق من الباطل ، يعني قد ظهر أن الأمر ليس كما يقول المشركون ، إذ ليس للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتحمد عليه أنما الحمد الكامل لله عزوجل ، لأنه المنعم والخالق والرازق ، ولكن أكثر الكفار أو جميعهم لا يفقهون ذلك.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))

ثم أوضح ذلك بضرب مثل آخر فقال (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) أي مثل رجلين ، فالمثل الثاني بدل من المثل الأول المفعول حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للعلم به ، ثم وصفهم رجلين بقوله (أَحَدُهُما أَبْكَمُ) أي أخرس لا يفهم ولا يفهم (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من مال ولا منفعة (وَهُوَ كَلٌّ) أي ثقل وعيال (عَلى مَوْلاهُ) أي على من يلي أمره ويقوله (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) بجزم الهاء لوجود الجازم فيه ، أي حيثما يرسله في كفاية مهم وتحصيل حاجة (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أي لا يجيء به ، لأنه لا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه ، ورجل آخر على خلاف ذلك ولم

__________________

(١) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٥٦.

(٢) أي النبات ، س م : أي البنات ، ب.

(٣) خلافا لمالك ، س م : ـ ب.

(٤) يقدر ، س ب : ـ م.

(٥) في الجنة ، س : الجنة ، ب م.

٣١٩

يذكره ، لأنه اكتفى بذكر أحدهما وهو الأبكم كسرابيل تقيكم الحر ولم يقل (١) البرد وهذا مثل للأصنام (٢) ومن يعبدها فذكر رجلين تغليبا أو المراد المؤمن والكافر والأول أنسب ، لأن الصنم لا يسمع ولا يسمع ولا يعقل وهو كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويخدمه أو العبد ومولاه حقيقة كعبد عثمان ، فان عثمان يأمره بالتوحيد وهو يأتي بالكفر ويكره الإسلام ثم استفهم على سبيل الإنكار (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) أي الأبكم أو الكافر (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي الله أو المؤمن ، يعني لا مساواة بين الأبكم والآمر بالخير ، وهو الله القادر المتكلم الآمر بالتوحيد أو المؤمن الذي يأمر به ويعمل العمل الصالح (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٧٦] أي على دين الإسلام ، قال عطاء : «الأبكم أبي بن خلف المنكر بالبعث ، ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان» (٣).

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))

ثم قال للكفار الذين استعجلوا القيامة استهزاء (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله علم ما غاب عن العباد فيهما (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) أي قيام الساعة (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) أي إلا كرجعة في قرب كونها إذا قال له «كن فيكون» (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أي بل هو أسرع ، المعنى : أن قيام الساعة والبعث في قدرة الله ومشيته أقرب من كل قريب (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٧٧] والبعث من مقدوراته فلا تنكروه.

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨))

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) بكسر الهمزة والميم وبضم الهمزة وفتح الميم ، وبكسر الهمزة مع فتح الميم (٤) ، أي خلقكم والحال أنكم (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الأشياء أو من حقوق المنعم الذي خلقكم في البطون وسواكم وصوركم ، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد ، جمع قلة ، استعمل في موضع جمع الكثرة وهو وسط القلب لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [٧٨] أي لكي تشكروا رب هذه النعم.

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))

ثم بين طريقا يؤدي إلى معرفة وحدانيته بقوله (أَلَمْ يَرَوْا) بالتاء والياء (٥)(إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ) أي مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة (فِي جَوِّ السَّماءِ) أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو (ما يُمْسِكُهُنَّ) نصب على الحال من (الطَّيْرِ) ، أي ما يأخذهن في الهواء عند قبض الأجنحة وبسطها (إِلَّا اللهُ) بقدرته (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في تسخيرهن وإمساكهن في الهواء (لَآياتٍ) لدلالات على وحدانيتي (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [٧٩] به تعالى بنظر الاستدلال ، قيل : «إن الطير ترتفع اثني عشر ميلا في جو السماء ولا ترتفع فوق هذا» (٦).

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠))

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) أي مسكنا تسكنونه ، يعني وفقكم لبناء البيوت للسكنى والقرار

__________________

(١) ولم يقل ، س م : ولم نقل ، ب.

(٢) مثل للأصنام ، ب س : مثل الأصنام ، م.

(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٤٤١.

(٤) «أمهاتكم» : قرأ حمزة بكسر الهمزة والميم والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم ، وهذا في حال وصل «بطون أمهاتكم» ، أما في حالة الابتداء ب «أمهاتكم» فيقرآن بضم الهمزة وفتح الميم ، والباقون بضم الهمزة وفتح الميم في الحالين. البدور الزاهرة ، ١٨١.

(٥) «ألم يروا» : قرأ حمزة ويعقوب وخلف والشامي بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٨١.

(٦) عن كعب الأحبار ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٤٢.

٣٢٠