عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٣٤

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي جمع بين قلوب القبيلتين بالتليين ورفع القساوة والعداوة التي كانت بينهما في الجاهلية منها فاتلفت بسبب محبتك والإيمان بك (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الأموال (ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي لما قدرت أن تألف بين قلوبهما وتجمعها على اتفاق كلمتهم (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ) أي جمع (بَيْنَهُمْ) بالإيمان ، لأنه مالك القلوب يقلبها كيف يشاء (إِنَّهُ عَزِيزٌ) بالانتقام من الأعداء (حَكِيمٌ) [٦٣] بالائتلاف بينهم وإماطة التباغض عنهم وإحداث التحاب فيهم ، قيل : «المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» (١).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤))

قوله (٢)(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [٦٤] نزل في بيداء في غزوة بدر قبل الحرب (٣) ، وعن سعيد بن جبير : أنه أسلم ومع النبي عليه‌السلام ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، ثم أسلم عمر فنزلت الآية (٤) ، وقيل : نزلت في إسلام عمر حين كمل إسلامه أربعين رجلا من المسلمين وظهر الإسلام بمكة باسلامه (٥) ، فالسورة مدنية إلا هذه الآية ، أي كافيك الله ناصرا ، فالجملة مبتدأ وخبر ، والواو في (وَمَنِ) بمعنى «مع» ، فيكون (مَنِ) مع ما بعده في محل النصب على أنه مفعول معه ، نحو حسبك وزيدا درهم ، ومعناه كفاك الله وكفى اتباعك ناصرا ، ويجوز أن يكون (مَنِ) في محل الرفع عطفا على (اللهُ) ، أي كافيك الله والمؤمنون أيضا أو يكون مبتدأ محذوف الخبر بمعنى ومن اتبعك حسبهم الله.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

ثم قال حثا لهم على الثبات في القتال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أبلغ تحريض (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) عليه محتسبين في الجهاد (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) بنصر الله (وَإِنْ يَكُنْ) بالياء والتاء (٦)(مِنْكُمْ مِائَةٌ) صابرة كذلك (٧)(يَغْلِبُوا أَلْفاً) باذن الله (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أن الكافرين (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [٦٥] الله ودينه فيقاتلون بالجهل لا على احتساب وطلب ثواب كالبهائم ، فيقل ثباتهم فلا يقاومون المقاتلين في سبيل الله بالبصيرة ، قيل : الشرط في الآية لفظا في معنى الأمر (٨) ، يعني ليقاتل العشرون منكم مائتين منهم ، والمائة ألفا فلا يثبت الكفار لكم إن ثبتم أنتم ، قيل : «معناه أن لا يفر الواحد من العشرين ولا المائة من الألف» (٩) ، ووقع ذلك يوم بدر ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهز حمزة في ثلاثين راكبا ، فلقي أبا جهل في ثلثمائة راكب ، ثم شق نزول الآية عليهم لرفعهم الأصوات بالدعاء وضجيجهم يوم بدر ، فاستثقلوا ذلك فنزل قوله (١٠)(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) فنسخ ما قبله من التشديد بعد قتال بدر (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) بضم الضاد وفتحها (١١) ، وهو ضعف البدن ، وقيل : هو القلة في العدد والعدد (١٢)(فَإِنْ يَكُنْ) بالياء والتاء (١٣)(مِنْكُمْ مِائَةٌ

__________________

(١) عن عبد الله ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٥.

(٢) قوله ، ب س : ـ م.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٧٥.

(٤) انظر الكشاف ، ٢ / ١٧٥.

(٥) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٢٥.

(٦) «وإن يكن» : قرأ المدنيان والمكي والشامي بتاء التأنيث ، والباقون بياء التذكير. البدور الزاهرة ، ١٣٢.

(٧) (وَإِنْ يَكُنْ) بالياء والتاء (مِنْكُمْ مِائَةٌ) صابرة كذلك ، م : (وَإِنْ يَكُنْ) بالياء والتاء (مِنْكُمْ) مائة كذلك ، ب ، (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) بالياء والتاء (مِائَةٌ) كذلك ، س.

(٨) نقله المفسر عن البيضاوي ، ١ / ٣٩٠.

(٩) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٥.

(١٠) وهذا منقول عن السمرقندي ، ٢ / ٢٥.

(١١) «ضعفا» : قرأ عاصم وحمزة وخلف بفتح الضاد ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ١٣٢.

(١٢) لعل المصنف اختصره من الكشاف ، ٢ / ١٧٥ ؛ وانظر أيضا البيضاوي ، ١ / ٣٩٠.

(١٣) «فان يكن» : قرأ الكوفيون بياء التذكير والباقون بتاء التأنيث. البدور الزاهرة ، ١٣٣.

١٢١

صابِرَةٌ) محتسبة (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فنقص النصرة على قدر ما نقص من العدد (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ) صابرة محتسبة (يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [٦٦] بالنصرة ففرض على المسلمين أن لا يفر واحد من اثنين ولا المائة من المائتين ، قال ابن عباس : «من فر من رجلين فقد فر ومن فر من ثلاثة لم يفر» (١) ، قيل : من لم يكن معه سلاح وفي خصمه سلاح جاز له أن يفر منه لأنه ليس بمقاتل (٢).

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧))

(ما كانَ لِنَبِيٍّ) أي ما صح (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) بالتاء لتأنيث الجماعة وبالياء لتذكير الجمع (٣) ، نزل حين أسر المسلمون سبعين رجلا من المشركين يوم بدر ، وأتوه للنبي عليه‌السلام ، وقال أصحابه له خذ منهم فدية يقوي بها أصحابك ، فنهى الله عن ذلك ، فلما كثر المسلمون نزل (٤)(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)(٥) ، يعني ما استقام للرسول عليه‌السلام أن يقبل الفدية عن الأسارى ولكن السيف (حَتَّى يُثْخِنَ) أي يبالغ في قتلهم (فِي الْأَرْضِ) ليعز الإسلام ويقويه ويذل الكفر ويضعفه (تُرِيدُونَ) أي أتقصدون أيها المسلمون (عَرَضَ الدُّنْيا) أي حطامها بأخذكم الفداء من الأسارى وسمي حطامها عرضا لحدوثه وقلة لبثه (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي ثوابها لكم بالإثخان في القتل (وَاللهُ عَزِيزٌ) في ملكه يغلب أولياءه على أعدائه ، ويمكنهم قتلا وأسرا (حَكِيمٌ) [٦٧] في أمره يؤخر أخذه الفاداء إلى أن يكثروا بهم يعجلون ، فلما نزل آية المن والفداء خيروا بين استعباد الكفار وعتقهم وفدائهم وقتلهم.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))

قوله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) نزل حين أسرع المسلمون إلى الغنائم يوم بدر ، وكانت قبل ذلك لا تحل لأحد ، بل كان ينزل من السماء نار فتأكلها (٦) ، أي لو لا أن الله أحل الغنائم لهذه الأمة في اللوح المحفوظ (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) أي لأصابكم في أخذكم الفداء منهم (عَذابٌ عَظِيمٌ) [٦٨] قال النبي عليه‌السلام : «لو نزل من السماء عذاب ما نجا أحد غير عمر» (٧) ، لأنه لم يترك القتال حين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : ما ترون في هؤلاء الأسارى فقالوا : هم بنو العم والعشيرة ، نرى لهم أن نأخذ منهم الفدية ، فتكون لنا عدة على الكفار ، وقال عمر : أرى أن نضرب عنقهم ، فهم رسول الله أن يأخذ الفدية ، فهددهم الله تعالى بنزول ذلك ، فأمسكوا عن الغنائم (٨) ، ثم أحلها لهم بقوله (فَكُلُوا) الفاء للتسبيب ، والسبب محذوف ، أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا (مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) أي أكلا حلالا مستلذا أو هو نصب على الحال من المفعول المحذوف المغنوم (٩)(وَاتَّقُوا اللهَ) أي اخشوه فيما أمركم به ولا تعصوه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) أي متجاوز عما صدر منكم من أخذ الغنيمة قبل حلها (رَحِيمٌ) [٦٩] بكم إذا أحلها لكم أو بتوبته عليكم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠))

قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ) أي للذين في ملككم وقبضكم وأخذتم منهم الفداء (مِنَ الْأَسْرى) بيان

__________________

(١) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) قد أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٢٦.

(٣) «أسرى» : قرأ أبو جعفر بضم الهمزة وفتح السين وألف بعدها ، والباقون بفتح الهمزة وإسكان السين من غير ألف. البدور الزاهرة ، ١٣٣.

(٤) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٢ / ٦٥٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٧٦.

(٥) محمد (٤٧) ، ٤.

(٦) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٢ / ٦٥٣.

(٧) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦ ؛ والبغوي ، ٢ / ٦٥٤.

(٨) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٢٦.

(٩) المحذوف المغنوم ، ب س : ـ م.

١٢٢

ل (مِنَ) ، وقرئ «الأسرى» جمع أسير ، و «الأسارى» جمع الجمع (١) ، نزل حين وضع النبي عليه‌السلام الفداء على كل واحد من الأسرى أربعين أوقية من الذهب ، وكان مع العباس الأسير عشرون أوقية من ذهب ، حمله يوم بدر ليطعم بها المشركين ، فأخذ منه ولم يحسب من فدائه ، فكلم العباس رسول الله عليه‌السلام بأن يجعله من فدائه ، فأبى عليه ، وقال حملته لتستعين به علينا فلا أتركه لك ، فوضع عليه فداءه وفداء ابن أخيه عقيل ، فقال العباس : أتترك عمك يتكفف الناس؟ فقال عليه‌السلام أين الذهب الذي أعطيته أم الفضل فقلت لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فان حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله والفضل ، فقال العباس : من أعلمك بهذا يا ابن أخي؟ قال عليه‌السلام : الله أخبرني ، فأسلم العباس وأمر ابن أخيه أن يسلم ، وقال والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، فلم يبق لي ريب في أمرك فقال تعالى للنبي عليه‌السلام قل للأسارى ، أي للعباس وابن أخيه وغيرهما (٢)(إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي صحة نية وخلوص الإيمان (يُؤْتِكُمْ) أي يعطكم (خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) أي أفضل منه ، وهو الفداء بأن يضعفه لكم في الدنيا ويثيبكم عليه في الآخرة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم من الشرك والمعاصي التي كانت في الجاهلية (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٧٠] بقبول توبتكم وبهدايتكم إلى الإسلام ، ثم قال العباس : «أنجزني الله أحد الوعدين وهو أن الله أعطاه عشرين عبدا ، كل واحد منهم يتجر بعشرين آلاف فأرجو أن ينجز الوعد الثاني ، وهو المغفرة وثواب الجنة» (٣).

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

قوله (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) نزل حين منع الأسارى ما ضمنوا من الفداء ومالوا إلى الكفر بعد إسلامهم (٤) ، أي إن عصوا الله وأرادوا نكثه ما بايعوك (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي قبلك بكفرهم (فَأَمْكَنَ) أي أمكنك الله وأظهرك عليهم فانتقم (مِنْهُمْ) يوم بدر حتى أسرتهم وقتلتهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بخلقه وأعمالهم فيجازيهم بها (حَكِيمٌ) [٧١] بأن يمكنك لتفعل بهم مثل ما فعلته من قبل.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢))

ثم قال في ترغيب الهجرة من دار الكفر إلى دار الأسلام بعد الإيمان وفي إحسان المسلمين إلى المهاجرين باسكانهم ديارهم وإعطاء فضل طعامهم إياهم كما فعل الأنصار بهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله محمد عليه‌السلام (وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (وَجاهَدُوا) الكفار (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته ورضاه (٥)(وَالَّذِينَ آوَوْا) أي أنزلوا ديارهم النبي والمهاجرين (وَنَصَرُوا) أي وأعانوهم على عدوهم (أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في الدين والنصرة والميراث ، وكان الأنصار والمهاجرون يتوارثون الهجرة ، يدل عليه قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) في مكة (وَلَمْ يُهاجِرُوا) إلى المدينة (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ) بكسر الواو وفتحها (٦) ، أي من سلطنتهم وإمارتهم (مِنْ شَيْءٍ) في الميراث ، يعني لا توارثوا بينكم (حَتَّى يُهاجِرُوا) إليكم وإن كانوا أقرباءكم ، ثم قال (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) أي إن طلب المؤمنون الذين لم يهاجروا عن مكة النصر والإعانة (فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) أي فيجيب عليكم إن تنصروهم على عدوهم من المشركين (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي عهد ، يعني أنهم لو قاتلوا قوما بينكم وبينهم ميثاق وحلف فلا تنصروهم على عدوهم ، لأن

__________________

(١) «الأسرى» : قرأ أبو عمرو وأبو جعفر بضم الهمزة وفتح السين وألف بعدها ، والباقون بفتح الهمزة وإسكان السين من غير ألف. البدور الزاهرة ، ١٣٣.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٢٧ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٠٣ ؛ والبغوي ، ٢ / ٦٥٥.

(٣) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٧ ـ ٢٨ ؛ والبغوي ، ٢ / ٦٥٥.

(٤) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٨ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٧٧.

(٥) ورضاه ، ب م : ورضائه ، س.

(٦) «ولايتهم» : قرأ حمزة بكسر الواو ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٣٣.

١٢٣

الميثاق مانع لكم عن القتال ، فأصلحوا بينهم ، ونسخ هذا بآية السيف (١)(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [٧٢] في النصرة وعدمها فيجازيكم به.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله وأمرهما (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في الميراث والتواصل فلا توالوهم أنتم ولا تواصلوهم بنسبة القرابة والتوارث (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) شرط مجزوم ب «إن» ، أي إن لم تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضا حتى في الميراث تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ، وما نهيتكم عنه من المواصلة بالكفار بقطع العلائق بينكم وبينهم والتباعد عنهم وبقتالهم (تَكُنْ) أي تحدث (فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) بقوة الكفر (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) [٧٣] بضعف الإسلام ، لأن المسلمين إذا لم يصيروا يدا واحدة على أهل الشرك ضعفوا فظهر الشرك وزاد الفساد.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤))

ثم كرر الآية بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا) أي أنزلوا ووطنوا ديارهم المهاجرين (وَنَصَرُوا) النبي عليه‌السلام على عدوه (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي هم الكافرون في الإيمان (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من ذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [٧٤] أي ثواب حسن في الجنة ، إشارة إلى أن بعضهم هاجر قبل الحديبية وبعضهم هاجر بعدها ، وقيل : ليست بتكرير ، لأن الأولى لبيان التواصل بينهم ، والثانية واردة للثناء عليهم مع الوعد الكريم (٢).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

ثم قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي بعد المهاجرين بالهجرة الأولى (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) في دين الله (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي على دينكم فلطف تعالى باللاحقين بالهجرة الثانية بأن جعلهم من جملة السابقين في الثواب تفضلا منه ، قوله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في الميراث من المهاجرين والأنصار ، نزل نسخا للتوارث بالإسلام والهجرة (٣) ، لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة وبالمواخاة التي أوقعها النبي عليه‌السلام بينهم ، ويتوارثون بالإسلام والهجرة معا فلو كان الرجل أسلم ولم يهاجر فلا يرث أخاه ، فنسخه الله بذلك وقال ذلك (فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح المحفوظ أو في القرآن أو في حكم الله كما قال كتب الله لأغلبن ، أي حكم الله ، والمراد منه ما ذكر في سورة النساء من المواريث وقسمتها (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [٧٥] أي بما فرض من التوارث أولا وآخرا وغير ذلك ، فاعملوا بما أمركم به ولا تعصوه.

__________________

(١) ذكر ابن البارزي (هو هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم) أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ» (رقم الآية ، ٧٥ من هذه السورة) ، انظر ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه (تحقيق : الدكتور حاتم صالح الضامن) ، بيروت ، ١٤٠٥ ه‍ ـ ١٨٩٥ م ، ٣٥.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٧٨.

(٣) لعل المؤلف اختصره من البغوي ، ٢ / ٦٥٨ ؛ أو الكشاف ، ٢ / ١٧٨.

١٢٤

سورة التوبة

مدنية إلا (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ)(١) إلى آخر السورة

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣))

وإنما لم يكتب في أولها بسم الله الرحمن الرحيم ، لأن أصحاب رسول الله عليه‌السلام اختلفوا فيها ، فقال بعضهم : إنها والأنفال سورة واحدة (٢) ، وبعضهم قال : هما سورتان (٣) ، فعلى القول الأول تركت التسمية بينهما وعلى القول الثاني تركت بينهما فرجة ، روي عن علي رضي الله عنه : «أنها نزلت في المحاربة والسيف ، ولا أمان في السيف ، والبسملة من الأمان» (٤) ، وقيل سأل ابن عباس عثمان رضي الله عنهما عن ذلك ، فقال عثمان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه شيء من القرآن يقول : ضعوه في موضع كذا ، فقبض ولم يبين لنا ، فقرنت بين السورتين لتشابه إحديهما بالأخرى في القصة ، وتركت البسملة لعدم الإذن منه عليه‌السلام في ذكرها (٥).

قوله (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) نزل حين عاهد النبي عليه‌السلام باتفاق المسلمين في المعاهدة باذن الله أولا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب ، فنكثوا قبل الأجل إلا ناسا منهم ، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، فنبذ العهد إلى الناكثين ، فأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر بالأمان ، ثم لا عهد لهم (٦) ، فبراءة خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله ، ويجوز أن يكون مبتدأ موصوفا بما بعده ، والخبر «إلى» مع مجرورها ، أي تبرأ وقطع لذمتهما من كل مشرك نقض العهد بالمسلمين حاصل (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) أي إلى من كان له عهد بكم أيها المؤمنون (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [١] ومن ذلك تعلقت البراءة بالله ورسوله ، والمعاهدة بالمسلمين وهذا إخبار لكل طائفة من المسلمين بأن المشركين نقضوا عهودهم قبل الأجل ، وأوجب الله تعالى النبذ إليهم لئلا يغفلوا عنهم بمعنى اعلموا أن الله ورسوله بريئان من العهد الذي عاهدتم به المشركين ، وإنه منبوذ إليهم البتة (٧) ومنسوخ ، وكان نزولها في شوال ، فأمر الله أن يأمرهم بالسياحة في الأرض آمنين من القتال أربعة أشهر لينظروا في كيفية الإسلام ويعلموا حقيته فيؤمنوا بقوله (فَسِيحُوا) أي فقل لهم سيحوا (فِي الْأَرْضِ) أي سيروا فيها بالأمان (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم غير خائفين ، فحرم فيها قتلهم وقتالهم ، فمن كان عهده أربعة أشهر أمره أن يقره إلى أن تمضي هذه المدة ومن كان عهده أكثر منها أن يحطه إلى أربعة أشهر ، ثم لا عهد لهم بعد مضيها ، بل هو حرب وقتال بالسيف والرماح ، ومن لا عهد له فأجله انسلاخ الأشهر الحرم ، فقال مشيرا إلى ذلك (٨)(وَاعْلَمُوا) يا ناكثي العهود (أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي غير فائتي الله بأعمالكم

__________________

(١) التوبة (٩) ، ١٢٨.

(٢) وهذا القول منقول عن القرطبي ، ٨ / ٦٢.

(٣) أخذ المفسر هذا الرأي عن القرطبي ، ٨ / ٦٢.

(٤) انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٢.

(٥) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٣١ ـ ٣٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣.

(٦) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٧٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤ ، ٥.

(٧) البتة ، ب س : يا محمد ، م.

(٨) إلى ذلك ، ب س : إلى ذلك لذلك ، م.

١٢٥

بعد الأربعة الأشهر وهي الأشهر المذكورة ، وقيل : أول التأجيل عند الأضحى إلى آخر عشر من أول ربيع الآخر (١) ، وكانت حرما (٢) لهم لأمنهم فيها أو كونها حرما (٣) على تغليب ذي الحجة والمحرم على غيرهما (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) [٢] أي واعلموا أنه تعالى مذلهم بالقتل في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة ، قيل : نزلت البراءة بعد الهجرة إلى المدينة سنة تسع بعد فتح مكة بسنة ، فتجهز رسول الله عليه‌السلام للحج ، فقالوا له : إن المشركين يطوفون بالبيت عراة ، فبعث أبا بكر ومعه عشر آيات من هذه السورة ليقرأها على أهل مكة ، ثم بعث عليا وأمره أن يقرأ هو هذه الآيات ، لأن جبرائيل قال : لا يبلغ رسالتك إلا رجل منك وأن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله من كل مشرك ، فلا يطوف بالبيت عريان ، فرجع أبو بكر وقال : يا رسول الله! أأنزل في شأني شيء؟ قال : لا ، ولكن كان من عادة العرب في عقد العهود ونقضها أن لا يتولى ذلك إلا سيدهم أو رجل من قومه أقرب إليه نسبا ، فكن أنت على الموسم حاكما في أعمالهم ، وعلى ينادي بالآي (٤) ، وقيل لأن أبا بكر كان خفيض الصوت وعليا جوهري الصوت فأراد أن يسمعها جميع الناس بالتأذين النازل من الله تعالى في قوله (٥)(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) وهو جملة معطوفة على مثلها من (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) الآية كالتأكيد في بيانها كارتفاع (بَراءَةٌ) في الوجهين ، قيل : «الفرق بينهما أن تلك إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام» (٦) ، لأن الأذان بمعنى الإعلام (٧) ، أي هذه إعلام حاصل من الله ورسوله (إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وهو يوم النحر ، لأن معظم أفعاله فيه من الطواف والنحر والحلق والرمي أو يوم عرفة ، لأن الوقوف بعرفة معظم أفعاله الواجبة ، لأنه إذا فات فات الحج لا يجبره دم ، وقيل : الأكبر نفس الحج والأصغر العمرة لنقصان عملها من عمل الحج (٨) ، وإنما علق الأذان بالناس وعلق البراءة الذين عوهدوا من المشركين ، لأن الأذان عام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ومن نكث العهد ومن لم ينكث ، وأما البراءة فمختصة بالمعاهدين الناكثين ، قوله (أَنَّ اللهَ) بفتح «أن» مع اسمها وخبرها نصب بأنه مفعول «أذان» ، أي إعلام منهما أن الله (بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بالرفع مبتدأ ، خبر حذوف ، أي ورسوله بريء أيضا لنكثهم ععودهم ، فلم يبق منا عهد وأمان لهم ، فلما كان يوم التروية قال أبو بكر خطيبا للناس فحدثهم عن مناسكهم وأقام الحج للناس يوم عرفة ، ثم قال علي يوم النحر عند جمرة العقبة وأذن في الناس بما أمر به من الآيات العشر ، وبأن لا يطوف عريان بالبيت ، وأن لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وإن من كان بينه وبين رسول الله عليه‌السلام عهد ، فان أجله إلى أربعة أشهر ، فاذا مضت المدة فلا عهد له ، ومن لا عهد له فعهده أربعة أشهر ، وبأن فريق المشركين لا يجتمع مع فريق المسلمين بعد عامهم هذا ، فقال الناكثون منهم : يا علي أبلغ ابن عمك أنا ، قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، فليس العهد بيننا وبينه إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ، ثم قال (فَإِنْ تُبْتُمْ) من الشرك ونكث العهد (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من الإقامة عليه (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي إن أعرضتم (٩) وأبيتم الإيمان وأقمتم على الكفر (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي غير فائتين من عذابه ، ثم قال للنبي عليه‌السلام (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [٣] وهو القتل في الدنيا وعذاب النار في الآخرة.

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

ثم استثني من قوله «بَراءَةٌ» «إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» من لم ينقض العهد بقوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٢) حرما ، ب م : حراما ، س.

(٣) حرما ، ب م : حراما ، س.

(٤) اختصره المصنف من السمرقندي ، ٢ / ٣٢ ، ٣٣ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٨٠.

(٥) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٣٣.

(٦) أخذه عن الكشاف ، انظر الكشاف ، ٢ / ١٨٠.

(٧) لأن الأذان بمعنى الإعلام ، ب : والأذان بمعنى الإعلام ، م ، ـ س.

(٨) اختصره المفسر من البغوي ، ٣ / ٨.

(٩) أي إن أعرضتم ، م : أي أعرضتم ، ب س.

١٢٦

مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهم بنو كنانة وبنو ضمرة ، وقيل «من قوله (فَسِيحُوا)(١) ، أي فقولوا : سيحوا في الأرض إلا الذين عهدتم منهم (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من عهودكم (وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) من المشركين (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي إلى تمام (٢) أجلهم وكان قد بقي من عندهم تسعة أشهر ، يعني أدوه إليهم كملا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [٤] من نقض العهد والوافين به.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

(فَإِذَا انْسَلَخَ) أي خرج (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) التي حرمت دماء المشركين على المؤمنين فيها ، وهي الأشهر الأربعة المؤجلة لهم أو هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الناكثين العهود (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي في الحل والحرم (وَخُذُوهُمْ) أي أسروهم (٣) بشد الوثاق (وَاحْصُرُوهُمْ) أي احبسوهم في حصونهم إن لم تظفروا بهم أو امنعوهم عن البيت الحرام إن يدخلوا فيه (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي ترقبوهم في كل طريق وممر لتأخذوهم وتشدوهم بالوثاق (فَإِنْ تابُوا) من الشرك (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي إن يقروا باقامة الصلوة الواجبة (وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي إن يقروا بأداء الزكوة المفروضة (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي اتركوهم ولا تقتلوهم فيدخلون مكة ويتصرفون في البلاد مثلكم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٥] يغفر لهم ما مضى من الذنوب ويرحمهم لإسلامهم وطاعتهم.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

قوله (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) شرط ، و (أَحَدٌ) فاعل فعل محذوف ، لأن (إِنْ) لا يليها إلا الفعل لفظا أو تقديرا ، والدليل على حذفه (اسْتَجارَكَ) ، روي : أن رجلا من المشركين قال لعلي : إن أراد واحد منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل لسماع كلامه أو لحاجة من الحاجات أيقتل؟ فقال : لا لقوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) الآية (٤) ، فالمعنى : إن جاءك أحد من المشركين الذين أمروا بقتالهم بعد مضي الأشهر الحرم يطلب منك الأمان (فَأَجِرْهُ) أي فآمنه وإن لم يكن بينك وبينه ذمة وعهد (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) أي قراءتك لكلام الله ، فيعلم ما له وما عليه من الشرائع في الإسلام (ثُمَّ أَبْلِغْهُ) أي أوصله (مَأْمَنَهُ) أي دار قومه وإن لم يسلم ، فان قاتلك بعده فقاتله (ذلِكَ) أي ما أمرتك به من الإجارة (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) [٦] حكم الله ودينه فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا (٥) ويفهموا كلام الحق ، ففيه دليل على أن حربيا لو دخل دار الإسلام بالأمان (٦) يكون آمنا إلى أن يرجع إلى مأمنه.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧))

ثم قال مستفهما باستفهام الإنكار والتعجب (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) أي لا عهد لهم عندهما ، يعني مستبعد ومستحيل أن يثبت لهم عهد ، فلا تطمعوا فيه منهم ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عام الحديبية ، قيل : هم بنو كنانة وبنو ضمرة ، فانهم لم ينقضوا العهد فتربصوا أمرهم باتمام عهدهم (٧)(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) أي فما داموا على وفاء العهد بكم (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) بالوفاء على التمام (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [٧] ربهم أن يقضوا العهد.

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٨١.

(٢) تمام ، ب س : إتمام ، م.

(٣) أسروهم ، س م : إئسروهم ، ب.

(٤) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٤.

(٥) حتى يسمعوا ، ب س : حين سمعوا ، م.

(٦) بالأمان ، ب م : بأمان ، س.

(٧) وهذا منقول عن السمرقندي ، ٢ / ٣٤.

١٢٧

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩))

ثم كرر الاستفهام لزيادة الاستبعاد لثبات المشركين على العهد ، وحذف فعل الاستفهام لكونه معلوما عما قبله ، فقال (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا) أي كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يغلبوا (عَلَيْكُمْ) ويظفروا بكم (لا يَرْقُبُوا) أي لم ينظروا ولم يحفظوا (فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي قرابة ولا عهدا ، وقيل ال «إل» بمعنى الإله (١) ، أي لا يترقبوا الله ولا عهده (٢) قوله (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) كلام مستأنف لبيان حالهم من مخالفة الظاهر والباطن ، أي يظهرون لكم الجميل بألسنتهم كالمنافقين (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) الإيمان والطاعة ، أي ويضمرون في صدورهم الكفر والمعصية ، ولا يجوز أن يكون حالا لفساد المعنى ، لأنهم بعد أن يظفروا بكم ولا يرضونكم أصلا (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) [٨] بنقض العهد وغيره وقيد «الأكثر» ، لأن منهم من وفى به (اشْتَرَوْا) أي استبدلوا (بِآياتِ اللهِ) أي بالقرآن (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا ونيل الشهوات ، وذلك : أن أبا سفيان من المشركين كان يطعم الطعام ناقضي العهد منهم ، ويعطي مالا كالناقة وغيرها ليصد بذلك الناس عن متابعة النبي عليه‌السلام (٣) ، وقيل : نزلت الآية في اليهود الذين كتموا صفة النبي عليه‌السلام في كتابهم بشيء من الأكلة يأخذونه من سفلتهم (٤)(فَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن دين الإسلام (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [٩] من صدهم الناس عن دين الله.

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠))

ثم كرر بيان نقضهم العهد تأكيدا لعداوتهم المؤمنين بقوله (لا يَرْقُبُونَ) أي لا يحفظون (فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي قرابة ولا عهدا (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [١٠] أي المجاوزون الغاية في الظلم بترك أمر الله ونقض العهد الذي بينهم وبين المؤمنين ، يعني لا تغفلوا عنهم فانهم إذا ظفروا بكم لا يرحمونكم لغاية ظلمهم وكفرهم.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١))

(فَإِنْ تابُوا) من الكفر وآمنوا (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم مؤمنون مثلكم (فِي الدِّينِ) فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، قال ابن عباس : «حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة» (٥)(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبين أحكام القرآن (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [١١] أنها من الله وهو حث على تأمل ما فصله من أحكام المحافظين على العهود والناقضين لها ، كأنه قال من تأمل نفصيل الآيات فهو العالم.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي إن نقضوا (٦) عهودهم التي أظهروها (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) بكم قبل أجله أو رجعوا عن توبتهم ومواخاتكم في الدين (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي عابوا دينكم الإسلام (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) بتحقيق الهمزتين على الأصل ، وبه مع إدخال ألف بينهما تخفيفا ، وبهمزة واحدة بعدها ياء مكسورة بكسرة خفيفة لاستثقال الهمزتين في كلمة واحدة (٧) ، جمع إمام كعماد وأعمدة ، والمراد المتمردون في الشرك الذين يقولون أن دين محمد ليس بشيء بعد علمهم أنه حق ، والأصل فقالوهم وضع (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) موضع ضميرهم إشعارا بتمردهم وطغيانهم في الكفر بسبب نكثهم العهد في حال الشرك (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) بفتح الهمزة ، أي لا

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٨٣.

(٢) ولا عهده قوله ، س : ولا عهدا ، ب م.

(٣) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٥.

(٤) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٥.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ١٣.

(٦) أي إن نقضوا ، ب : أي نقضوا ، ب م.

(٧) «أئمة» : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ورويس بتسهيل الثانية بلا إدخال لأحد منهم ، وقرأ أبو جعفر بالتسهيل مع الإدخال ، وقرأ هشام بالتحقيق مع الإدخال وعدمه ، وقرأ الباقون بالتحقيق من غير إدخال. البدور الزاهرة ، ١٣٣ ـ ١٣٤.

١٢٨

عهود لهم حقيقة ، لأنهم لا يوفون بها ، وبكسر الهمزة (١) ، أي لا تصديق لهم في دينكم ، قيل : «فيه دليل على أن الذمي إذا طعن دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله» (٢) ، لأن العهد قد انعقد على أن لا يطعن فاذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة ، وبه استشهد أبو حنيفة أن يمين الكافر لا يكون يمينا لقوله (لا أَيْمانَ لَهُمْ) ، فلا يوجب الكفارة على الكافر إذا حنث ، وقال الشافعي : يكون يمينا بدليل وصفها بالنكث ، فيوجب الكفارة على الكافر إذا حنث (٣) ، وهذا الخلاف انما يظهر إذا أسلم بعد انعقاد اليمين وحنث فيه ، فالمعنى : فانهم إذا طعنوا في دينكم فقاتلوهم (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) [١٢] أي لكي ينتهوا عن نقض العهد والكفر.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣))

ثم حث المؤمنين على قتال المشركين قبل فتح مكة بقوله (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي عهودهم قبل انقضاء أجلها (٤)(وَهَمُّوا) أي قصدوا (بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكة بعد المشاورة في أمره بدار الندوة ، خطاب للذين قعدوا عن المقاتلة ، والاستفهام تقرير بانتفائها توبيخا على تركها ووهنها ، المعنى : أنكم مستقرون على ما كنتم عليه من عدم المقاتلة بعد ، فما لكم لا تقاتلونهم (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ) بالقتال (أَوَّلَ مَرَّةٍ) بنقض العهد ، لأنهم بدؤا بقتال خزاعة لمعاونة بني بكر عليهم وخزاعة كانت حلفاء النبي عليه‌السلام ، فكانت البداية منهم في نقض العهد ، ثم وبخهم على خوفهم من المشركين الناكثين بقوله (أَتَخْشَوْنَهُمْ) فلا تقاتلوهم (فَاللهُ أَحَقُّ) أي أحرى من غيره (أَنْ تَخْشَوْهُ) بالهيبة في ترك أمره فقاتلوا أعداءه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٣] أي مصدقين به وبوعده.

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤))

ثم وعد لهم النصرة تشجيعا لهم عليهم بقوله (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) أي يقتلهم بسببكم ويهزمكم (وَيُخْزِهِمْ) أي ويذلهم بالأسر والقتل (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) أي على قريش (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [١٤] وهم خزاعة ، طائفة من اليمن جاؤا مكة فأسلموا فلقوا أذى كثيرا من أهل مكة ، فشكوا إلى رسول الله عليه‌السلام فقال ابشروا! فان الفرج قريب ، أي ويبرئ داء قلوبهم ويفرحهم بقتلهم وأسرهم.

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) أما لقوا منهم من المكاره وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها ، فدل ذلك على صحة نبوة رسول الله وصدقه (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي على ناس من أهل مكة ، وقد أسلم كثير منهم وحسن أسلامه (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي يعلم (٥) ما سيكون كما يعلم ما كان (حَكِيمٌ) [١٥] لا يفعل إلا ما اقتضته حكمته وعلمه.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

قوله (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) نزل حين أمر الله المؤمنين بقتال المشركين ، فشق ذلك على بعضهم (٦) ، فقال تعالى : أظننتم أن تتركوا على الإيمان أيها المؤمنون ولم تبتلوا بالأمر بالقتال (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) بعلم (٧) التمييز في الوجود (الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) من الذين لم يجاهدوا وإن كان الله عالما بعلم (٨) الغيب إياه لكنهم لم يستحقوا الثواب

__________________

(١) «لا أيمان» : قرأ ابن عامر بكسر الهمزة وبعدها ياء ساكنة مدية ، والباقون بفتح الهمزة وبعدها ياء ساكنة غير مدية. البدور الزاهرة ، ١٣٤.

(٢) هذا منقول عن الكشاف ، ٢ / ١٨٣.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٨٣.

(٤) أجلها ، ب م : آجالها ، س.

(٥) أي يعلم ، م : يعلم ، ب س.

(٦) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٨.

(٧) بعلم ، ب س : يعلم ، م.

(٨) بعلم ، ب س : يعلم ، م.

١٢٩

والجنة بذلك العلم ، قوله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) عطف على (جاهَدُوا) ، داخل في الصلة ، أي ولم يظهر المجاهدون منكم والمخلصون الذين لم يتخذوا من غير الله (وَلا رَسُولِهِ) أي ومن غير رسوله (وَلَا الْمُؤْمِنِينَ) أي ومن غير المؤمنين (وَلِيجَةً) أي بطانة لصيقا بهم (١) بالصداقة والتحاب يفشى به سره ، من ولج إذا دخل ، يقال لخاصة الرجل وليجة ودخيلة ، وقيل : «الوليجة كل من يتخذه الرجل معتمدا عليه من غير أهله في حفظ سره» (٢) ، والمراد الأصفياء والأولياء ، يعني ولم يتخذوا بينهم وبين أهل الكفر صفوة ومودة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [١٦] بالتاء من الجهاد والتخلف والخلوص في الدين ومودة أهل الكفر وغير ذلك من الخير والشر فحذوا منه.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧))

قوله (٣)(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) مفردا وجمعا (٤) ، والمراد بها الكعبة ، وجمعت لإرادة الجنس الذي يدخل فيه الكعبة أو جعل كل جزء منها مسجدا ، نزل حين أسر العباس يوم بدر وعيره المهاجرون بقتال النبي عليه‌السلام وبقطيعة الرحم وأغلظوا له في القول ، فقال : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له علي : هل لكم شيء من المحاسن؟ فقال مفتخرا في إشراكه : إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونحجها ونسقي الحاج ونفك العاني ونقرئ الضيف (٥) ، فرد الله عليه بقوله (ما كانَ) ، أي ما جاز للمشركين أن يعمروا المسجد (شاهِدِينَ) حال من واو (يَعْمُرُوا) ، أي حال كونهم يشهدون (عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) بنصبهم الأصنام حول المسجد وعبادتهم إياها ، والمسجد لله وعبادته وحده (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) في الدنيا (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) [١٧] أي دائمون في الآخرة.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي بتوحيده ولم يذكر الإيمان برسول الله اكتفاء بذكر الإيمان بالله لما شهر أن هذا قرين ذلك لا ينفك أحدهما عن صاحبه فكأنهما (٦) شيء واحد لاشتمال كلمة الشهادة على الإيمان بهما (٧)(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالبعث يوم القيامة (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي يداوم (٨) على الصلوات الخمس مع الجماعة (٩)(وَآتَى الزَّكاةَ) أي الصدقة المفروضة عن طيب نفس (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي ولم يترك أمر الله تعالى خشية منه لا من غيره والكافر بالله ممتنع من ذلك كله ، قيل : الكافر إذا أوصي بعمارة المسجد لا يمتثل (١٠)(فَعَسى أُولئِكَ) أي فلعل أهل هذه الصفة (أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [١٨] أي أهل كونهم من الراشدين لدين الله ، ولهم أجر أعمالهم عند ربهم ، وفيه حسم لإطعام المشركين في الانتفاع بأعمالهم ، وتبعيد لهم عن الاتصاف بالاهتداء ، قيل : مرويا عن الرسول عليه‌السلام : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» (١١) ، وقال عليه‌السلام : «من بنى لله مسجدا بنى الله له كهيئته في الجنة» (١٢).

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا

__________________

(١) لصيقا بهم ، ب م : لصفائهم ، س.

(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٣) منه قوله ، ب م : ـ س.

(٤) «مساجد» : قرأ المكي والبصران باسكان السين ويلزمه حذف الألف بعدها علي الإفراد ، والباقون بفتح السين وألف بعدها على الجمع. البدور الزاهرة ، ١٣٤.

(٥) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ١٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٩ ؛ والواحدي ، ٢٠٤.

(٦) فكأنهما ، س م : وكأنهما ، ب.

(٧) بهما ، ب س : ـ م.

(٨) يداوم ، ب س : بدوام ، م.

(٩) مع الجماعة ، س : مع الجماعات ، ب م.

(١٠) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ١٧.

(١١) رواه ابن ماجة ، المساجد ، ١٩ ؛ والدارمي ، الصلوة ، ٢٣ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٣ / ٦٨ ، ٧٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ١٩ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٨٥.

(١٢) أخرج الترمذي نحوه ، الصلوة ، ٢٣٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ١٩.

١٣٠

يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩))

قوله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نزل حين تنازع المشركون والمسلمون في سقاية الحاج وعمارة الكعبة والجهاد أيها أفضل ردا لتنازعهم ونفيا للتسوية بينهم بالاستفهام الإنكاري (١) ، والسقاية مصدر سقي ، والعمارة مصدر عمر ، وإنما صحت الياء بعد الألف ولم تقلب همزة لأجل التاء كالبداية من البدء ، أي أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وأصحاب عمارة المسجد الحرام (كَمَنْ آمَنَ) أي أجعلتم (٢) إيمان هؤلاء كايمان من آمن (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في دينه (لا يَسْتَوُونَ) في الثواب (عِنْدَ اللهِ) إذ لا ثواب مع الكفر (وَاللهُ لا يَهْدِي) أي لا يرشد إلى الفلاح أو المعرفة (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [١٩] أنفسهم بتكذيبهم الرسول وما جاء به من الحق ، إذ الكفر ينافي الهداية.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

ثم قال مستأنفا (الَّذِينَ آمَنُوا) بتوحيد الله (وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) تمييز أي أفضل مرتبة في الجنة من الذين لم يؤمنوا ولم يهاجروا (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [٢٠] أي المختصون بالفوز والنجاة من النار لا أنتم أيها المشركون.

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١))

(يُبَشِّرُهُمْ) أي يفرح المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات (رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) أي بثوابه (وَرِضْوانٍ) أي والرضا (٣) بالثواب الذي أعطاهم (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) [٢١] أي تنعم دائم لا ينقطع عنهم.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) تأكيدا للخلود لئلا يحمل على المكث الطويل (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [٢٢] لا يوصف لكثرته ، قال ابن عباس رضي الله عهما : نزلت الآية في المهاجرين خاصة (٤) ، وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويترك أقاربه الكفرة ، فبشرهم الله تعالى بهذه الكرامة السنية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ) الذين بمكة (أَوْلِياءَ) أي أصفياء وبطانة (إِنِ اسْتَحَبُّوا) أي اختاروا (الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) بالجلوس مع الكفار ، نزل فيمن أمر بالهجرة بعد الإيمان وثبطه أهله وماله عنها (٥) أو نزل في تسعة ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة (٦) ، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) بعد نزول هذه الآية (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [٢٣] أي الضارون أنفسهم بالكفر ، لأن من أحب قوما فهو منهم ، قال عليه‌السلام : «المرأ مع من أحب» (٧) ، أي في الآخرة وقال أيضا : «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله» (٨) ، أي حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس (٩).

__________________

(١) لعل المؤلف اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٠ ، ٢١ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٨٦.

(٢) أي أجعلتم ، م : أو أجعلتم ، ب س.

(٣) أي وبالرضا ، س : أي والرضا ، ب م.

(٤) انظر الكشاف ، ٢ / ١٨٦.

(٥) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٠ ؛ والواحدي ، ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٢.

(٦) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٧) رواه البخاري ، الأدب ، ٩٦ ؛ ومسلم ، البر ، ١٦٥ ؛ والترمذي ، الزهد ، ٥٠ ، والدعوات ، ٩٨.

(٨) أخرج النسائي نحوه ، الإيمان ، ٢.

(٩) حتى يحب في الله ويبغض في الله أي حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس ، ب م : حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أي حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس إليه ، س.

١٣١

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

قوله (١)(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) مفردا و «عشيراتكم» جمعا (٢) ، أي قومكم الذين بمكة (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) أي اكتسبتموها بمكة (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ) أي تخافون (كَسادَها) أي عدم نفاقها فتبقى عليكم (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أي منازلكم الحسنة العالية تعجبكم الإقامة فيها (أَحَبَّ) خبر «كان» ، أي إن كان هذه الأشياء التي اعتمدتم على أحب (إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) أي من الهجرة إلى الله (وَرَسُولِهِ) بالمدينة (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) أي إلى غزو في طاعة الله (فَتَرَبَّصُوا) أي فانتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) وهو فتح مكة أو الموت ، ثم البعث أو قتال أقربائكم الذين تحبونهم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [٢٤] أي الخارجين عن أمر الله ورسوله ، وهذا وعيد شديد لمن يختار لذات الدنيا على لذات الآخرة ، قيل قوله (وَإِنْ نَكَثُوا) إلى ههنا نزل قبل فتح مكة في المدينة (٣).

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥))

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) أي في مواقف الحرب ومقاماتها تنبيها لهم على أن الناصر لهم هو الله لا كثرتهم وقوتهم ، ودفعا لإعاجبهم بكثرتهم وشجاعتهم ، والمواطن الكثيرة وقعات بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة ، قوله (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) عطف على (مَواطِنَ) بتقدير موطن قبل الظرف ، أي في موطن يوم حنين أو اذكر يوم حنين ، فيكون عطف جملة على جملة ، وهو الأوجه لكون «إذ» في (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدلا من (يَوْمَ حُنَيْنٍ) ، فلو عطف على (مَواطِنَ) لعمل فيه (نَصَرَكُمُ) ، فيكون المعنى : أن كثرتكم أعجبتكم في مواطن كثيرة وفي يوم حنين ، والحال أن كثرتكم (٤) لم تكن (٥) إلا يوم حنين ، وفيه أعجبتكم (٦) ، لأن النبي عليه‌السلام بعد فتح مكة خرج إلى غزو حنين ، وهو واد بين مكة والطائف في اثني عشر ألفا ، عشرة آلاف هم الخارجون معه من المدينة إلى فتح مكة ، وألفان من أهل مكة لحرب هوازن ، عليهم مالك بن عوف أمير ، وهم أربعة آلاف ، وكان فتح مكة في شهر رمضان ، وخروجه إلى حنين في شوال فبعث رسول الله إليهم عينا ، فأتى حنينا فسمع من أمير القوم يقول لأصحابه : أنتم اليوم أربعة آلاف ، فاذا لقيتم العدو فاحملوا عليهم حملة رجل واحد ، واكسروا جفون سيوفهم عليهم فو الله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئا إلا أفرج لكم ، فأقبل العين إلى النبي عليه‌السلام فأخبره بمقالة أميرهم ، فقال رجل من المسلمين : فو الله يا نبي الله لن نغلب اليوم عن قلة ، فأوصل العين بعسكر النبي عليه‌السلام فساء رسول الله كلمته ، لأنها كلمة الإعجاب بالكثرة ، وزل عنه ، إن الله هو الناصر لا الكثرة ، فلما التقى الجمعان واقتتلوا قتالا شديدا انهزم المسلمون ولم يبق مع النبي عليه‌السلام سوى العباس وأبي سفيان ، وأول من انهزم من الناس أهل مكة ، وثبت رسول الله على بغلته البيضاء والتفت عن يمينه وعن يساره يقول : يا أنصار الله وأنصار رسوله! أنا عبد الله ورسوله سائر اليوم ، ثم تقدم بحربته أمام الناس (٧).

روي : أنه كان يحمل على الكفار فيفرون ثم يحملون عليه فيقف لهم فعل ذلك بهم بضع عشرة مرة ، قال العباس : كنت أكف بغلته لئلا تسرع به نحو المشركين وأبو سفيان ابن عمه آخذ بركابه فقال النبي عليه

__________________

(١) قوله ، م : ـ ب س.

(٢) «عشيرتكم» : قرأ شعبة بألف بعد الراء علي الجمع ، والباقون بغير ألف على الإفراد. البدور الزاهرة ، ١٣٥.

(٣) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٤٠.

(٤) كثرتكم ، م : كثرتهم ، ب س.

(٥) لم تكن ، ب : لم يكن ، س م.

(٦) أعجبتكم ، م : أعجبتهم ، ب س.

(٧) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٤١.

١٣٢

السّلام : يا ابن عباس ناد أصحاب السمرة وكان صيتا فناداهم فخذا فخذا يا أصحاب السمرة! يا أصحاب سورة البقرة إلى إلى فعطفوا عليه عطفة (١) البقرة (٢) على أولادها ، يقولون لبيك لبيك فأمده الله بخمسة آلاف من الملائكة وعليهم البياض على خيول بلق فاقتتلوا ، فقال عليه‌السلام الآن حمى الوطيس وهو التنور ، ثم رمى المشركون بحصيات ، فانهزموا وكان النبي عليه‌السلام يركض خلفهم ببغلته ، وأخذ المسلمون أموالهم وهو الذي سمي يوم أوطاس (٣) ، فأخبر الله تعالى أن الغلبة ليست بكثرتكم ولكن بنصر الله وعونه بقوله (فَلَمْ تُغْنِ) كثرتكم (عَنْكُمْ) أي عن قضاء الله النازل بكم (شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ) من الرعب (بِما رَحُبَتْ) أي مع رحبها وهو سعة الأرض ، وهو الجار (٤) والمجرور في موضع الحال ، يعني ملتبسة برحبها ، والمعنى : أنكم لا تجدون موضعا تلتجئون إليه من شدة خوفكم (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ) أي رجعتم (مُدْبِرِينَ) [٢٥] أي منهزمين.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦))

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي طمأنينتة وهي التي تسكن القلوب بها من رحمته (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ) من السماء (جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) يعني الملائكة ، قيل : كانوا ثمانية آلاف أو ستة عشر ألفا (٥)(وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم أهل هوازن بأيدي المؤمنين (وَذلِكَ) أي العذاب من القتل والأسر والسبي والنهب (جَزاءُ الْكافِرِينَ) [٢٦] بالله ورسوله في الدنيا والآخرة نار جهنم.

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد قتلهم وسبيهم وهزمهم (عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ) لما سلف من الشرك والمعاصي (رَحِيمٌ) [٢٧] بالتوبة والإسلام.

قيل : «لما انهزم مالك بن عوف سار مع ثلاثة آلاف إلى منزله ، فندم من شركه فأرسل إلى النبي عليه‌السلام أني أريد أن أسلم فما تعطيني؟ فقال عليه‌السلام : إني أعطيك مائة من الإبل ورعاتها ، فجاء وأسلم فأقام يومين أو ثلاثة ، فلما رأى المسلمين وزهدهم واجتهادهم رق قلبه لذلك ، فقال له رسول الله عليه‌السلام : يا ابن عوف ألا نفي بما وعدناك من الشروط؟ فقال : يا رسول الله أمثلي يأخذ على الإسلام شيئا ، فكان مالك بن عوف يعد ذلك ممن فتح بلاد الشام وأسلم أهلها على يده» (٦).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

ثم نزل لمنع المشركين عن دخول الحرم قوله (٧)(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) أي ذوو نجس بفتح الجيم والتخفيف فيه لغة ، أي قذر لشركهم وترك غسل الجنابة وعدم تحاميهم عن النجاسة أو جعلوا كأنهم نجس بعينه مبالغة في وصفهم بالنجاسة ، والمراد : النجاسة الحكمية لا النجاسة العينية وإلا لما طهرهم الإسلام ، وقال ابن عباس : «أعيانهم نجسة كالكلب والخنزير» (٨) ، ولذلك قيل : «من صافحهم فليتوضأ» (٩) ، ويمكن أن يقال إن الإسلام لا يطهر المطبوعين على الكفر ويطهر الجاهلين بحقيقة الأمر (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) من قرب بكسر الراء وفتحها إذا دنا ، وبضمها إذا زاد في الدنو ، أي لا يدخلوا الحرام أو لا يعتمروا ولا يحجوا كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، لأنهم أنجاس (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي بعد حج هذا العام وهو سنة تسع من الهجرة ، وبه

__________________

(١) عطفة ، س : عطفه ، ب م.

(٢) البقرة ، س م : البقر ، ب.

(٣) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤١ ـ ٤٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٥ ـ ٢٦ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٨٧.

(٤) وهو الجار ، س : والجار ، ب م.

(٥) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٨٨.

(٦) عن محمد بن كعب القرظي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٢.

(٧) قوله ، م : ـ ب س.

(٨) انظر الكشاف ، ٢ / ١٨٨.

(٩) عن الحسن ، انظر الكشاف ، ٢ / ١٨٨.

١٣٣

استدل الشافعي على وجوب منع المشركين من دخول الحرم ، وقال أبو حنيفة : يجوز للذمي أن يدخل جميع المساجد ، لأن الكفار كانوا يدخلون مسجد المدينة إذا قدموا وافدين من قومهم ، فعنده الآية نزلت في شأن أهل الحرب ، أي لا يدخلوه بغير أمان ولا عهد ولا رق ، يعني يمنعون من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه ، ولما منع المشركون من دخول المسجد خاف المسلمون الفقر لانقطاع الميرة عنهم ولأن تجار المشركين قالوا لهم من أين تأكلون إذا فعلتم هذا؟ فوسوسوا إليهم فخزنوا فنزل (١)(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي فقرا (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من عطائه أو من تفضله من وجه آخر (إِنْ شاءَ) إذ لا مكره له علي ما يشاء ففرحوا بذلك ، قيل : أسلم أهل جدة وصنعاء ، فحملوا الطعام إلى مكة من البر والبحر (٢) ، وقيل : أمرهم الله بقتال أهل الكتاب فأغناهم بالجزية (٣) ، وقيل : بفتح البلاد وأخذ الغنائم (٤)(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوال خلقه (حَكِيمٌ) [٢٨] في أمره لا يعطي ولا يمنع إلا بحكمة.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

قوله (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالبعث بعد الموت ، نزل في قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين لا يعملون بما في كتابهم (٥)(وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) في التورية والإنجيل والقرآن (وَلا يَدِينُونَ) أي لا يعتقدون ولا يقرون (دِينَ الْحَقِّ) أي دين الإسلام الذي هو دين الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا) أي أعطوا (الْكِتابَ) بيان ل (الَّذِينَ) لا يؤمنون ، قيل : أهل الكتاب يقرون بالله ، لكنهم قائلون بأن له ولدا ، ويقرون بالبعث لكنهم لا يقرون بنعيم الجنة بالأكل والشرب والجماع ، ويقرون بالدين ولا يقرون بدين الحق الذي أمرهم به (٦) ، فجعلوا كأنهم لا يؤمنون أصلا ، فأمر الله بقتالهم (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) وهي الخراج المعجول عليهم ، من جزى إذا قضى ، وسمي جزية ، لأنه مال معلوم ، ضرب على أهل الذمة لأن يقضوه بدل قتلهم كل سنة (عَنْ يَدٍ) أي عن قهر من الآخذ أو عن يد نقد لا نسئة من المعطي ولا عن يد غيره باذنه وبعثه بها أو عن إنعام عليهم ببذل أرواحهم لهم (وَهُمْ صاغِرُونَ) [٢٩] أي ذليلون بقهر من الآخذ لإفراطهم في الكفر بعد قيام البرهان على صدق النبي عليه‌السلام وعلمهم نعته في كتابهم ، يعني يعطون جزيتهم من قيام ، والآخذ قاعد ، وقيل : يأخذ المسلم بتلبيب الذمي ويقول له أد جزيتك ويزج في قفاه وإن كان يؤديها (٧) ، وقيل : «يأخذها ويوطأ عنقه» (٨) ، ويؤخذ في آخر الحول من الفقير المعتمل دينار وعلى المتوسط ديناران وعلى الغني أربعة دنانير (٩) ، قيل : أقل ما يؤخذ دينار وأكثره ما وقع التراضي عليه ، وهذا عند الشافعي (١٠) ، وقال أبو حنيقة : يؤخذ في أول كل سنة من الفقير الكاسب اثنا عشر درهما ، ومن المتوسط ضعفها ومن الغني ضعف الضعف ثمانية وأربعون ولا يسقط (١١) ، لو مات أو أسلم بعد الحول ، وفي أثناء الحول قولان للشافعي ويسقط عند أبي حنيفة بالإسلام والموت.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠))

قوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) بالتنوين لكونه منصرفا عند البعض وهو اسم عربي مصغر ومكبره عزر ،

__________________

(١) وهذا منقول عن السمرقندي ، ٢ / ٤٢ ، ٤٣.

(٢) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٤٣.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٢ / ١٨٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٢.

(٤) وهذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٢ / ١٨٩.

(٥) لعل المصنف اختصره من الكشاف ، ٢ / ١٨٩.

(٦) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٤٣.

(٧) نقله عن الكشاف ، ٢ / ١٨٩.

(٨) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٣.

(٩) وهذا مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٣٤.

(١٠) انظر الكشاف ، ٢ / ١٨٩.

(١١) انظر الكشاف ، ٢ / ١٨٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٤.

١٣٤

ساكن الوسط ، منصرف وبغير التنوين (١) لكونه غير منصرف عند البعض ، جعله اسما اعجميا ، فلم ينصرف للعجمة والتعريف أو هو عربي حذف تنوينه لالتقاء الساكنين ، التنوين والباء من (ابْنُ) وهو مبتدأ ، خبره (ابْنُ) ، ويجوز أن يجعل (ابْنُ) صفته والخبر محذوف ، أي عزير الذي هو ابن الله معبودنا (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) أي عيسى ولده أو المسيح (٢) الذي هو ابن الله معبودنا ، نزل بيانا لإفراط كفر الفريقين من أهل الكتاب وتعديهما بنسبة الولد إليه تعالى عنه علوا كبيرا.

قيل : سبب قول اليهود إن عزيرا ابن الله ، أنهم لما قتلوا الأنبياء جاء بختنصر وخرب بيت المقدس وأحرق التورية ، فخزنوا على فوات التورية ، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبرائيل ، فقال له : إلى أين تذهب؟ قال : أطلب العلم فحفظه التورية ، فجاء إلى اليهود فأملى عليهم عزير عن ظهر القلب ، فتعلموها ، فقالوا ما جمع الله التورية في صدره وهو غلام إلا أنه ابن الله (٣).

وسبب قول النصارى إن المسيح ابن الله ، أنهم لما رأوه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى باذن الله قالوا : لم يكن يفعل هذا إلا وهو ابن الله (٤).

فأفرط كل فريق في حب صاحبه فقالوا فيه ما قالوا حتى كفروا بربهم ، ولما لم يكن لقولهم هذا برهان ولا تأثير في القلوب قال تعالى (ذلِكَ) أي تكلمهم بنسبة الولد إليه تعالى (قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي مقولهم بألسنتهم فحسب لا معنى له يؤثر في القلب ، فهو لفظ مهمل من الألفاظ المهملة ، ليس تحته معنى صحيح يقبله العقل بالبرهان (يُضاهِؤُنَ) بكسر الهاء وضم الهمزة ، وبضم الهاء من غير همز (٥) ، من ضاهأت وضاهيت بمعنى شابهت ، أي يشابه قولهم ويوافق بتقدير القول (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) يعني يشابه قول اليهود والنصارى الذي في زمانك في كفرهم قول المشركين الذين كانوا قبلك الملائكة بنات الله يشير به إلى أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث ، ثم دعا عليهم فقال (قاتَلَهُمُ) أي لعنهم (اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [٣٠] أي كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان وهو توحيد الله.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١))

(اتَّخَذُوا) أي اتخذ أهل الكتابين (أَحْبارَهُمْ) أي علماءهم من اليهود (وَرُهْبانَهُمْ) أي أصحاب الصوامع

__________________

(١) «عزير» : قرأ عاصم والكسائي ويعقوب بتنوين «عزير» وكسره حال الوصل ، ولا يجوز ضمه للكسائي علي مذهبه ، والباقون بضم الراء وحذف التنوين. البدور الزاهرة ، ١٣٥.

(٢) المسيح ، ب م : ـ س.

(٣) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٢ / ١٨٩ ـ ١٩٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٥. المشهور أن عزيرا نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وإنه كان فيما بين داود وسليمان وبين زكريا ويحيى ، وإنه لما لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التورية ألهمه الله حفظها فسردها على بني إسرائيل كما قال وهب بن منبه أمر الله ملكا فنزل بمغرفة من نور فقذفها في عزير فنسخ التورية حرفا بحرف حتى فرغ منها. وروى ابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عبد الله بن سلام عن قول الله تعالى «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ» فذكر له ابن سلام ما كان من كتبه لبني إسرائيل التورية من حفظه وقول بني رسرائيل لم يستطع موسى أن يأتينا بالتورية إلا في كتاب وإن عزيرا قد جاءنا بها من غير كتاب فرماه طوائف منهم وقالوا عزير ابن الله. ولهذا يقول كثير من العلماء أن تواتر التورية انقطع في زمن العزير. وهذا متجه جدا إذا كان العزير غير نبي كما قاله عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وفيما رواه إسحاق بن بشر عن مقاتل بن سليمان عن عطاء وعن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه ومقاتل عن عطاء بن أبي رباح قال كان في الفترة تسعة أشياء : بختنصر وجنة صنعاء سبا وأصحاب الأخدود وأمر حاصورا وأصحاب الكهف وأصحاب الفيل ومدينة أنطاكية وأمر تبع. وقال اسحاق بن بشر : أنبأنا سعيد عن قتادة عن الحسن قال كان أمر عزير وبختنصر في الفترة.» انظر البداية والنهاية لابن كثير ، ٢ / ٤٢.

(٤) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٤٥.

(٥) «يضاهئون» : قرأ عاصم بكسر الهاء وهمزة مضمومة بعدها ، والباقون بضم الهاء وحذف الهمزة. البدور الزاهرة ، ١٣٥.

١٣٥

المتعبدين من النصارى (أَرْباباً) أي كالأرباب الذين يتبعهم المربوبون (مِنْ دُونِ اللهِ) لطاعتهم إياهم في معصية الله وتحريم ما حرموه وتحليل ما حللوه دون الله تعالى ، قوله (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) بالنصب عطف على (أَحْبارَهُمْ) ، أي اتخذوه ربا من دون الله (وَما أُمِرُوا) أي والحال أنهم لم يؤمروا في جميع الكتب أو لم يأمرهم عيسى (إِلَّا لِيَعْبُدُوا) أي ليوحدوا (إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود غيره ، فينبغي لهم أن يعبدوه دون غيره ، ثم نزه نفسه بقوله (سُبْحانَهُ) عن ما (يُشْرِكُونَ) [٣١] أي هو منزه عن شركهم.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢))

(يُرِيدُونَ) أي أهل الكتابين (أَنْ يُطْفِؤُا) أي يبطلوا ويغيروا (نُورَ اللهِ) أي القرآن أو دينه (بِأَفْواهِهِمْ) أي بألسنتهم تكذيبا وإشراكا (وَيَأْبَى اللهُ) فيه معنى النفي ، ولذا جاز الاستثناء بعده ، أي ولم يرد (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) أي أن يظهر القرآن والعمل به أو يتم نعمة الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [٣٢] إظهاره وإتمامه.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أي بالقرآن وما فيه من التوحيد والأحكام (وَدِينِ الْحَقِّ) أي الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) أي دين الحق ، وهو دين محمد عليه‌السلام بالبرهان (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي على جميع الأديان أو بنصره محمدا وأصحابه وقهر أعدائه وقذف الرعب في قلوب الكفار أو يظهره بعد نزول عيسى ، فلا يبقى أمة إلا دخلت في دين الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [٣٣] إظهار دين الإسلام على جميع الأديان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) أي علماء اليهود (وَالرُّهْبانِ) أي زهاد النصارى (لَيَأْكُلُونَ) أي ليأخذون (أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بغير حق ، قيل : إنهم كانوا يأخذون الرشى في الحكم والمسامحة في الشرائع (١)(وَيَصُدُّونَ) أي يصرفون الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دينه ، نزل بيانا لحالهم للمسلمين لكي يمتنعوا عن مثل صنيعهم (٢) ، قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) مبتدأ ، أي يجتمعون ويدخرون (الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) وخصا بالذكر لفضلهما على سائر الأموال من حيث إنهما أصل التمول وأثمان الأشياء ، ولأن ذكرهما للكنز دليل على ثبوت ما سواهما عند الكانز غالبا (وَلا يُنْفِقُونَها) أي الكنوز أو الأموال صرفا للفظ إلى المعنى أو التقدير : لا ينفقون الفضة والذهب فيكون من قبيل الاكتفاء ، يعني لا يؤدون حقها (فِي سَبِيلِ اللهِ) والخبر (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [٣٤] قيل : «كل مال تؤدي زكوته فليس بكنز وإن كان في بطن الأرض ، وكل مال لا تؤدي زكوته فهو كنز وإن كان على وجه الأرض» (٣) ، وأصل الكنز الجمع وجعل الشيء بعضه فوق بعض ، وكان الواجب في ابتداء الإسلام إخراج الفضل على قدر الحاجة منه ، ثم نسخ بآية الزكوة (٤) ، قيل : يحتمل أن يكون هذا نعت الأحبار والرهبان ليدل على اجتماع الوصفين المذمومين فيهم أخذ الرشوة وكنز المال من غير إخراج حق الله في سبيله وأن يكون المراد به المسلمين الذي لا يؤتون الزكوة ، فقرنهم مع المرتشين من اليهود والنصارى في الذكر تغليظا لحالهم ودلالة على أنهم من الفريقين في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم (٥).

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٩١.

(٢) لعل المفسر اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٦.

(٣) عن ابن عمر ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٧ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤١.

(٤) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٤٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٩١.

(٥) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٢ / ١٩١.

١٣٦

قوله (يَوْمَ يُحْمى) نصب بفعل مقدر ، أي اذكر يوم يوقد النار (عَلَيْها) أي على الأموال ، يشير به إلى أن الإحماء للنار ، حذفت النار وأقيمت كلمة «عليها» مقامها للفاعلية ، وهذا من قبيل رفع إلى الأمير مكان رفعت القصة إلى الأمير بحذف القصة ، وإسناد الفعل إلى الجار والمجرور فلذا ذكر الفعل بطرح التاء منه ، المعنى : أن النار تحمي على الأموال (فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى) أي تحرق كيا (بِها) أي بالأموال (جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) أي ظهور كانزيها وخصت الجباه والجنوب والظهور بالذكر ، لأن صاحب المال لما قبض وجهه وجبهته إذا رأى الفقير أو المسكين وولاه ظهره وأعرض عنه بجنبه ، ويقال لهم (هذا ما) أي الذي (١)(كَنَزْتُمْ) أي جمعتم (لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [٣٥] أي عذابه.

قال ابن مسعود : «والذي لا إله غيره لا يوضع درهم على درهم في عذاب رجل بكنز ولا دينار على دينار ، بل يوسع جلده حتى يوضع كل درهم على حدة وكل دينار على حدة» (٢).

روي : أن رجلا مات من أهل الصفة فوجد دينار في مؤتزره ، فقال عليه‌السلام : كية ، ومات آخر فوجد ديناران في مؤتزره ، فقال عليه‌السلام : كيتان (٣) ، وحمل هذا على الوقت الذي كان الواجب عليه أن ينفق الفضل قبل أن يفرض الزكوة.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦))

قوله (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) نزل لبيان عدد الشهور التي وجبت الزكوة فيها على المسلمين وليقع صيامهم وحجهم وعيدهم على هذا العدد (٤) ، يعني بالأهلة على منازل القمر مرة في الشتاء ومرة في الصيف لا على حساب دوران الشمس ، وقيل : كانت العرب تنسئ الشهور فربما وقع الحج في رمضان والقتال في الشهر الحرام أو ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر وأربعة عشر شهرا ليتسع لهم الوقت (٥) ، فقال تعالى إن عدة الشهور المعتد بها للسنة بلا زيادة ولا نقصان اثنا عشر شهرا (فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح المحفوظ أو في حكم الله ، وهو في محل الرفع صفة ل (اثْنا عَشَرَ) ، قوله (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يتعلق ب (كِتابِ اللهِ) ، يعني كتبها عليكم يوم خلقهما ولذلك قال عليه‌السلام في حج الوداع : «إلا أن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا» (٦)(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب ، وسميت بالحرم لتحريم القتال فيها ، فعادت الشهور إلى أول وضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسئ ، أي التأخير (ذلِكَ) أي تحريم الأشهر الحرم (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي المستقيم ، وهو دين إبراهيم عليه‌السلام فكانت العرب على ذلك الدين إلى أن غيره قبيلة كنانة بالنسيء ، ثم قال تعظيما لأمر الأشهر الحرم (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ) أي في الأشهر الحرم بجعلها حلالا (أَنْفُسَكُمْ) لأن القتال فيها أعظم وزرا ، ثم نسخ وصار مباحا بقوله (٧)(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي جميعا في الشهر الحرام وغيره ، وهو مصدر ، نصبه حال عن الفاعل أو المفعول ، أي مجتمعين في جميع الشهور (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) في جميع الشهور ، وقيل : غير منسوخ (٨) ، ومعناه أن الغزو حرام فيها إلا أن يبدؤا بالقتال فيها وإلا فلا يجوز ، والأصح النسخ لما ثبت أن النبي عليه‌السلام قد حاصر الطائف في الشهر الحرام وافتتحها بعد مضيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [٣٦] أي المطيعين الخائفين منه بالنصرة.

__________________

(١) أي الذي ، م : ـ ب س.

(٢) انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٧ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) أخرج أحمد بن حنبل نحوه ، ١ / ١٣٧ ، ١٣٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٧ ؛ والبغوي ، ٤٢٣.

(٤) لعل المؤلف اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٧ ـ ٤٨.

(٥) نقله عن الكشاف ، ٢ / ١٩٣.

(٦) أخرجه البخاري ، بدء الخلق ، ٢ ، والمغازي ، ٧٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٩٢.

(٧) عن قتادة وعطاء الخرساني والزهري وسفيان الثوري ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٥.

(٨) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٤٥.

١٣٧

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

(إِنَّمَا النَّسِيءُ) بالياء المشددة ، وأصله فعيل ، من النسأ ، وهو التأخير ، قلبت الهمزة ياء وأدغمت في الياء ، وبالمد والهمز وإسكان الياء على الأصل (١) ، أي تأخير الشهر المحرم إلى شهر آخر (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) لأن معصية الكافر تزيده كفرا.

وكان رجل كناني من العرب مطاعا في الجاهلية ، وهو وأهله (٢) كانوا أصحاب حروب وغارات ، فشق عليهم ترك المحاربة إذا جاء الشهر الحرام ، فيحلون الشهر المحرم من الأشهر الأربعة ويحرمون مكانه شهرا آخر ، فاذا أرادوا أن يغيروا قام الكناني فخطب الناس يوم منى ، وقال : إني قد أحللت لكم المحرم وحرمت صفر مكانه ، فقاتل الناس في المحرم ، وقال في العام الثاني قد أحللت صفر وحرمت المحرم (٣) ، فقال تعالى (يُضَلُّ بِهِ) معلوما ، من أضل ، أي يضل بالنسئ ، والفاعل (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الكافرون الناس الذين اتبعوهم ، ومجهولا (٤) ، أي عملهم يضلهم (يُحِلُّونَهُ) أي النسئ (عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ) أي النسئ (عاماً) المعنى : أنهم لم يحلوا شهرا للقتال من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه من الحلال (لِيُواطِؤُا) أي ليوافقوا (عِدَّةَ) أي عدد (ما حَرَّمَ اللهُ) من الأشهر الحرم ، وهي الأربعة (فَيُحِلُّوا) القتال في الأشهر الحرم بتحليلهم (ما حَرَّمَ اللهُ) فيها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين (زُيِّنَ لَهُمْ) مجهولا (سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي قبحها بتزيين الشيطان (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [٣٧] أي لا يرشدهم بلطفه إلى دين الحق مجازاة لإعراضهم عن الحق وكفرهم به.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا) أي اخرجوا (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في جهاده ، والعامل في (إِذا) معنى الفعل في (ما لَكُمْ) ، ما تصنعون إذا قيل لكم أو ما دل عليه (اثَّاقَلْتُمْ) أي تثاقلتم بمعنى قعدتم ولم تخرجوا وملتم (إِلَى الْأَرْضِ) أي إلى الدنيا وشهواتها وتركتم الجهاد ، نزل حين أمر النبي عليه‌السلام الخروج إلى غزوة تبوك ، وكان في أيام الصيف وشدة حر وعسرة المسلمين وكثرة العدو ، وكانوا يتثاقلون عن الخروج فعاتبهم الله (٥) ، وقال ما تصنعون إذا قيل لكم اخرجوا في الجهاد تباطأتم (أَرَضِيتُمْ) باستفهام التوبيخ (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ولذاتها (مِنَ الْآخِرَةِ) أي بدل الآخرة ونعيمها ، ثم قال لبيان عدم نسبة بين الدنيا والآخرة (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي منفعتها (فِي الْآخِرَةِ) أي بجنب منفعتها (إِلَّا قَلِيلٌ) [٣٨] أي متاع يسير عن متاع أولياء الله في الجنة.

(إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

ثم قال مهددا لهم (إِلَّا تَنْفِرُوا) أي إن لم تخرجوا إلى الغزو بعد الأمر (يُعَذِّبْكُمْ) الله (٦)(عَذاباً أَلِيماً) بحبس المطر عنكم في الدنيا وبالنار في الآخرة أو يهلككم (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) خيرا وأطوع له وللرسول منكم (وَلا تَضُرُّوهُ) أي الله أو رسوله بترك الجهاد (شَيْئاً) من ملكه بالنقص ، لأن الله وعده العصمة من الناس والنصرة

__________________

(١) «النسئ» : قرأ ورش وأبو جعفر بابدال الهمزة ياء وإدغام الياء قبلها فيها فيصير اللفظ بياء مشددة ، والباقون بالهمز والمد المتصل. البدور الزاهرة ، ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٢) وهو وأهله ، ب م : وهو من أهلهم ، س.

(٣) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٨ ـ ٤٩.

(٤) «يضل» قرأ حفص والأخوان وخلف بضم الياء وفتح الضاد ، وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد ، والباقون بفتح الياء وكسر الضاد. البدور الزاهرة ، ١٣٦.

(٥) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٤٩ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٦) الله ، ب س : الله في الآخرة ، م.

١٣٨

له ، ووعد الله كائن لا خلف فيه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٣٩] من إهلاككم والاستبدال بكم قوما غيركم.

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي إن لا تنصروا رسوله ولم تخرجوا معه إلى غزوة تبوك (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) أي فقد ينصره كما نصره ولم يكن معه إلا رجل واحد (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كفار مكة من مكة (ثانِيَ اثْنَيْنِ) بنصب الياء ، حال من مفعول «أخرج» ، أي حال كون الرسول أحد اثنين ، وهما النبي وأبو بكر ، يعني أن الله نصرهما ولم يكن معهما غيرهما (إِذْ هُما فِي الْغارِ) بدل من (إِذْ أَخْرَجَهُ) ، والغار ثقب في جبل ثور ، قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) أي لأبي بكر بدل ثان من (إِذْ أَخْرَجَهُ).

فبعد ما دخلا في الغار نسجت على فمها العنكبوت وباضت في أسفلها حمامتان ، وذلك حين قصد أهل مكة ليقتل النبي عليه‌السلام فهاجر من مكة إلى المدينة ، فجاء إلى بيت أبي بكر ، فقال : ما لك بأبي أنت وأمي؟ فقال : ما أرى قريشا إلا قاصدين بقتلي ، فقال أبو بكر : دمي دون دمك ونفسي دون نفسك ، فقال : اذن لي بالخروج ، فقال أبو بكر : إن عندي بعيرين ، فخذ أحدهما واركبه ، قال : لا آخذه إلا بالثمن ، فأخذه بالثمن ، وهي ناقته القصوى ، فركبا وأتيا إلى الغار بأسفل مكة ، وقيل : أتيا إليه بالمشي ، فمشى رسول الله ليلتئذ على أطراف أصابعه حتى حفيت ، فرأى ذلك أبو بكر ، فحمله على عاتقه وأتى به فم الغار فأنزله ، فدخله أبو بكر وفتشه فلم ير شيئا مكروها فحمله وأدخله ، وكان في الغار ثقب ، فيه حيات ، فخشي أبو بكر أن يخرج منه شيء يؤذي رسول الله ، فوضع قدمه على الثقب ، فجعلن يضربنه ويلسغنه وجعلت دموعه تنحدر على خده من ألمه ، فقال رسول الله لأبي بكر (١) : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) وقيل : جاء المشركون بقسيهم وعصيهم ، فأبصرهم أبو بكر وخاف على نفس رسول الله ، فقال : يا رسول الله إن تهلك يذهب هذا الدين ، فقال : ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا بالرعاية والحفظ (٢)(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي طمأنينته (عَلَيْهِ) أي على أبي بكر (وَأَيَّدَهُ) أي قوى النبي عليه‌السلام (بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أيها المؤمنون ، وهم الملائكة الذين صرفوا الكفار عن رؤيتهما في الغار وفي يوم بدر ويوم حنين ويوم الأحزاب ، فهو ناصره وعاصمه من الناس في كل مخوف (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهي دعوتهم الخلق إلى الكفر أو إرادة قتلهم النبي عليه‌السلام (السُّفْلى) أي المنخفضة المغلوبة (وَكَلِمَةُ اللهِ) بالرفع مبتدأ ، خبره (هِيَ الْعُلْيا) أي الغالبة ، وهي دعوته إلى الإيمان والإسلام أو شهادة أن لا إله إلا الله (وَاللهُ عَزِيزٌ) باطفاء كلمة المشركين وبالانتقام منهم (حَكِيمٌ) [٤٠] باعلاء كلمة الله ورفع ظلمة الشرك بنور التوحيد.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١))

ثم أكد أمر القتال بقوله (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) أي اخرجوا في سبيل الله صحاحا ومراضا أو شبانا وشيوخا أو ركبانا ومشاة أو خفافا من السلاح وثقالا منه أو فقراء وأغنياء ، يعني لا تهنوا عن الغزو (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في دينه وطاعته (ذلِكُمْ) أي الجهاد في سبيله (خَيْرٌ لَكُمْ) من تركه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [٤١] أي تصدقون بأن للخروج إليه ثوابا وللجلوس عنه عقابا ، قيل : نسخت هذه الآية بقوله (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ)(٣) الآية (٤) ، وقيل : لم ينسخ (٥) ، لأنه إذا وقع النفير عاما يكون فرضا عما ، وإذا لم يقع عاما فبخروج البعض سقط عن الباقين.

__________________

(١) اختصره المصنف من السمرقندي ، ٢ / ٥٠ ـ ٥١.

(٢) أخرج البخاري نحوه ، فضائل الأصحاب ، ٢ ؛ ومسلم ، الزهد ، ٧٥ ؛ وأحمد بن حنبل ، ١ / ٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٩٤.

(٣) التوبة (٩) ، ٩١.

(٤) عن السدي ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٥٢ ؛ وهبة الله بن سلامة ، ٥٢.

(٥) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٥٢.

١٣٩

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢))

ثم قال للنبي عليه‌السلام في شأن المنافقين (لَوْ كانَ) أي الذي (١) تدعوهم إليه لعلة الجهاد (عَرَضاً قَرِيباً) أي غنيمة سهل المنال ، والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا (وَسَفَراً قاصِداً) أي وسطا سهلا (لَاتَّبَعُوكَ) ولم يتخلفوا عنك (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) بضم الشين ، أي المسافة الشاقة التي يقصدونها في السفر (وَسَيَحْلِفُونَ) أي المتخلفون بالقعود عن الجهاد (بِاللهِ) يقولون (لَوِ اسْتَطَعْنا) أي لو قدرنا بسعة المال والزاد (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) وهو ساد مسد جواب القسم ، ولو (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي بحلفهم الكاذب ، حال من فاعل «سَيَحْلِفُونَ» (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [٤٢] في حلفهم ، لأن لهم سعة للخروج ، ولكنهم لم يريدوه.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣))

قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ) نزل حين استأذن بعض من المنافقين رسول الله أن يتخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك ولم يكن لهم عذر ، فأذن لهم به (٢) ، فقال تعالى مقدما العفو على العتاب (٣) تطييبا لقلبه عليه‌السلام محا الله عن ذنوبك أو أدام لك العفو يا سليم القلب (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بالتخلف هلا أخرتهم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) أي يظهر (لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في عذرهم وحلفهم (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) [٤٣] فيهما ، ف (حَتَّى) متعلق بالمحذوف وهو أخرتهم ، ولا يجوز تعلقه ب (أَذِنْتَ) ، لأنه يلزم أن يكون اذن لهم إلى غاية التبين والعلم وهو فاسد ، وإنما عاتبه مع اعتذارهم إليه عليه‌السلام ، لأنه كان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم فقصروا في ذلك وعجل بالقبول.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤))

ثم بين له علامة الصادقين منهم والكاذبين بقوله (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) في السر والعلانية في (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) لأجل (٤) التخلف عنك (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) [٤٤] أي بالمؤمنين المطيعين فيجازيهم بأجزل الثواب.

(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥))

(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) سرا دون العلانية (وَارْتابَتْ) أي شكت (قُلُوبُهُمْ) في إيمانهم (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ) أي في شكهم ونفاقهم (يَتَرَدَّدُونَ) [٤٥] أي يتحيرون ، يعني الاستئذان للتخلف عن الجهاد صنعة المنافقين وعادتهم.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦))

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) إلى الجهاد معك (لَأَعَدُّوا لَهُ) أي لهيئوا للجهاد (عُدَّةً) أي قوة من السلاح والزاد والكراع لأنفسهم ، فتركهم العدة دليل على إرادتهم التخلف المؤذن بالنفاق ، قوله (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) عطف على مقدر ، وهو ما خرجوا بارادتهم في الحقيقة ولكن كره الله خروجهم لسوء نيتهم وخبث نفوسهم (فَثَبَّطَهُمْ) أي كسلهم ومنعهم عن الخروج لكون خروجهم مفسدة (وَقِيلَ) أي قال لهم الشيطان بوسوسته أو القول إذن الرسول عليه‌السلام أو إلقاء الله في قلوبهم ذلك أو قال بعضهم لبعض (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [٤٦] أي النساء والمرضى (٥) والأطفال ، وهو ذم لهم وتعجيز عن عمل الرجال وإلحاق بالنساء والضعفاء أو للجبن (٦).

__________________

(١) أي الذي ، ب س : الذين ، م.

(٢) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٥٣.

(٣) العتاب ، ب م : العقاب ، س.

(٤) لأجل ، ب م : إلى أجل ، س.

(٥) المرضى ، ب س : المريض ، م.

(٦) أو للجبن ، م : للجبن ، ب س.

١٤٠